عصفور التجريب والتنوير .. هل مات عصفور مصر؟ وهل أمثال جابرها يموتون؟
إن الأفكار لا تموت، وأصحاب المبادئ لا تأكل أجسادَهم الأرض، والدكتور "جابر عصفور" (٢٥مارس ١٩٤٤-٣١ ديسمبر٢٠٢١) من هؤلاء، جاهد في سبيل الحرية والتجريب وإعمال العقل والدولة المدنية، وكان جهاده طاقة جبارة جعلته خالدًا أبد الدهر، ولقد أعد لهذا اليوم رجاحة عقل، وقوة حجة، ونفاذ بصيرة، وإيمان مطلق بقيمة الإنسان وعظمة مبادئه وسمو رسالته، تلك الرسالة التي خلق الله الإنسان من أجلها "إعمار الأرض وإصلاحها مستخدمًا عقله الذي كرمه الله به على سائر خلقه".
إنني لا أزال أرى الدكتور جابر عصفور واقفًا بشموخه المعهود، منتصب القامة رغم سنوات عمره السبعة والسبعين، مرفوع الهامة بالعلم، تسمو أفكاره برأسه، ويملأ صدره نسيم الحرية، يضع يديه في جيبيِّ معطفه الأثير والشهير، وحول رقبته الكوفية التي تعود وضعها في مثل هذه الأيام الباردة، أرى شبهًا بينه وبين زعيم الأمة سعد زغلول، أو طلعت باشا حرب، ولا ريب فهو زعيم دولة الفكر والحداثة والتنوير منذ ما يقرب من ثلاثين عامًا، حارب فيها الدولة الدينية، وإعلامها الذي يروج لها داخليًا وخارجيًا، مصورًا كذبًا أنها الدولة التي يمكن أن تملأ الأرض عدلًا بعد جور، وتجعلها فردوسًا، وأن إسلام البترول هو الدين الصحيح، وشيوخ الوهابية والسلفية ودراويش التراث هم رجال المعرفة والعالمين ببواطن الأمور، وأنهم وحدهم يملكون الحقيقة بلا منازع، والذين ينازعونهم في دولتهم كفار، سيعذبهم الله بذنوبهم في نار جهنم.
كان عصفور مصر، يدعو إلي التجريب وحرية الاختلاف، وينادي بإعمال العقل، ويدافع عن حرية التفكير، فناصبه عُباد التراث وحاملي لواء التقليد والاتباع العداء وأعلنوا الحرب عليه، ثم فرحوا حين ترجل، وخرج من هذه الدنيا إلى الحياة الخالدة، وكم أعلن هؤلاء الحفظة عداوتَهم لكل جديد، وبُغضَهم لكل داعٍ إلى التفكير واستخدام العقل، ونعتوه مبتدعًا، ثم قالوا: "إن كل صاحب بدعة في النار، ومَن أحبه أحبط الله عمله، وأخرج نور الإسلام من قلبه" وصاحب البدعة عند حراس النقل والتقليد له تفسير فضفاض، وخيمة جبارة، ترمي بظلها الكثيف على كل صاحب فكر، وكل مجدد وداعٍ إلى نظام اجتماعي أو اقتصادي، بالإضافة إلى السياسة والدين اللذين عقدا بينهما عقد نكاح لا طلاق فيه، لأنه أبغض الحلال عند الله! وهو عقد منفعة، يستأثر لأصحابه بمتاع الدنيا ويعدهم بنعيم الآخرة.
لقد أصبحت البدعة - الضلالة – سمة كل مَن يريد أن يفكر، ولأن عصفور مصر خلقه الله مفكرًا ومجددًا وداعمًا للدولة المدنية، فقد كان أعداؤه كثر، ولأنه تلميذٌ نجيبٌ لروادِ عصر النهضة، والداعين الي الدولة المدنية أمثال رفاعة الطهطاوي (١٥أكتوبر١٨٠١-٢٧مايو١٨٧٣) وجمال الدين الأفغاني (١٨٣٨-٩مارس ١٨٩٧) والإمام محمد عبده (١٨٤٩-١١يوليو١٩٠٥) وعبد الرحمن الكواكبي (١٨٥٥-١٥يونيو ١٩٠٢) وطه حسين (١٩٨٩-٢٨أكتوبر١٩٧٣) فقد عاش عمره مناديًا بحق الإنسان في الاجتهاد والتجريب، والسؤال والشك، والبحث والمغامرة، وحرية المرأة أمام سطوة الرجل، داخل دولته الأحادية، وحق المواطنة، والعقد الاجتماعي الذي يساوي بين المصريين جميعًا في زمن صار المثقف التنويري الحداثي الليبرالي كافرًا، وهدفًا لسهام التكفير ورصاص الميليشيات التي تقدس التقليد والاقتباس، وتردد كالببغاوات، سعيًا وراء تحقيق حلم دولة الخلافة، أحادية الرأي والرؤية، أحادية التفكر والفهم والتطبيق.
