رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


جون بي أردن: شبكات التشغيل العقلية تقوم ببناء المعنى من خلال تفاعلاتها غير الخطية وأنظمة الذاكرة

9-3-2022 | 17:34


البروفيسور جون بي.أردن: شبكات التشغيل العقلية تقوم ببناء المعنى من خلال تفاعلاتها غير الخطية وأنظمة

محمد الحمامصي

يعمل البروفيسور الأمريكي جون بي.أردن في كتابه "نحو علاج نفس تكاملي في إطار الروابط بين العقل والمخ والتعبير الوراثي" على شحذ تفكيرنا على نحو أوسع وأعمق، وبأسلوب أكثر تركيبا، حول العوامل التي تسهم في صحة البشر على امتداد الحياة وعبر الأجيال. ويدعو إلى فتح الأعين على آفاق أرحب من الخبرة الإنسانية التي نعيش فيها، وتبني المعرفة في سياقات تفكيرنا وعملنا، كما يدعو إلى التدبر في طرائق جديدة للتفكير، وعدم الرهبة مما لا نعرفه، أو مما نجد صعوبة في فهمه.


يرى جون بي في كتابه الصادر أخيرًا عن دار نيو بوك وترجمه أحمد موسى أن أسباب الاضطرابات النفسية ومداواتها لطالما كانت موضوعا للجدل والبحث المتواصلين، يحدث كل بضع سنوات، على ما يبدو، أن تزداد شعبية منحى جديد في العلاج النفسي، وذلك قبل أن يذبل لاحقا كذكرى آفلة من الماضي البعيد.

وفي الآونة الأخيرة عمل عدد من الخطوط البحثية المتكاملة على تحديد مدى واسع من العوامل التفاعلية الكامنة وراء عديد من مشكلات الصحة والصحة النفسية. ويعمل كتابي هذا على الإحاطة بذلك الإنتاج العلمي الأساسي الراهن لعلم المناعة العصبية النفسية وعلم العوامل فوق الوراثية، ويؤلف بينها مع العلم العصبي للديناميات الانفعالية والبين شخصية والمعرفية، مع مناحي العلاج النفسي، لتقديم رؤية تكاملية للعلاج النفسي، ويعزز ذلك النموذج التكاملي من صياغة تغيير جذري لكيفية تصورنا لمشكلات الصحة النفسية وحلولها.


انطلاقًا من رؤيته هذه يستكشف جون بي العلاقات السببية متعددة الوجهات التي تربط بين الشفقة والاكتئاب والقلق وجهاز المناعة والتعبير الوراثي، حيث يلقي الضوء على التفاعل الواقع بين كل هذه العوامل، من خلال استعراض الدراسات التي عنيت بفحص تأثيرات العوامل المتصلة بأسلوب الحياة في حدوث المشكلات الصحفية والنفسية. ثمة علاقات مهمة قائمة بين وظائف جهاز المناعة، والمشقة، والتعلق غير الآمن، والقلق والاكتئاب وسوء التغذية وتدهور نوعية النوم والخمول البدني، واختلال التنظيم الفيزيولوجي العصبي. ويضرب مثلا أن التعلق غير الآمن والحرمان والإساءة للطفل تسهم في ظهور القلق والاكتئاب بطرق أكثر شمولا على نحو يفوق ما كنا نظن من قبل بكثير.

وهكذا تؤثر مجموعة معقدة من الحالات الصحية في ملايين الذين يسعون طلبا للعلاج النفسي.


ويلفت إلى أن الخط الفاصل بين الرعاية الصحية والرعاية الصحية الجسدية قد تبخر، ومن ثم يتعين العناية بالصحة العامة للإنسان، فالصحة الجسدية والصحة النفسية في ترابطهما الوثيق ليستا وجهين لعملة واحدة فقط، وإنما تبدوان كما لو كانتا تمثلان متصلان ولكن في صورة بعدين متمايزين؛ وتوجد داخل كل بعد من هذين البعدين وكذلك فيما بين هذين البعدين، عدة حلقات غير خطية من العائد (الفيدباك) تواصل تأثيرها في جميع جوانب الصحة، ويستلزم المنحى التكاملي في العلاج النفسي العناية بذلك الاعتماد المتبادل القائم بين الصحة والسلوك.

