رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


حديث النفس.. هارب من فراغ!

10-3-2022 | 13:03


سحر رشيد,

هارب من كل شيء خذلني.. من كل آلامي.. مخاوفى وأحزاني.. من كل فراغ عطل روحي.. إلى أين المسير؟! لا أعلم لكنى هارب من اللاشيء إلى ما أشعر معه أنى شيء يستحق أن يحيا مملوءًا بكل ما بحثت عنه.. هارب إلى حيث أكون كما تمنيت.. فكم عطلت البطالة روحى وأسندتنى إلى كل ما يشعرها بالفراغ!  فامتلكتنى طاقة سلبية.. فأصبحت لاهث وراء متع زائلة تدفعنى إلى فراغ أكبر، لم أعد أستطيع أن أمنع نفسى عن الفرار.. أصبحت نفسى خارجة عن السيطرة.. أصبح الهروب لى نجاة حتى ولو دفع بى لفخاخ وكمائن.. فكم أحتاح إليه لأفرغ ما فى قلبى وصدرى من هموم وأحزان.. وأهرب من أوجاعى وذلاتى لقلب حنون ويد تمسح دموعي.. إنى مغادر عساى أن أنجح.

ونتساءل هل الفرار من المعركة شرف؟ ليست كل المعارك تتطلب الاستمرار فيها.. أحيانا يكون الهروب شرف إذا ما انتصرت نفسك بخروجها سالمة.. وأين الثبات؟! فقط للمعارك المستحقة حتى ولو خرجت مصابا.. يكفيك أن تفرغ ما بصدرك من أحزان أو حتى تهرب من عاطفة تؤذيك ظللت تهرب منها أوقاتا طويلة. 

وهل الهروب قرار عشوائى تبعا لأهواء كاذبة؟ أم أنه مدروس يضمن عوامل النجاح؟ إنه يحتمل الأمرين.. فقد يكون نتيجة حالة من الإحباط والسأم أو لحظة قوية للانطلاق.. وقد يكون انفجارا عظيما.. وقد يكون فرارا من انفجار عظيم بسبب ما حوته النفس من هموم وأوجاع وضغوطات.. وقد يكون حلما نسعى لتحقيقه، وقد نهدمه بأيدينا بعدما يتحول لكابوس.. وقد نهرب من واقع مؤلم نعيشه بحلم ما نلبث أن تصحو أنفسنا بعده مرتاحة بعدما أخذت هدنة من الخيال.. وقد يكون هروبا من التناقض الذى نعيش فيه.. وقد يكون قفزات مضطربة طلبا للنجاة.

وتصبح أمنية الهروب لحياة أفضل بمثابة الجنة التى تصبو إليها أنفسنا.. التى تبدأ فى العادة بالرغبة غير المكترثة بالخسائر.. فقد تكون محبطا أو سئمت ومللت أوضاعا تقيدك فلا تحسب حساب سوى أن تنحو بنفسك من هذه الحالة فتسيطر عليك حالة الظن والتوقع.. وعلى فكرة كلنا نمر بهذه الحالة التى قد تصل لتمنى الموت معتقدين أن به الراحة.. وقد ترغب فى أن تنتقل من الوهم إلى الراحة.. وقد تكون العكس فتنتقل نحو الوهم فتسقط فى الفراغ مرة أخرى.. حسب مشاعرك ودوافعك وظنونك غير المدروسة لتصبح حالة من الرغبة فى أن « تطفش» وتتمنى ألا تعود مرة أخرى.. ولا يعتد بالأسباب التى دفعتك لهذه الحالة سواء كنت فيها مجبرا أو حتى متطوعا لأنها بمثابة حالة سحرية تمتلكك فتتمنى معها الهروب لتقضى على آلامك، وقد يسيطر عليك الخيال الذى يسبقه حالة من الصمت أو حتى حالة من الصراخ والعويل والتهور.. المهم أنها حالة شعورية مضطربة فى ظل تعايشنا المستمر مع مخاوفنا وتناقضاتنا فدائما داخلنا صراعات نستحضر فيها كل التضادات التى تغيب معها الحالات والحلول الوسط إما لطبيعتنا التى لا تميل للوسطية.. فنعيش حالة معقدة تضيف تعجيزا لحالة العجز التى نحياها.. أو لأن الحل الوسط غير موجود أصلا فنصبح مدفوعين فى اتجاه معين إذا ما بحثنا عن الراحة التى قد نستيقظ منها على كارثة أو شيء أشبه بالانتحار.

