درب «أبي سروال».. أم درب الحياة!
على غير المتوقع، وقليلًا ما نطالع نصًا أدبيًّا أو رواية مغايرًا في شكله وبيئته، وهو أول ما ينتبه إليه القارئ فور مطالعة السطور الأولى من رواية "أبي سروال" للروائي الشاب أشرف التعلبي، وقد صدرت عن دار بيت الياسمين بالقاهرة.
تناول النص رحلة غير تقليدية في الصحراء الغربية (ضمن محافظة الوادي الجديد) وهي بيئة جديدة أو غير منتشرة في السرد الروائي المصري، كما يلحظ القارئ قلة عدد الشخصيات «الأب حربي وابنه ابن العاشرة من عمره، والجمل الأصفر والجمل البني».. نعم، الجملان شخصيات فاعلة ولهما دورهما المهم للتعبير عن بعض من رؤية الروائي.
تلك هي رسالة النص لي فور الانتهاء من القراءة.. الصحراء، الفراغ، التيه، الجانب الخفي من حياة البشر على الأرض.. تعبر أيما تعبير عن جانب هالٍ ولافت من جوانب الحياة، لكننا لا نلتفت إليه؛ بسبب الانشغال بالكثير المبهر في حياة المدينة.
الصحراء تفرض سطوتها على البشر، فتجعل العلاقة بينهم لها ملامحها الخاصة، ولعلها أكثر شفقة ورغبة فى التعاون والتعاضد لمواجهة الأخطار الباقية دوما، نهارًا أو ليلًا.
كما أن الصحراء نفسها تدفع الجميع إلى التأمل والغناء لمواجهة الصمت الغامض المحيط بكل خطوات مَن عليها من بشر ودواب وحتى الديدان والعقارب والثعابين.. كيف يكون الغناء وسط تلك الأخطار؟ الإجابة يدركها المحنك الفاهم لأسرارها!
فورا يلتقط القاريء الكثير من خصاص تلك الرواية التى جعلت من الصحراء والتى تبدو خاوية بلا حراك لافت، كيف تبدو هكذا فاعلة وقادرة على تشكيل عالم يبدو خفيا عن عين وذهنية سكان المدينة والقرى أيضا.
من خصاص الرواية الصحراوية، أن تبدو في عدة ملامح، منها علاقة الأجيال المتتابعة من الجد إلى الأب إلى الابن.. وتبرز كيفية توارث وانتقال الأفكار والقيم والآراء بما يتناسب مع طبيعة الحياة الصحراوية، وكيف يتوافق معها البشر وكذا كل الكائنات المحيطة، الظاهرة منها والخفية تحت الرمال، وحتى الجمادات المغايرة من رمال وصخور وسحب وهواء ساخن تشاركهم البيئة، وهو ما كشف أسراره الرواي ببساطة السرد والتناول الحواري، خصوصا بين الابن الصغير والأب "حربي".
يبرز السؤال كيف تناول الروائي تلك الملامح وكيف عبر عنها؟ لما كانت الرحلة ﺇلى الواحات عبر درب "أبي سروال"، وكأنها بأمر من قوى علوية ينهض بها الأب ورب الأسرة، على الرغم من المشقة الكبيرة، فلا يستمع لنصائح الزوجة بالراحة وتأجيلها ليدوم بقائه بينهم في النجع أطول مدة ممكنة، هذه المرة تعلق به ابنه الصغير فحمله معه إلى جانب العسل الأسود والتمر وما يحمل ليبادله مع التجار لاستلام السجادة أو حتى فاكهة تؤكل غير متوفرة بالنجع.. فتبدأ الرحلة على الرغم من الغموض والإرهاق الذى ينتاب الجميع.. (وبعد مسيرة ثلاثة أيام تراود الابن الصغير أفكار كثيرة يتداخل بعضها البعض، وفكر كثيرا بأن والده علامه من علامات هذه الصحراء..) يكفي أنهما لم يشاهدا بشرًا من أن خرجا من النجع.