وبالنظر إلى ما يوليه العلاج النفسي من عناية متزايدة بالعوامل الصحية فإن هذا الدمج يستلهم من تلك المجلات البحثية التي سبق بيانها ـ رؤية محكمة للعلاج النفسي ـ وسوف أقوم هنا بتطبيق هذا المنحى على الاضطرابات النفية، من مثل: القلقوالاكتئاب، بغرض استلهام النبض الحي لذلك النموذج التكاملي.


أيضا يستكشف جون بي كيف يمكن لاختلال التنظيم أن يطرأ على جهاز المناعة، وكيف ترتبط اضطرابات المناعة الذاتية بمشكلات الصحة النفسية، وكيف تعود مشكلات الصحة النفسية ذاتها بنوع من العائد، في سياق سببي غير خطي، على غيرها من المشكلات الصحية الأخرى، وللتمثيل لا الحصر، نجد أنه بينما يعمل السكري من النوع الثاني على اشتداد الاكتئاب، فإن الاكتئاب يؤدي كذلك إلى تفاقم مرض السكري، ومن نافلة القول إنه بوسعنا رد أو اختزال جميع الظواهر العقلية إلى نشاط الخلايا العصبية أو حتى إلى شبكة عصبية محددة؛ وذلك لوجود دائرة من العائد بين التفكير والانفعال والسلوك تعمل على إحداث تغيرات مستمرة في المخ. تعمل حلقات العائد داخل متصل "العقل ـ المخ ـ التعبير الوراثي" على توليد علاقات سببية متعددة الوجهات بين العقل والمخ والعوامل الوراثية كنظام أكبر، وليس بمجرد كونها كيانات منفصلة. وتتفاعل كل هذه الأبعاد بوصفها ظاهرة ناشئة غير خطية متعددة الأبعاد.


ويوضح جون بي أن حلقات العائد تساعد على تعزيز النمو والحفاظ على التوازن الحيوي، بل لا يمكننا أن نصبح أكثر صمودا وتحملا من دونها. وتعمل حلقات العائد الإيجابي على تعزيز النمو وتوسيع الحدود، وهو أمر بالغ الأهمية لارتقاء الشخص، فيما تساعد حلقات العائد السلبي على الركود، على نحو شبيه بالترموستات الذي يساعد على تنظيم درجة حرارة الغرفة، أو تحمل المرء لهذا الضغط. ويتأثر التداخل الدينامي الواقع بين حلقات العائد الإيجابي والسلبي بما نواجهه من تغيرات تطرأ على البيئة، التي غالبا ما تنشأ عن تداخلنا البشري فيها، ويعمل العلاج النفسي على تعزيز حلقات العائد الإيجابي والسلبي بغرض تحسين الصحة النفسية.


ويتابع أن العقل يمثل عملية لصنع المعنى سواء أكانت هذه العملية واعية أم غير واعية، وتقوم شبكات التشغيل العقلية ببناء المعنى من خلال تفاعلاتها غير الخطية وأنظمة الذاكرة، ويعمل إحساس الشخص بذاته على المستويات الاجتماعية والنفسية والبيولوجية على إمداده بالسياق والمعنى الذي يخبر به العالم. توجد هذه الأنظمة المتفاعلة في حالة متبادلة من التغير والاستقرار، بحيث يثق المرء في عقله ويعزز ذلك الاستقرار الدينامي شعوره بذاته، ومن ثم، تتشكل الاضطرابات النفسية حينما ينهار استقرارنا الدينامي.

ينطلق جون بي في الكتاب من الذات ليجيب على تساؤلات: كيف ينشأ الشعور بالقردية؟ وكيف يعمل تفاعل الإحساسات الجسمية والانفعال والمعرفة المتصلة بتنظيم الذات على بزوغ الذات؟ ليناقش بزوغ الذاتية والانفعال عبر وصف شبكات التشغيل العقلية، وهي: شبكة البروز، والشبكة التنفيذية، وشبكة الوضع الافتراضي. وتتضمن شبكة البروز التي تسمى أحيانا شبكة المشاعر أو "المادة التي أبدو عليها"، ذلك الإحساس الجسدي وبزوغ الانفعال.