أو قد يكون الإنسان فى حالة من الاتزان والمراجعات المستمرة لنفسه التى تجعله فى حالة تصحيح وتصويب دائم يريد بها الأفصل بتحقيق شيء من الاعتدال والتوافق مع القيم فيرفض ما يجعله يختل توازنه ناحية الجانب السلبى فيسعى باستمرار للجانب الإيجابى، وهذه ظاهرة صحية ولا يصل إليها غير العقلاء الذين يضعون لأنفسهم مثلا عليا وأهدافا مثالية أو حتى شبه مثالية.. ويحبون أن تكون أنفسهم راضية من منطلق قيم قد تكون أخلاقية أو حتى دينية مع العلم أنه لا تعارض بين الأخلاق والدين فكلاهما يدفع الإنسان للتوافق والسلام الداخلى المؤدى للتناغم مع الكون المحيط به الذى يتم فى العادة من خلال امتلاك الإنسان للضمير الذى يحركه باستمرار نحو الأفضل.. فيتعايش مع كل ما حوله بشىء من الصدق الذى يجعله يحيا فى هدوء وثبات نفسى فيرفض كل ما يدفعه أن يحيا فى فراغ أو يملأ نفسه بكيانات سلبية.

والسؤال من صانع الفراغ الذى يملأ أنفسنا؟! نحن ومن حولنا نصنعه من المخاوف والأوهام فيصبح داخلنا وحولنا.. فنصاب بحالة من الشرود تحتاج معها أنفسنا لرأب الصدع.. لأن أنفسنا أصبحت فى حالة من الصراع بين ما تمتلئ به من سلبيات وبين ما تود أن تهرب إليه ليخلصها من هذه الحالة.. فينشأ الصراع بين قوة الحاجة ووهن الإرادة أى بين الرغبة والمستحيل.. فتمتلئ أنفسنا بعقبات عدة علينا أن نتجاوزها بالهروب منها أو حتى بالمواجهة.. وقد يكون الشغف هو دافعك للهروب لرغبتك فى حياة أفضل.

إلا أنه فى الوقت نفسه قد نكون مجبرين على المكوث فى الفراغ الذى يتطلب منا التعامل معه بحكمة وترويض وتشاغل مثمر وإلا أصبحت حياتنا فارغة.. فكثير منا ما يعجز عن الهروب ويضطر للمكوث مكانه يتجرع الخيبة والخذلان.. فلا يرى طريقا غير الذى سار فيه على عكس الآخرين الذين امتلكوا من الجرأة ما جعلتهم يغيرون طريقهم مهما كان القرار شاقا ولو وصل بهم الأمر للقفز من أعلى أو التسلق أو حتى السقوط عكس الاتجاه.. كل حسب قناعته وقوة تحمله.

وهل تكلل مرات الهروب بالنجاح؟!، فى الحقيقة أننا نهرب من منعطفات وشرور لكن من الممكن أن نعود ونسقط فيها دون أن نحسب لخطواتنا حسابا فقد نسقط فى فراغات أخرى، لأن رغبة الهروب نفسها حينما تسيطر علينا لا نرى غيرها.. فلا تفكر سوى فى النجاح فى الفرار ولا تلتفت لما تقابله من فخاخ وكمائن.. وقد تعاود الكرة مرة أخرى.. وقد لا تستطيع النهوض فتعاود حالة الفراغ والكآبة مرة أخرى.. هى الحياة التى نقضيها فى كر وفر لمن يقدر عليها فقط.. فهناك أشخاص ليست لديهم الرغبة أو المقدرة على هذه العمليات الشاقة فتحركهم الأشياء أو الآخرون فى دروب الحياة فتسقطهم وترفعهم كما تريد.

