رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


سلاح الدعاية

23-2-2022 | 13:37


إيهاب فتحي

كانت هناك قرية حدودية بين ألمانيا وبولندا تسمى كلافيتز وبالتأكيد لن يتذكر أحد اسم هذه القرية الآن أو يستشعر أهميتها¡ لكن من هذه القرية النائية بدأت أحداث الحرب العالمية الثانية فى 1 سبتمبر 1939ومن داخل هذه القرية اكتمل تصنيع ماكينة سلاح الدعاية بنسخته المتطورة والحديثة والتى نشاهد إنتاجها الآن بكثافة فى الأزمة الأمريكية ــ الروسية حول أوكرانيا.

فى العام 1938 وقعت ألمانيا وأنجلترا معاهدة ميونيخ للسلام للحد من أطماع أدولف هتلر فى التوسع داخل أوروبا وتم التنازل للزعيم النازى عن بعض الأجزاء من القارة العجوز، وتغاضت انجلترا عن جرائمه وجرائم الرايخ فى حق الأقليات. 

تلقف وزير التنوير و الدعاية فى الحزب النازى الألمانى جوزيف جوبلز ـ  كان هذا لقبه الرسمى داخل حكومة الرايخ ــ هذه المعاهدة التى وقعها بسذاجة نيفيل تشامبلرين رئيس وزراء بريطانيا ، لم ينتظرطويلا انطلق وزير التنوير جوبلز فى استخدام فرصة المعاهدة لينفذ من خلالها تطبيقاته وابتكاراته الجديدة فى سلاح الدعاية.

حول التنويرى جوبلز ألمانيا النازية إلى واحة سلام وأن هدفها الأول والأخير السعى من أجل خير شعوب الأرض وبالأخص شعوب أوروبا مستخدما كل الوسائل الإعلامية المتاحة وقتها من صحافة وإذاعة وسينما وشعارات ومعارض فنية لتثبيت هذه الصورة المزيفة حول ألمانيا النازية أما الفوهرر هتلر فأصبح صانع السلام فى أوروبا والعالم. 

رسم وزير التنوير جوبلز صورة براقة ومخادعة للفوهرر صانع السلام للبشرية من خلال أسلوبه الدعائى الحديث وقتها، فالأفلام تعرض لقطات للزعيم وهو يحنو على الأطفال ويصافح النساء بود ويستمع العالم لمقولاته عبر الإذاعة التى تدعو إلى العمل الشريف والإخاء والمساواة. 

لم تكن الخطة التى وضعها وزير التنوير غرضها تحسين صورة ألمانيا والفوهرر أمام العالم بل كان لها أهداف مرحلية أولها خداع أوروبا وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا بأن خطر الحرب قد زال، وبالفعل لعقت أوروبا عسل السلام الزائف وآمنت بالفوهرر الطيب الذى يبحث عن تحقيق خير البشرية أما الغرض الرئيسى للخطة الجوبلزية الدعائية فهو إعطاء الوقت الكافى للآلة العسكرية الألمانية لكى تكتمل وتصبح جاهزة للانطلاق، وتحقق السيطرة على أوروبا ثم العالم وفى نفس الوقت عند لحظة وقوع الحرب لن يصدق هذا العالم المخدوع أن النازيين المسالمين هم من  أشعلوا فتيل الحرب. 

انتهت فترة السلام الزائف وبدأت الخطة تتطور إلى ما لايمكن تصديقه  بأن الآلة العسكرية الألمانية الجبارة التى بدأت تظهر ملامحها من خلال الحشود وترسانات الأسلحة التى لم يشهد لها العالم مثيلا وقتها تتعرض للاضطهاد ومن دولة صغيرة اسمها بولندا ولكن سحر سلاح الدعاية جعل الجميع يتعاطف مع النازيين. 

أطلق جوبلز ماكينة الدعاية النازية بكامل طاقتها لتصف المجازر التى يتعرض لها العرق الألمانى فى بولندا على يد المتطرفين البولنديين وكانت الصور والأخبار والقصص المفبركة جاهزة وأعدها رجاله الذين دربهم جيدًا على تصنيع هذا الخداع وكانت تصل إلى كل وسائل إعلام العالم بيسر وسهولة حتى البريطانية منها. 

