السندريللا .. ملكة الاستعراضات الغنائية
بقلم – د: رانيا يحيى
فى سنوات الطفولة يعيش الأطفال مع الخيال أجمل القصص والحكايات ،ومن هذه القصص ما يظل عالقاً فى الأذهان رغم مرور السنوات لأنها لمست إحساسهم بشكل أو آخر وتفاعلوا معها ،وواحدة من أروع هذه الحكايات التى قرأناها واستمعنا إليها فى الكتب وعبر الشاشات قصة سندريللا بكل ما فيها من مشاعر إنسانية فياضة ،لذا حفر اسم السندريللا بمعاناتها فى عقول وقلوب الأطفال وتعاطفوا معها وعشقوها ،فهى الفتاة الرقيقة الجميلة القريبة للأفئدة. وفى السينما المصرية أطلق لقب السندريللا على الفنانة المبدعة سعاد حسنى التى اخترقت قلوب محبيها بجمالها وخفة ظلها ورشاقتها ونظرتها الحالمة الوديعة أحياناً والمليئة بالحيوية ورعونة الشباب فى أحيان أخرى، سعاد حسنى مثال حقيقى للفنانة الشاملة التى لم تضاهها فنانة أخرى فهى علامة فارقة فى تاريخ السينما المصرية والعربية على مستوى التمثيل والاستعراض والغناء. وأعتقد أنها حالة فنية متميزة لا تضاهيها مثيلاتها من الفنانات حيث تتمتع بقبول جماهيرى ليس له نظير بالإضافة لشخصيتها المرحة خفيفة الظل التى أضافت بعداً جمالياً على تقبلها لدى جماهيرها العريضة، التى استشعرت مطابقة لقب السندريللا على شخصيتها الفريدة لما تتمتع به من صفات فنية وأنثوية جعلتها حقاً سندريللا الشاشة العربية ..فقد كانت ولا تزال سعاد حسنى البنت المصرية الجميلة بجاذبيتها المعهودة وطلتها الشقية حالة فنية مكتملة الأركان عشقها كل من استمتع بأدائها التعبيرى الطاغى.
مازلنا نعيش أجمل الذكريات مع صوتها الرقيق الذى أمتعتنا بصدقه وصفائه وإمكاناته الغنائية حيث أثبتت السندريللا للجميع أن تميزها فى الغناء لا يقل عن مهارتها التمثيلية والاستعراضية بل أيضاً فى صوتها الرنان الصادق الذى يفيض بنبع من الأحاسيس المرحة ،وفى ذات الوقت قدرته على التلون الدرامى للمشاهد والعواطف الشجية الحزينة أثر على ترجمتها فى الأغنيات النابعة من داخلها لذا وصلت إلى وجداننا مباشرة.
وإذا تمعنا أسلوب السندريللا الغنائى رغم كونها فى الأساس ممثلة وليست مطربة إلا أنها تميزت بصوت جميل واع وإحساس تعبيرى فطرى ،وكان لديها قدرة على المزج ما بين الموهبة الفطرية والقدرة الاحترافية فخلقت إبداعا غنائىا يسيطر عليه ذكاؤها الشديد فى كيفية توظيف حتى الإمكانات العادية بالنسبة لطبقات صوتها بما يتلاءم مع الحدث الدرامى والغنائى مما جعل كثير من أغنياتها تحيا فى وجداننا ،ووجدان الأجيال التى لم تعاصرها لكنها شاهدت واستمتعت بأعمالها الإبداعية بعد رحيلها فأثبتت أنها تتخطى حاجز البعد المكانى والبعد الزمانى لأنها فنانة شاملة بكل المقاييس. وقد اقتنع الملحنون بموهبتها الغنائية فتعاملوا معها باحترافية من خلال ألحانهم التى تنطوى على مقامات موسيقية شرقية الطابع ونجد مثلاً الملحن الكبير محمد الموجى جاءت أغنياته للسندريللا شديدة التطريب اعتمد فيها على المقامات ذات الشرقية الأصيلة كالحجاز فى "صغيرة ع الحب" ،والبياتى والهزام وتفريعاتهما فى "بحر الهوى" والذى تجلت فيه قدرتها التطريبية كما فى موال "يا عم يا صياد" ،واستمراره فى استغلال قدراتها الغنائية فى أفلام أخرى هو ومنير مراد وبليغ حمدى. كما نقف عند محطة مهمة جداً فى مشوارها الفنى غنائياً وهى تعاملها مع الملحن كمال الطويل والذى استفاد من قدراتها الهائلة فى التلوين الصوتى ،وتعامل مع قدرتها الإبداعية فى حالتى التعبيرية والتطريبية وما تمتعت فيهما من عبقرية فذة لخلق الأجواء النفسية للأغنيات ونقلها للمتلقى بعبقرية جعلت من هذه الأغنيات حتى الآن أيقونات فى مجال الأغنية السينمائية مثل حالة الحب والدعابة والرقة ودلال المحبوبة فى "يا واد يا تقيل" ،وروح السعادة الغامرة والانطلاق فى "بمبى" ،والمرح والحيوية والرشاقة فى "الدنيا ربيع" ،لقد ارتفعت السندريللا بالأغنية الاستعراضية لتتجاوز حدود الضرورة الدرامية إلى ما هو أبعد لإضفاء حالة جمالية وحسية للمتلقى.