كثيرا ما نلتقط بعض من عادات وقيم الصحراء، التي قد لا نخبرها لولا توافر مثل تلك النصوص السردية التي نلتقطها بعفوية ذكية، كما تبدو –مثلا- في علاقة البشر بالحيوانات، وخوصا الضارة منها والقادرة على إيذاء البشر مثل العقارب والثعابين.. وهو بالضبط ما واجه الصغير بعد فترة قصيرة من بداية الرحلة، حيث شاهد العقارب والثعابين تقترب منه، وهو ما جعله يفزع ويسعى لقتلها، لولا أن نبهه الأب قائلا: (لا تحاول يا ولدي قتل أي كائن في الصحراء، دع هذه الثعابين والعقارب تعيش كما نعيش نحن".. فقال الابن الصغير: "لكنها تقتلنا بسمها يا أبي".. فرد حربي: عشرات المرات وأنا نائم تمر العقارب والثعابين بجواري، ولم تعضني يوما، لكن ﺇذا حاولت أنت قتلها، سوف تحاول هي أيضا الدفاع عن نفسها".
هناك خبرات خاصة جدا، تتناقلها الأجيال ببساطة ﺇلا أنها الهم الأول والأخير، ومعها تكون قيمة نقل الخبرات وهي من أهم الوسائل المعرفية التي يعيش عليها وبها سكان الصحراء.. فان كانت الماء ثروة وهامة عند كل البشر، فهي عند سكان الصحراء أثمن من الذهب، هذا ما أخبرنا به الأب وهو يلقن درس الماء لابنه، وقال: "ﺇن من قوانين الصحراء التي تربيت عليها من جدك "ربيع" أن الماء أغلى شيء في الصحراء، وﺇن جاء أحدهم وأعطاك الآلاف من جرامات الذهب مقابل شربة ما، فلا تقبل، فهو بذلك يشتري حياتك، فما قيمة هذا الذهب بعد أن تركك فريسة سهلة للنسور والصقور تنهش مصارين بطنك".
لا تخلو رحلة الصحراء من المخاطر، ومنها البسيط ومنها المعقد، إلا أنها هكذا تشعر من يتعرض لها بالخطر على حياته، حتى فى أهون تلك المخاطر، كما بدت مع الصغير إلى شعر بالخوف والسقوط من فوق الجمل بسبب الصعود على الجبل، فيسرع الأب للسير إلى جواره على الأرض.. وكأنها رسالة الطمأنينة من والده الذي يسير بجواره، ودرسا جديدا يلقنه له فقال له: "عليك يا ولدي أن تدور مع الطريق إن دارت فهذا أيضا من قوانين الصحراء".
وفي موضع آخر يعزز الروائي الواقع المتخيل للصحراء، بتلك التي انتابت "حربى" مع ابنه وهما على خطى الجملين، حتى هلت عليهما نسائم هواء رقيقة، فبدأ يترنم بأغنية حفظها عن ظهر قلب من واحة الخارجة (أغنية أبو الخد صابوني)
مسيك بالخير يا عود القنا يا روح
يا اللى هدومك على جسمك ترد الروح
لو فتني فرد ليلة لأعلمك في اللوح
وأعلم الطير على بابى يجي ويروح...
فيما تتجلى علاقة قد لا ينتبه ﺇليها سكان المدن، علاقة الإنسان بالحيوان، وربما العلاقة بالجمل تحديدًا في الصحراء، وقد عبرت عنها الرواية بمواقف عديدة ومنها تلك التي بدأت مع شعور الجمل الأصفر بالألم والوهن ثم عدم القدرة على السير وبرك أمام الخيمة، حيث نصبها حربي في هذا المكان لعدم قدرة الجمل على السير.. وقد أحسن الرواى وصف تلك الحالة والأزمة بل والحزن الذي شعر به حربى لمرض جمله الذى شاركه الحياة طوال السنوات الطويلة الفائتة:
ورغم إلحاح الصغير على أبيه من أجل أن يأكل معه، ﺇلا أنه لم يقدر على وضعه لقمة في فمه، وإذا وضعها في الفم لن يمضغها، ولن تقبلها المعدة، فالعقل مشغول بالبارك خارج الخيمة - يشير للجمل الأصفر المريض.. (وفكر حربي أن يقوم بذبح الجمل الأصفر قبل أن يمرض أكثر..).