لم تكتف ماكينة الدعاية النازية بحجة الاضطهاد بل وصلت فى زيفها إلى درجة أن بولندا تتحضر لغزو ألمانيا النازية المسالمة التى تبحث عن السلام¡ وهنا يقرر وزير التنوير والدعاية جوبلز استخدام فبركة من نوع آخر لكن فى هذه المرحلة من الخداع والفبركة يستعين بزميله فى الرايخ هاينريش هيملر قائد القوات الخاصة النازية والبوليس السرى أو ما يطلق عليها وحدات الـ " S S ". 

طلب وزير التنوير من هملر قائد الـ "SS" أن تقوم قواته بأعمال بسيطة تساعده فى إكمال خطته ووضع أمام زميله هملر عددðÇ من العمليات التى يريدها على القرى الحدودية بين ألمانيا وبولندا ولكن بشرط أن يرتدى رجاله من وحدات "S S" زى عسكرى بولندى وتوالت العمليات من العسكريين البولنديين المزيفين من حرق وتدمير منشآت ألمانية وبيوت القرويين الألمان والسكك الحديدية على الحدود. 

كانت ذروة العمليات المفبركة مهاجمة محطة إذاعية ألمانية فى قرية كلافيتز تبث الدعاية النازية داخل بولندا ولم يكتف العسكريون البولنديون المزيفون بمهاجمة محطة الإذاعة بل بثوا من خلالها رسالة إلى ألمانيا وزعيمها الفوهرر يتوعدوهم بغزو ألمانيا قريبًا. 

عندما نفذ هملر الجزء الخاص به كان وزير التنوير جوبلز على أهبة الاستعداد فقد دعا وفود الصحفيين من كل أنحاء العالم وكافة وسائل الإعلام المتاحة وقتها لتشاهد كيف تتعرض ألمانيا النازية المسالمة للغزو البولندى الممنهج.

انتشرت عشرات من الجثث لجنود بولنديين وألمان أمام محطة إذاعة كلافيتز والذين قتلوا نتيجة للهجوم البولندى والحقيقة هم كانوا سجناء سياسيين تم إحضارهم من المعتقلات النازية وتم تصفيتهم لإكمال عملية الفبركة هذا غير عشرات الأفلام والبرامج الإذاعية المزيفة التى صنعها رجال جوبلز المخلصين لتروى بشاعة ماتعانيه دولة الفوهرر على يد البولنديين المتوحشين. 

وقف العالم صامتًا مذهولا أمام الحقائق المزيفة التى صنعها سلاح الدعاية النازى بقيادة وزير تنويره جوبلز¡ وكان رجاء المجتمع الدولى أن لا تنساق ألمانيا النازية المحبة للسلام وراء الانتقام من الوحشية البولندية. 

فى صباح الأول من سبتمبر من العام 1939 اجتاحت الجيوش النازية حدود بولندا لتحتلها من أجل حماية ألمانيا النازية "المسالمة" من الغزو البولندى المرتقب وبعدها بساعات أعلنت بريطانيا وفرنسا الحرب على ألمانيا الهتلرية لأنها خرقت معاهدة ميونخ للسلام. 

طوال عامين من تاريخ الحرب العالمية الثانية تعرضت بريطانيا لهزائم منكرة على يد الفاشية النازية وتم احتلال فرنسا وكان الرأى العام الدولى وعلى رأسه الولايات المتحدة غير متعاطف مع بريطانيا وفرنسا الواقعة تحت الاحتلال حتى وإن قدموا لبريطانيا بعض المساعدات لأن سلاح الدعاية النازى الذى طوره وزير التنوير جوبلز أقنع المجتمع الدولى أن ألمانيا النازية "المسالمة" تدافع فقط عن نفسها ولم تغزُ أحدًا. 