أما الأغنية الوطنية دولا مين كلمات أحمد فؤاد نجم ،وألحان المبدع كمال الطويل فهو لحن رائع يشع بهجة وحماسا وفرحة فى مقام العجم التفاؤلى وعبرت فيها السندريللا عن حبها لوطنها وسعادتها بنصر أكتوبر العظيم وفخرها بالجنود المصريين ،وهذه الأغنية يتم ترديدها ونستشعر فيها بالطابع الفلكلورى ذى الإحساس التراثى ،رغم أنها ليست قديمة قدم الأغنيات التراثية القديمة لكن بأصالتها وتراكيبها ولحنها تشعرنا بالعودة للماضى بكل أصالته. كما شدت السندريللا بعدد من الأغنيات فى أذهان محبيها أثناء قيامها ببطولة مسلسل «هو وهى» مع النمر الأسود أحمد زكى ،وكانت طبيعة المسلسل عبارة عن حلقات منفصلة وجاءت الأغنيات معبرة عن كل قصة وكتب كلماتها صلاح جاهين ولحنها كمال الطويل وعمار الشريعى ،ولا تزال ترتبط فى وجداننا كجمهور داخل سياقها مثل "حلقاتك برجالاتك" ،"البنات البنات" ،"خالى البيه" وغيرها. وأقف عند "الشكولاتة" فى مقام صبا وهو مقام يغلب عليه الطابع الحزين وله تأثير فى النفس وهنا تعامل معه كمال الطويل بشئ من الاختلاف ليتناسب مع فكرة الأغنية ودلع السندريللا على الشاشة فى أدائها ،لكنه ربط بين وجود المقام والبيئة التى تنتمى لها فى الريف المصرى لإحداث حالة من التفاعل ما بين البيئة والحالة الوجدانية المرحة.
وحينما أتحدث عن السندريللا وأدائها الغنائى تستوقفنى على المستوى الشخصى أغنيتان اعتبرهما من أجمل وأشهر ما قدمت السندريللا للملحن كمال الطويل وهو ما يؤكد أنه وصل بإمكانيات سعاد حسنى لعمق الموهبة واستطاع أن يكتشف القدرات الغنائية الكامنة داخلها ،الأغنية الأولى الدنيا ربيع والتى استخدم فيها كمال الطويل الكورال فى بعض المقاطع لتدعيم الصوت الغنائى، وخلق حالة من الشعور الجمعى التفاؤلى واعتمد فى هذا اللحن الرشيق على مقام العجم أو الماجير فى الموسيقى الغربية ،مع تناول الآلات الموسيقية التقليدية مثل الكمان والإيقاعات بالإضافة لآلة الجيتار والكى بورد بشكل كبير لخلق رنين صوتى مميز من خلال التحكم فى التكنولوجيا ،وكان هذا الاستخدام للأورج جديدا فى فترة السبعينيات حيث اعتمد كثير من الملحنين على هذه الآلة الحديثة ،ولكن توظيفها فى هذه الأغنية تحديداً موفق لما خلقته الآلة من مرح يتناسب مع الجو العام لكلمات الأغنية وأيضاً الأداء السلس لسعاد حسنى ،ووظف صوتها سواء بالضحكات أو بالأداء الغنائى النغمى بدون كلمات فى البداية ليتوافق مع شخصيتها المقبلة على الحياة بكل ما فيها من أنوثة وخفة ظل ورشاقة ،كذلك استخدم الطويل الصوت البشرى والتصفيق كمؤثرات صوتية داخل الأغنية لتدعيم الأثر الدرامى على الجمهور وبعث حالة من السعادة والفرحة بقدوم الربيع ..