يقول الدكتور جابر عصفور في مقدمة كتابه "هوامش على دفتر التنوير": "إن التفكير نفسه ليس نهاية، وأن التذكير به والدفاع عنه مجرد بداية تتحرك صوب أفق لا ينتهي له حد." (المجلس الأعلى للثقافة - ٢٠١٣).
إن موقف الدكتور عصفور من التجريب - قضيته الأولى- وإعمال العقل ثابت ومعلوم، ووقوفه إلى جانب الدولة المدنية، أمر لا يحتاج إلى إثبات أو برهان، فكل شأنه، قولا كان أو فعلًا، وكذا مقالاته ولقاءاته، جميع ذلك يصب في صالح الدولة المدنية، والدعوة إليها، وطالما أشار الدكتور جابر إلى كتابين عظيمين، الأول "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ علي عبد الرازق (١٨٨٨-٢٣ سبتمبر١٩٦٦)، صدر في الأول من إبريل ١٩٢٥، وكتاب "مستقبل الثقافة في مصر" للدكتور طه حسين، وصدر في ٣١ يوليو ١٩٣٨، وقد اتفق مع الأول في نتائجه التي خَلُصَ إليها، وهي أهمية التجريب وإعمال العقل، وأن مفهوم الحكم المدني يعتمد أساسًا على التجريب، الذي هو دافع للعقل لتأسيس قواعد التمدين بوجه عام، وعلاقات المجتمع المدني بوجه خاص.
يقول الدكتور عصفور: "إن كتاب الإسلام وأصول الحكم قد بدد حلم هؤلاء الذين يريدون تبرير الأوتوقراطية بالثيوقراطية."
والتجريب عند الدكتور جابر عصفور: (هو الخروج عن الإطار السائد المتعارف عليه من قبل، والذي سلم به الجميع وآمنوا به واتبعوه وقلدوه، وأن نبحث عن صيغ جديدة تناسب الإنسان الجديد وزمانه).
إن المعنى الإجمالي للتجريب عنده لا يختلف عن معنى الخروج على الإجماع -البدعة بمفهومها الشامل- التي لا تجعل من شيوع الفكرة سبيلًا إلى قبولها، أو اتباع ما يقوله عامة علماء المسلمين وتصديقهم، والنقل عنهم حرفيًا، دون الشك بوصفه سبيل إلى اليقين، ودون التجربة للوصول إلى نتائج مقبولة وسليمة تساير العقل وترضي الفكر. ويقول أيضًا: "إن تطور الدولة المدنية، وتطور كل شيء في المجتمع المدني، لا يتم إلا بتشجيع العقول على الاجتهاد والتحرر من التقليد، وأول خطوة تجاه ذلك هي أن نتعلم معنى "التجريب" وقيمته متعددة الأبعاد، فالتجريب لازمة من لوازم الممارسة الحياتية والمعرفية برمتها للأفراد في الدولة المدنية، تأكيدًا لمبدأ حق الاختلاف الذي هو أساس العقد الاجتماعي الذي يربط الأفراد بالدولة".
ولأن عصفور مصر، أحد فرسان التنوير في مصر، وهو العاشق للحرية، فإنه يؤمن بها إيمانًا راسخًا، ويثق في أنه لا تقدم دون حرية، ولا نهضة من غير ديمقراطية، ولا معنى لتقدم أو نهضة في غيبة الدولة المدنية، أو غياب المجتمع المدني، لأن التقدم نتيجة حرية الإبداع، والنهضة تتحقق بإطلاق سراح الطاقات الخلاقة، وإفساح السبيل أمام أقصى درجات الحوار، التي تعني أقصى درجات الاجتهاد، التي تنطوي على الاختلاف واحترام الحق فيه كمبدأ. وأن الاهتمام بأهمية التجريب في كل الأحوال مرتبط بمبدأ أساسي من مبادئ الدولة المدنية وهو "التسامح".