تكشفت حقيقة الدعاية الجوبلزية عندما توحشت الفاشية النازية وتحالفت مع فاشيست العالم وغزت الاتحاد السوفيتى، وتتلقى الولايات المتحدة ضربة ساحقة فى بيرل هاربر على يد اليابان حليفة ألمانيا النازية وتظهر الحقيقة كاملة فى محاكمات نورمبرج التى عقدت عقب الحرب لرؤوس الفاشية الألمانية  فتروى الوثائق وشهادات القيادات النازية تفاصيل خطة الدعاية السوداء التى أشرف عليها وزير التنوير جوزيف جوبلز لتجد ألمانيا النازية مبرر لغزو بولندا وللحرب دون أن يلومها المجتمع الدولى وفى نفس الوقت تحقق أغراضها التوسعية. 

هل يعيد التاريخ نفسه؟، هو سؤال يتردد  كثيرًا وسبب طرحه المستمر أنه دائمًا يرتبط بالحاضر فعندما نشاهد على الساحة الدولية الأزمة الأمريكية الأوروبية من جهة والروسية من جهة أخرى ستجد هذه الإعادة مؤكدة مع اختلاف التفاصيل فى الأحداث مع وجود رابط زاد تطورًا ووحشية وهو سلاح الدعاية. 

تختلف التفاصيل من كلافيتز إلى دونباسك وترتفع  المعدلات التدميرية  للحرب على المجتمع الإنسانى نتيجة للتطور التكنولجى¡ لكن يبقى السلاح  الرئيسى الذى يفتح الباب لكل هذا الجنون وهو الدعاية، ففى حالة الأزمة الأوكرانية نحن نرى آلة الدعاية الأمريكية تعمل بكل طاقتها وبكل ما تملكه من وسائل ازدادت تطورًا بمراحل عن ما كان يملكه الألمان فى الحرب العالمية الثانية.

تصنع الآلة الدعائية الأمريكية غزوًا روسيًا مرتقبًا سيجتاح أوكرنيا ولا تكتفى بتفاصيل الغزو بل تحدد وسائل إعلامها ميعاد الغزو بالدقيقة والثانية وعندما يمر ميعاد الغزو دون وقوعه لا تتوقف آلة الدعاية عن صنع المزيد من الأوهام وتعطى ميعادًا جديدًا للغزو، وبنفس التكتيكات الدعائية يتم الحديث عن الفظائع التى تحدث على الحدود مع إشاعة أجواء الخوف عن طريق ترحيل أعضاء السلك الدبلوماسى والتنبيه على الجميع بعدم السفر لمناطق الغزو! 

أصحاب الغزو أنفسهم وهم الروس يقسمون بأنهم لن يغزون أحدا ولكن آلة الدعاية تسفه من تأكيدهم، لا تعمل آلة الدعاية الأمريكية من أجل الدعاية فقط ولكن هناك عشرات الأهداف يطول شرحها وتحققها حالة الرعب وسلاح الدعاية الذى  يصنعها للمصالح الأمريكية.

أبسط هذه الأهداف الحصار الذى تم فرضه على الروس وعزلهم عن أوروبا التى أصبحت الآن فى قبضة الولايات المتحدة بعد أن كانت تبنى مصالحها بشكل مطرد مع روسيا وخاصة ألمانيا بل أن سلاح الدعاية يستفز الروس حتى يحولوا الغزو الوهمى إلى غزو حقيقى حتى يتم عزل روسيا عن العالم وليس أوروبا فقط. 

هل استخدمت الولايات المتحدة سلاحها الدعائى الرهيب من قبل؟، ليست أكذوبة السلاح النووى والكيماوى الذى امتلكه صدام حسين ببعيد وأنه على وشك استخدامه لمحو الحضارة الإنسانية.

تختلف أغراض استخدام السلاح الدعائى الأمريكى من حالة إلى أخرى فمرة يكون مبررًا لغزو كما فى العراق أو يختلق غزوًا من الفراغ فى الحالة الروسية ولكن فى الحالتين يعمل سلاح الدعاية فى خدمة المصالح الأمريكية بأقل التكاليف وبكثير من الأكاذيب.