أتذكر بوضوح تلك الواقعة رغم حدوثها منذ أكثر من أربعين عاما.. كنت فى الأسابيع الأولى من وصولنا إلى باريس فى سبعينيات القرن الماضي، عندما فوجئت بسيدة فرنسية تطلب من الجزار شريحتى لحم.. لم أصدق أذنى، وقررت متابعة تلبية طلب السيدة، فإذ بى أجد الرجل يقطع، بالفعل، شريحتين من اللحم البتلو، ثم يزنهما، ويعطيهما للسيدة، بدون أى اندهاش من جانب زبائن المحل.
عندما حان دوري، سألت الرجل:هل تبيعون اللحوم بالشريحة، فقد تعودت فى بلدى على شراء اللحوم بالكيلو؟. .ابتسم البائع وقد أدرك أننى أجنبية وأجاب بهدوء: نعم، كل مشترٍ يأخذ فقط ما يحتاجه..استوقفتنى كلمة «ما يحتاجه»، وعقدت مقارنة نظرية بين موائدنا فى المناسبات وموائد الغربيين وكيف أننا وبعد انتهاء العزومة أو السبوع أو الفرح أو غيره، نرفع كميات كبيرة من الطعام الفائض والذى قد يفسد بعد أيام قليلة..والجدير بالإشارة هنا، أننى لم أصادف ولا مرة واحدة طوال إقامتي، ما يقرب من ثلاثين عاما، فى باريس، سيدة أو رجلا، يشترى اللحم بالكيلو، بل دائما وأبدا، بالشريحة، وقيسوا على ذلك كل السلع الأخري، فالبائع لا يندهش، ولا ينظر إليك بإشفاق، عندما تطلب، ثلاث ثمرات طماطم، أو نصف كيلو بطاطس، الخ الخ.. فالمستهلك يشترى ما يحتاجه بالفعل، فقط لا غير، وهو ما لا يحدث عندنا، وفى ذلك التفسير المنطقى للكميات الكبيرة من فائض الأغدية، بكافة أنواعها..وقد تذكرت هذا الموضوع بعد رفع سعر البنزين وشبه الثورة التى أعقبت القرار وهجوم اللجان إياها على الرئيس السيسي، وكأنه تسلم البلد وخزائنها مكتظة بالأموال وفائض العملات الصعبة، وفى ظل غياب شبه تام من الحكومة التى يقع عليها العبء الاساسى فى شرح أبعاد القرار ودوافعه والمردود المتوقع فى حال نجاحنا فى تجاوز هذه المرحلة الصعبة..أيضا هناك الإعلام الذى لم يتواصل مع الجماهير ويجيب على تساؤلات المستهلكين بأن يبين لهم أن نحو ٨٠٪ من دعم الطاقة يذهب إلى مصانع كبار الرأسماليين المصريين والأجانب ومن ثم إلى جيوبهم..وبالتالى فالدولة «تدعم!» هؤلاء الأغنياء بأضعاف دعمها لأصحاب السيارات أو ربات البيوت فى استهلاك أنابيب الغاز..وكان على الإعلام أن يوضح للناس أن خمسة جنيهات للتر البنزين، يعادل سُدس سعر اللتر فى فرنسا مثلا..وأننا نواصل حياتنا بطريقة عشوائية، ثم نحمل الحكومة مسؤولية سلوكنا، وكيف أنه من دواعى الخجل أننا نستورد أكثر من ٧٠٪ من احتياجاتنا من الخارج، بينما وصل تعدادنا إلى نحو مئة مليون مواطن.!!..نحتاج إلى ثورة ثقافية فى مواجهة مفاهيم التواكل والتدين الشكلي، نحتاج أن نرسخ فى الضمير الجمعى المصري، ما اجتهد الأعداء فى اقتلاعه، بأن من لا يملك قوت يومه، لا يملك حرية قراره. وأنه لا يُعقل أن نتخلى عن ثقافة الإنتاج بدعوى أن «الرزق مكتوب» لأن الرد على ذلك فى كتاب الله، القرآن الكريم «وقل اعملوا، فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون».. إن العمل فريضة وواجب وداعى فخر حقيقي، وأن تنظيم النسل أمر لا مناص منه، ويمكن للدولة أن تقرر، مثلا، صرف الحصص التموينية للأسرة ذات الثلاثة أطفال، أما ما يزيد فعلى الأسرة تحمل أعبائه..نحتاج إلى اقتلاع ثقافة دخيلة، والتصدى لمحاولات مستمرة، لتفشى منهج الفهلوة والنشاط الريعي، والسمسرة، خاصة عندما تحقق أرباحا طائلة بأدنى جهد ممكن. ومن هنا ينتظر الشعب من الحكومة، فرض رقابة صارمة على التجار الجشعين والمتلاعبين بأقوات الفقراء، حيث ينطبق عليهم المثل القائل «يخافون ولا يختشون»..ومن دواعي. الأمل. أن أيقن قطاع من الشباب المحترمين أن أمل مصر، هو «صُنع فى مصر.».وأتمنى أن تسير الحكومة بخطوات أسرع فى تشجيع الصناعات الصغيرة والمتوسطة، حتى نحقق الاكتفاء الذاتى ونصدر الفائض، وهذا هو طريق الخلاص الوحيد، فلو استمر حالنا، بان نكون من أكبر الأسواق المستوردة فى العالم، وأن نرفض ترشيد استهلاكنا، فسوف نصل يوما، لا قدر الله إلى الإفلاس وتصنيفنا «دولة فاشلة» تستحق احتلالها، وساعتها، لن نجد كسرة خبر نسد بها الرمق، وليس فقط، بنزينا للسيارات، فكل ما فى وطننا سيتوقف، والعياذ بالله..إن عبور مصر من نفق ما بعد خمسين عاما من الانفتاح، سداح مداح، وسنوات الفوضى من ٢٠١١ إلى ٢٠١٤، لن يكون إلا بمواجهة الصعوبات أيا كانت، والتسلح بالإرادة والعزيمة والإصرار على استرجاع قيمنا التى استمات، أعداء الداخل والخارج، لدفنها فى تراب اليأس والضياع، وكأننا لسنا بناة، الأهرام والسد العالي، وأصحاب العبور، وفوق ذلك، من قاموا بثورة ٣٠ يونيه، أعظم ثورة فى التاريخ.