أما الشبكة التنفيذية التي تسمى أحيانا المكون التنفيذي المركزي أو المدير التنفيذي للعقل، فتتضمن الذاكرة العاملة، وأن تكون متنبها للحظة الحالية، ومتأهبا لاتخاذ القرارات المعقدة. أما شبكة الوضع الافتراضي والتي تسمى أحيانا "المخ القائم بالحبكة"، فتتضمن التفكير ذاتي المرجعية، والتخييل وأحلام اليقظة والاجترار وغالبا ما تتصل بالأشخاص الآخرين ومكاننا ضمن علاقاتنا. وتعمل شبكة الوضع الافتراضي على استخلاص ذكريات الأحداث الشخصية ـ الذاكرة الافتراضية ـ وانعكاساتها على الماضي وكذلك على المشروعات في المستقبل.


ويرى جون بي أن للعلاقات الإيجابية دورا حيويا في الصحة على النحو الذي يتضح من؛ قصور القلب والأوعية الدموية، وضغط الدم ومستويات الكورتيزول والكوليسترول في الدم، والخلايا القاتلة الطبيعية، وتبين البحوث أن الحرمان المبكر يقوض الاتزان الوجداني في وقت لاحق من الحياة؛ حيث نجد أن الأشخاص الذي يخبرون الشعور بالوحدة أو يضطرون للاحتفاظ بعلاقات غير صحية، تتطور لديهم صعوبات عصبية معرفية ذات صلة بالالتهابات وشذوذ المكونات الكيميائية العصبية بأجسادهم.

وبوسع العلاقات الوثيقة الإيجابية أن تدعم طول عمر المرء، وذلك كما تقاس بقدرة مخه على تحقيق المطاوعة العصبية وتجدد الخلايا العصبية، ويعمل صقل العلاقات الآمنة، مثلما يحدث عبر العلاج النفسي، على تعزيز تحمل المشقة، عن طريق بناء حلقات العائد بالجهاز العصبي الغددي والجهاز العصبي التلقائي اللذين يقللان من مستوى القلق ويعملان على التخلص من الاكتئاب. 


ويمكن للعلاج النفسي أن يعمل ضمن أنظمة المخ الاجتماعية هذه، بغرض بناء أو إعادة بناء القدرة على التنظيم الوجداني للتعامل مع تحديات الحياة اليومية، ومن ثم يمكن للمعالجين عبر تأجيج شبكات المخ الاجتماعي لعملائهم أن يساعدوهم على الارتقاء بالأمن والازدهار على السياق البين شخصي.


ويلفت إلى أنه ثبت أن خبرات الاهمال الوالدي أو إهمال مقدمي الرعاية وخبرات الطفولة المناوئة تعمل على قمع الجينات المنظمة لمستقبلات الكورتيزول في منطقة الحصين أو الهيبوكمباس "منطقة في المخ مسئولة عن تخزين المعلومات والخبرات الجديدة"، مما يصعب من إيقاف استجابة المرء للمشقة، التي يضطلع بها المحور العصبي الذي يضم كلا من: الهيبوثالاموس والغدة النخامية والغدتين الأدريناليتين أو الكظريتين في وقت لاحق من الحياة. وفي ظل وجود آلية أقل قابلية للتطبيق من العائد السلبي يتضاءل مستوى تحمل المشقة، وتميل النساء اللواتي عانين في البداية من ضعف التعلق في وقت مبكر من الحياة إلى انخفاض مستقبلات الاستروجين في وقت لاحق من الحياة، كما يصرن أقل اكتراثا بأطفالهن الرضع. 


ومن ناحية أخرى نجد ارتفاعا في مستويات مستقبلات الكورتيزول بين الأشخاص ذوي التعلق الآمن، كما نجدهم أكثر قدرة على التعامل مع المشقة. وتعمل هذه الآلية من العائد السلبي بشكل فعال على زيادة مستوى تحمل المشقة، ونظرا لأنه بوسع المعالجين مساعدة المرضى على تشغيل الجينات وإيقافها عبر تغيير سلوكهم يصير بامكانهم معالجة القلق أو الاكتئاب على نحو أكثر فعالية. 