ويعتبر استخدام الملحن لإيقاع المقسوم الراقص وهو من الإيقاعات الشرقية الشهيرة التى تتسم بالبهجة ليكون لصيقاً بالحالة الشعورية العامة فى الأغنية ،كذلك استخدم الآلات الموسيقية بأداء إيقاعى لدعم الآلات الإيقاعية ،وانتقل الملحن لجزء شرقى صميم وسط الأغنية عند جملة الورد مفتح شوفوا شوفوا بيرقص ويدارى كسوفه فى مقام الحجاز وهو من المقامات التى تتسم بملمح شجنى عبر خلاله عن تفتح الورود بلمسة شرقية ..ثم يعود للمقام الأصلى للأغنية وهو العجم. والأغنية الثانية يا واد يا تقيل واستخدم فيها نفس الإيقاع المقسوم بطابعه الشرقى الذى أصبغ الأغنية بالمرح والدعابة ،وتبدأ الأغنية بمقدمة موسيقية فى مقام النهاوند وهو المينير فى الموسيقى الغربية ،وينتقل منه الملحن لمقام الكرد مع استطراد السندريللا فى الغناء "قلبى يقول يانى يانى" ،ومع "ويحيى إزاى" وأسلوب تقطيع الكلمات مع اللحن يعكس الحالة السيكولوجية التى تعانى منها الحبيبة ومحاولات اغوائها للحبيب النجم حسين فهمى ،وكلما يعود الملحن للمقام الأصلى ينتقل منه لمقامات أخرى مثل البياتى بشرقيته الصميمة فى "عنده برود أعصاب اسم الله" ،"الرجل الغامض بسلامته" ،ودائماً العودة للمقام الأصلى النهاوند مع "ياه ياه يا واد يا تقيل" ،وفى ذات المقام ولكن بمذاق جديد "أكلمه بحرارة يرد بالقطارة" ،واستخدام الكورال يوظفه الطويل بإبداع حقيقى وتأكيد على تعاطفهم مع الحالة العامة للأغنية ومعاناة البطلة ،أما التعبيرية المفرطة "ويبص إزاى كدا كدا هوه" وبشكل عام فى أدائها لهذا الاستعراض فيمثل عبقرية فنية مكتملة الأركان ،والتدفق الموسيقى ساعد على جاذبية اللحن لدى الجمهور ،بجانب التوظيف الإيقاعى الراقص والمبهج كعامل مساعد لتنفيذ الاستعراض والحركة الأدائية والتمثيلية مع الغناء ،والانتقالات المقامية المتعددة داخل الاستعراض والتعبير عن حالات شعورية مختلفة كالتحدى ،المرح ،الإغواء ،الشكوى ،الحب كل هذا يعكس مدى الفهم العميق للملحن وإدراكه لقيمة موهبتها وبما قدمته كفنانة من نماذج استعراضية رائعة لها قيمة فنية فريدة فى تاريخنا السينمائى والإبداعى. ويحتفظ كمال الطويل بشخصية موسيقية مميزة جمعت بين الجمل البسيطة التى يسهل ترديدها وبين التجديد والابتكار سواء على مستوى استخدام الآلات وخلق رنين صوتى مميز وبين استخدام تقنيات الكتابة الموسيقية فى التأليف مع الاحتفاظ بطابع شرقى فى موسيقاه يميز أعماله ،واتبع الطويل أسلوباً خاصاً فى تلحين الأغنية الاستعراضية الخفيفة بتوظيفه للعناصر الموسيقية وأهمها اللحن والإيقاع ودرايته بالمساحة الصوتية للمغنى ،مما جعله يسيطر تماماً على الحالة الشعورية للمتلقى.
السندريللا .. أطياف متعددة للموهبة الأكثر نضجاً وجاذبية فى تاريخنا السينمائى ،ورغم رحيل الجسد لكن ستظل روحها المتألقة ترفرف بالإبداع والعبقرية ،كمدرسة رائدة وفريدة فيما قدمته من فنون مختلفة .. وتستمر روحها حية ومتوجة كملكة للاستعراضات الغنائية.