رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


جابر عصفور بين متعة النقد ومسؤولية التنوير

11-2-2022 | 20:32


علي عطا

علي عطا

كان أهم ما يميز الدكتور جابر عصفور - رحمه الله - من وجهة نظري، هو دأبه الدائم على مطالعة الجديد من الأعمال الإبداعية المصرية والعربية والكتابة عنها، فضلا بالطبع عن دأبه في التأصيل لقيم التنوير والحداثة ومجابهة الأفكار المتطرفة والجماعات المنتجة لها، فكان أن أصدر على مدى نحو نصف قرن ما يزيد على خمسين كتابا سار فيها على نهج أبيه الروحي عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، فكان خير خلف لخير سلف. 
وعن نفسي فقد أسعدني الحظ بأن اطلعت على بعض تلك الكتب، فضلا عن اطلاعي على العديد من الكتب التي تناولت مشروع الراحل العظيم وسيرته الأكاديمية والفكرية. وفي هذا الصدد لا ينبغي نسيان دوره المهم في النهوض بالمجلس الأعلى للثقافة وربطه بمحيطه العربي، على نحو غير مسبوق. وأيضا سعيه من أجل إنعاش المشروع القومي للترجمة، والذي تكلل بنجاحه في تأسيس المركز القومي للترجمة وإضفاء حيوية على نشاطه متأسيا بما سبق أن أنجزه رفاعة الطهطاوي في هذا المجال الذي كان يرى الدكتور عصفور أنه بمثابة قاطرة التقدم لمصر والعالم العربي بأسره.
كما أسعدني الحظ أن اقتربت من الدكتور جابر عصفور من خلال عملي لسنوات طويلة مسئولا عن مقالات كبار كتاب جريدة "الحياة" اللندنية من مكتبها في القاهرة. أما السعادة الشخصية الأهم فتمثلت في تكرمه بالكتابة عن روايتي الأولى "حافة الكوثر" في جريدة "الأهرام"، وبالتالي في كتابه "متعة القص" الذي صدر قبل نحو عام من رحيله عن الدار المصرية اللبنانية. 
وقد كتبت مقالا عن هذا الكتاب، وفوجئت بالدكتور جابر عصفور بكرمه وتواضعه المعهود يتصل بي ليشكرني على هذا المقال، برغم ما احتواه من ملاحظات لي تعلقت في المقام الأول بعنوانه. فقد كتبت أنه كان من الأنسب أن يختار جابر عصفور لأحدث كتبه عنوان "متعة النقد"، أو "متعة القراءة"؛ نظرا إلى أن مضمون مقدمته الضافية يصلح أن يكون نواة لدراسة وافية لصاحب كتاب "زمن الرواية" حول مصادر الشغف والمتعة، وحتى اللذة، في الإنتاج النقدي، وفي قراءة الأدب عموماً ومن ثم الكتابة عنه، باعتبارها إبداعاً موازياً.
ولكن الكتاب الذي أقصده صدر بعنوان "متعة القص" في 565 صفحة، ليضم مقالات سبق أن نشرها صاحب كتاب "المرايا المتجاورة" في صحف عدة خلال الخمسة والعشرين عاما الأخيرة. وفي المفتتح الذي يتألف من 35 صفحة، استوقفني قول الدكتور جابر عصفور عن استمتاعه بالنقد: "حين أمسك بالقلم لأبدأ ما أكتبه من نقد للنص أشعر بمتعة موازية، هي متعة أن توصل إلى قارئك بعض ما أمتعَك، فأنا من الذين لا يزالون يؤمنون أن النقد كتابة عن الكتابة، وبمعنى أدق كتابة موازية للكتابة".
وقد تضمن الكتاب بعد المفتتح، قسمين، الأول "مراجعات"، والثاني "قراءات"، وكلاهما يتطرق نقدياً إلى أربعين عملاً أدبياً، لكُتَّاب من أجيال مختلفة، منهم إبراهيم عبدالمجيد، وخيري شلبي، ومحمد المنسي قنديل، وعلوية صبح وجوخة الحارثي، والطيب صالح، وميسون صقر، وزكريا تامر، وطالب الرفاعي، وخليل صويلح، وعلاء الديب، وإدريس علي، ومحمد المخزنجي، وسعيد الكفراوي، ورضوى عاشور، وبشرى خلفان.
وقد بدأ القسم الأول من الكتاب بمقال عن كتاب "منسي... إنسان نادر الوجود على طريقته" (دار رياض الريس) للطيب صالح، وقد رأى جابر عصفور أنه لا يخلو من بعض الملامح التي ينطوي عليها العالم الروائي للطيب صالح، خصوصاً في "موسم الهجرة إلى الشمال". هو رواية - يقول عصفور- من حيث طرائق السرد وتقنياته، ومعهما عنصر التشويق الذي يدفع القارئ إلى المضي صوب النهاية، فضلاً عن عناصر السخرية والمفارقة والحس الفكاهي الذي لا ينقطع في العمل، فيذكرنا بكتابة الطيب صالح الروائية وأسلوبه اللغوي الفريد الذي يجمع ما بين ميراث الفصحى وطرائف العامية أو قفشاتها الأسلوبية. ويخلص إلى أن الكتاب ليس سيرة عن شخصية من أحب الشخصيات إلى الطيب صالح، صديقه، إنما هو سيرة ذاتية في الوقت نفسه، وبالقدر نفسه.. سيرة نقرأ فيها حياة الطيب صالح وذكرياته منذ عام 1953.
وبالعودة إلى "التمهيد"، استوقفني أيضا قول الدكتور جابر عصفور: "ما يقدمه هذا الكتاب هو قراءات في نصوص أعجبتني، فكتبتُ عنها نوعين من الكتابة: نوع أقرب إلى المراجعة السريعة التي فرضها عليَّ مكان النشر في جرائد مثل (الحياة) اللندنية، أو (البيان) و(الاتحاد) الإماراتيتين، فضلاً عن (الأهرام) القاهرية، وكلها كتابة تخضع -للأسف- لما تفرضه الجريدة على الكاتب من عدد محدود من الأسطر التي لا ينبغي أن تتجاوز رقماً بعينه من الكلمات".
ويظل الإلمام بمنجز الدكتور جابر عصفور، عصيا، سواء في ما يخص النقد الأدبي أو الفكر والترجمة والعمل الأكاديمي، أو العمل أمينا عاما للمجلس الأعلى للثقافة ودوره في استحداث جائزتي التفوق والنيل، ومضاعفة القيمة المادية لجوائز الدولة عموما، فضلا عما أنجزه خلال فترة وجيزة تولى فيها منصب وزير الثقافة، خصوصا في تطوير دورها في مجال النشر، وتحديث إصداراتها وفي مقدمتها جريدة "القاهرة"، ومجلة "إبداع".

نشر في "مجلة الهلال" عدد فبراير 2022