عاش "عصفور مصر الحر" مهتمًا بالتجريب، معنيًا بإعمال العقل، متأملًا حركة التاريخ في وطنه، راصدًا منحنى التنوير، دارسًا أسباب صعوده وهبوطه، ونراه يشير في مقال له بعنوان "محنة التنوير" في مجلة إبداع عدد يونيه ١٩٩٢ فيقول: " المؤكد أن أجيال التنوير المتلاحقة قد تَوَاصَل جُهدها ولم يتوقف عطاؤها، منذ بداية النهضة إلى نهاية الأربعينيات من القرن الماضي، صحيح أن حركة التنوير كانت تتأثر بحركة المجتمع السياسي، في تقلبها بين "طبائع الاستبداد" ولكنها كانت تستغل الفترات القليلة والقصيرة التي تولت فيها الوزارات الدستورية الحكم والانفراجة الليبرالية المصاحبة لهذه الفترات، في تأسيس قواعدها وتأصيل مبادئها وإشاعة أفكارها، بواسطة مؤسسات التعليم وأدوات الاتصال المتاحة، وأجهزة الثقافة الموازية. وصحيح أن مد هذه الحركة قد اصطدم بأزمة كتابَيْ علي عبدالرازق وطه حسين في العشرينيات، وبالمؤسسة الدينية الرسمية التي فرضت سلطة رقابة، والمجموعات الدينية المعادية للتنوير التي أصبحت جماعة الإخوان طليعة لها منذ انتقالها إلى القاهرة عام ١٩٣٢، كما اصطدم هذا المد بما أشاعته دكتاتورية الحكومات الانقلابية للأقلية السياسية (وزارات: زيور و"حزب الاتحاد"، محمد محمود و"اليد الحديدية"، وإبراهيم عبد الهادي، وصدقي و"حزب الشعب") من حجر على الحريات، وتعطيل الدستور، وتزييف للانتخابات، وفصل موظفي الدولة بسبب آرائهم الفكرية، وانتماءاتهم السياسية...
وفُصِل علي عبدالرازق من القضاء (أيام دكتاتورية زيور) وطه حسين من الجامعة (أيام دكتاتورية صدقي)، فتأسست تقاليد التدخل في سلطة القضاء، ومؤسسات البحث العلمي، وكان فصل أستاذ جامعي واحد (في عهد صدقي) بذرة لفصل ما يربو على مئة أستاذ جامعي (ما بين أزمة الديمقراطية الأولى في خمسينيات عبد الناصر، وأزمتها الأخيرة في مطلع ثمانينيات السادات). وكان فصل قاضٍ واحد مقدمة لمذبحة القضاء (أيام عبد الناصر).. ومع ذلك فإن حركة التنوير ظلت مستمرة، وظل اندفاعها متصلًا، ولم يتوقف بحثها عن أدوات جديدة، وارتياد آفاق واعدة، وقبل الثلاثينيات وجد علي عبد الرازق وطه حسين مَنْ يدافع عنهما، وتكاتفت طلائع التنوير كلها لحماية حق المفكر في التعبير عن أفكاره.
إن المستقبل عند الدكتور جابر مرهون بـ "التجريب" و"إعمال العقل" وأن العقل والتجريب لا النقل والاتِّباع هما أساس المعرفة التي تُبنى عليها أصول كل شيء في الدولة المدنية المتقدمة، وما هذا إلا مبدأ آمنَ به وعَملَ من أجل تحقيقه، ولهذا كان دائم الإشادة بكتاب "مستقبل الثقافة في مصر" وسلط الضوء عليه وتناوله بالتحليل والدراسة في كثير من مقالاته وكتبه. ولقد عزا السبب الرئيس في كوننا نعيد إنتاج التراث، ونغرق فيه ونقتات عليه ليل نهار إلى فقدان القدرة النقدية والوعي الضدي على السواء -أي فقدان ثقافة الاختلاف والقدرة على التجريب- فيقول: " ليست أسلحة الإرهاب تكمن في الرصاص أو السيف والخنجر، فثم الكلمة، والكلمات التي تحشد دلالات العنف وتُشيع الرعب، فتولد ثقافة الإذعان والاستسلام، ولغة القمع التي بها تسود مفردات الاتهام بدل مفردات السؤال، وأساليب الجزم بدل أساليب الشك التي تصل بنا إلى اليقين، وعبارات إدعاء المعرفة بدل عبارات الرغبة في التعرف، وصيغ الأمر بدل صيغ الفهم"!
إن مستقبل الثقافة في مصر من وجهة نظر الدكتور جابر عصفور، يعتمد على خلق نظام ثقافي جديد، لا يمكن أن يتحقق إلا بأقصى درجة من المصارحة، وأرفع درجة من الاجتهاد، وأعلى درجة من التحرير، وإذا كانت المصارحة هي بنبذ المجاملات، والاجتهاد هو الانطلاق بالفكر إلى أفق لا يحده قيد من قمع أو إغواء، فإن التحرر لا تتحقق شروطه إلا بالتوقف عن قياس المستقبل على أساس الماضي، ومن ثم تحطيم سطوة الاتباع في تأسيس وعي تاريخي بالمستقبل.
ولن يتحقق ذلك كله إلا إذا حافظنا على مؤسسات المجتمع المدني، وانطلقنا من داخل إطار الدولة المدنية، ليس بوصفها نظامًا سياسيًا مطلقًا، وإنما بوصفها نظامًا منفتحا، يقوم على الحوار والتفاعل والتحول والتجدد، واحترام حق الآخر في الاختلاف، وتأكيد حرية الاعتقاد.
نشر في "مجلة الهلال" عدد فبراير 2022