تذكر حربى مآثر الجمل الاصفر، يوم كان مع القافلة التي قادها حربي لواحة سيوة عبر درب أبى سروال، حيث مرضت ناقة صغيرة واضطر لذبحها. ولكن مات الجمل الأصفر، رفيق رحلة الحياة مات، فجلس "حربى" يندب ويقول :
(يا ديب احرس جملى/ يا ديب ما تشق بطنه/ يا ديب ما تأكل منه/ يا ديب ده رفيق الدرب/ يا ديب احرس جملي).
غلبة الشعور بالإحباط بعد موت الجمل الأصفر، بينما الجمل البني لا يرغب في عمل نشط وكثيرًا ما يبرك ولا يتابع السير.. وعلى التوازي كان الرجل يشعر بالإحباط أن قضى عمره بعيدا عن زوجته وأولاده، والسير فوق جمله عبر درب "أبى سروال".. هكذا الدرب هو درب الحياة التي عاشها وربما نعيشها جميعا بدرجات مختلفة من النجاح.
فلما مرض الابن وتمرد الجمل البني، شارفت الرحلة على الانتهاء بتلك النهاية التي هي أقرب للفشل ونهاية الحياة نفسها..
حتى تخيل الروائي حوارا أسطوريا ويعبر عن فانتازيا مبالغ فيها، حيث حاور الجمل البني صاحبه وقال بعد خمسة أيام من الرحلة وأعلن تمرده على متابعة الرحلة.. وقال:
(تحملتك طوال الخمسة الأيام الماضية فى هذه الصحراء التى زرع فيه ولا ماء، سرت فوق الرمال الساخنة والصخور الحادة والشمس الحامية، لقد تحملت الضرب بالعصا الخيزران.. وبعد أن مات الجمل الأصفر وضعت صفائح العسل والخرج وجلست أنت وابنك فوق ظهرى عليك أن تتركني بمفردي لأعيش فيها بعيدا عن قهرك وظلمك).
.. مع كل ما حدث فحربي لم ييأس متيقنا أن الصحراء ليست خائنة ولا تبيع أو تغدر صاحبها
فردد لحظة موت الابن :
قوم يا ولدى ألعب مع العيال فى النجع
قوم يا ولدى اسقى الجمال
قوم يا ولدى ارعى الغنم
قوم يا ولدى .. قوم يا حبيب.
بدت أحوال الأب بعد موت ابنه فى حزن عظيم، حتى شعر ولأول مرة فى حياته، خشية مقابلة زوجته.. ودفن ابنه في درب أبى سروال على غير رغبة منه.
ما يحمد للروائي، ﺇنه لم يكن مشغولا برسم البيئة الصحراوية فقط، بل ربطها بأحوال وأخبار الشخصيات، وقد بدت في الجملين الأصفر والبنى، والأب وابنه، والرمال والذئاب بل العقارب والثعابين.. وقد تشكلت معا لبناء رؤية واضحة لتوظيف تلك البيئة أو الاستفادة منها لبناء نص فيه من الصراع الفني الكثير.. سواء بين اﻹنسان والطبيعة أو اﻹنسان ودواخلة أو اﻹنسان ورفقاء الرحلة .. بل تلك المفارقة التي جعلت من الجمل الأصفر كائنا مخلصا على العكس من الجمل البنى، فأصبح درب "أبى سروال" هو رحلة الحياة نفسها لكل من سار فوقة وعاش عليه.