ويوضح جون بي كيفية تأثير العوامل الوسيطة الرابطة بين جهاز المناعة والعقل والمخ في الصحة النفسية، فيقول إن الالتهاب المزمن يرتبط بشكل كبير بمجموعة واسعة من مشكلات الصحة العامة والصحة النفسية، بما في ذلك التأثيرات المدمرة في: الحالة المزاجية والمعرفة والانسحاب الاجتماعي. 


ويمكن للالتهاب أن ينتج عن المحن والأبعاد العديدة للروابط بين العقل والمخ والجسد.

وفي الواقع فإن الالتهاب المزمن يرتبط بشدة بالقلق والاكتئاب، وأوجه العجز المعرفي بما فيها العته أو الخرف، كما أن إحدى الطرائق التي يحدث بها الالتهاب تتمثل في السيتوكينات (بروتينات صغيرة تعمل على نقل رسائل الخلية للمساعدة في توجيه الاستجابة المناعية للجسم) المحرضة على الالتهابات، ويعزى إلى هذه السيتوكينات وجود علاقة سببية ثنائية الاتجاه تربط القلق والاكتئاب من ناحية والقصور المعرفي من ناحية أخرى عن طريق تغيير مستويات الناقلات العصبية. إن السلوكيات المتصلة بأسلوب الحياة غير الصحي تسبب تأثيرات فوق وراثية، تؤدي إلى اختلال جهاز المناعة، مما يسبب اضطرابات المناعة الذاتية والاكتئاب والقلق.


 ويشير إلى أن التمارين الرياضية المنتظمة تعد بمثابة مضادات اكتئاب ومزيلات قلق فعالة، كما تؤخر ممارسة التمارين الرياضية من ظهور التدهور المعرفي والخرف من خلال مدى متنوع من العمليات، بما في ذلم خفضها للالتهاب على نحو ملحوظ، كما تعمل على تعزيز المخ الصحي بطرائق أخرى كثيرة لعل أبرزها: تحرير عوامل التغذية العصبية، التي تعزز الشعيرات الدموية السليمة، واستخدام الجلوكوز وتجديد الخلايا العصبية.

إن الصحة النفسية تتأثر بعمق النظام الغذائي وللتمثيل لا الحصر، فإن الاستهلاك المنتظم للكربوهيدرات البسيطة والأحماض الدهنية غير المشبعة والدهون الضارة، له أن يؤدي إلى عدم حساسية الانسولين والالتهابات المزمنة وتناقص مستويات الناقلات العصبية، ويزيد اتباع نظام غذائي غني بالكربوهيدرات البسيطة من المنتجات النهائية المتقدمة لعملية ارتباط السكر بالبروتين، مما يسرع من تكوين صفائح وتشابكات داخل المخ.


وكون النوم يشغل زهاء ثلث حياتنا، يحذر جون بي من أن نوعية النوم منخفضة الجود يمكنها أن تزعزع استقرار الحالة المزاجية والمعرفية، وأن تضعف من مستوى هرمونات المشقة من نظير الكورتيزول، مما يؤدي في مستوياته المرتفعة إلى إعاقة الهيبوكمباس والفصين الجبهيين، فيما يرتبط النوم المضطرب بتأثيرات سلبية فوق وراثية، وزيادة ملحوظة في الالتهاب وقصر طول التيلوميرات.


ويرى أن الاكتئاب لا يمثل اضطرابا مفردا ذا مسبب مرضي "إيتولوجي" وحيد، توجد روابط أخرى متبادلة تجمع بين الاكتئاب والالتهابات وخبرات الطفولة المناوئة والحرمان المبكر في الحياة من ناحية، والإصابة بالأمراض من مثل السكري وأمراض الأوعية الدموية من ناحية أخرى، ويبين الأفراد المكتئبون ممن لهم تاريخ من الصدمات المبكرة في الحياة مستويات أعلى بكثير من السيتوكينات المحرضة على الالتهابات.