وفى رحلة الهروب قد نبحث عن أنفسنا داخل الزحام والضجيج.. فنصنت لأنفسنا لنلتقى بأرواحنا فى صمت يجعلنا نسمع أصواتنا الداخلية باحثين عن الفطرة التى خلقنا الله عليها.. فنهرب للسكينة ليكون هروبا صادقا نعيد فيه اكتشاف أنفسنا وأرواحنا بعدما سارت وهربت فى متاهات ورحلات واهمة ضللنا فيها الطريق.

وقد يهرب الإنسان من وحدته وحرمانه وجوعه العاطفى باحثا عن قلب حنون ويد تمسح دموعه وحضن يضمه ويحتويه فتهدأ نفسه وتطمئن.. فما أجمله هروب!

وتقول لنفسك التى أتعبها الفراغ.. ترى هل حزمت أمتعتك استعدادا للهروب؟!، أم ستتركين شيئا وراءك بعدما أصبح كل همك أن تنجو بنفسك من دوامات وعقبات أصبحت قيودا وأغلالا تستحق تحطيمها والفرار منها مهما كان الثمن؟! وهل رحلتك محسوبة؟! أم هى لحظة طيش ستندمين عليها؟! أم رغبة عارمة اجتاحت نفسك للتغيير حتى وإن كان غير محسوب العواقب؟! وهل ستنظرين إلى ما خلفتيه وراءك أو تهتمين بمتتبعيك أو حتى بمحاولات إعادتك؟! لتكون الإجابة لا يهم بعدما اتخذت قرار الرحيل لم أعد أهتم.. هل تعلمين أنه غير مسموح للهاربين بحق العودة مرة أخرى، فالهارب فى نظر المجموع مارق لا يستحق حياة الجماعة بضغوطها وقوانينها.. فهم من صنعوا لك الظواهر لتصبحين جزءا منها وعندما تعودين فمصيرك السجن والعقوبة والتهذيب!

لتجيب: قلت لك إننى أنجو بنفسى ولنفسي.. وهل تستطيعين أن تحيا وحدك؟! نعم فما وجدت منكم غير أغلال فى عنقى وأساور حديدية فى أيدى وقدمي.

ويستمر الحوار وماذا عن الحنين؟ لقد أشعلت النيران فى صندوق ذكرياتى فلم أعد أذكر منه شيئا.. وإذا ما فشلت هل ستعودين؟ لن أفشل فهى هجرة وسفر بتذكرة دون عودة فسأحيا من جديد كما أبغى وأريد.. من ستأخذين معك؟ لا أحد لكنى أرحب بالضيوف والزائرين الذين يحلو لهم أن يروا ماذا أصابنى بعد الفرار.. لا بأس حتما سأكون أفضل وأشعر بالفخر حينما يأتون إلى فى مزارات السائحين.

ومن أين أتيت بهذه الثقة؟ من إصرارى على الفرار فإن نجحت فحتما ستروننى أفضل وإن فشلت لن أكون بينكم ومن أين ستصلون إلى.. فلن يكون الفشل أكثر من وجودى وسط فراغ مميت حطم ما تبقى بى من إنسانية.. فالهروب أوجب على الموت لأتعافى من جديد.. فإنى أهرب من كل ما سلب منى حياتى وأحالنى لعاطل عن العمل أو حتى للتقاعد وأنا ما زلت فى عنفوان شبابي.. ولست أول أو آخر من يهرب.. فالهروب حقيقة يا عزيزي.. منا من يهرب داخله فينسحب ويعتزل ويكتئب ومنا من يهرب خارجه ويحيا بشخصيتين لا يستطيع أن يتناغم معهما.. ومنا من يهرب فى اتجاهات متضادة تحيل حياته لمزيد من التشتت والتيه.. فقد يقرر الإنسان الهروب، لكنه يفتقر لوجهة المسير أو حتى لا يعلم متى أو كيف؟! وقد يتعلق بالخيال ليهرب من الواقع الذى تسيطر عليه حالة من الجمود والمرارة.. لكن الخيال يصبح قاصرًا إن لم يدفعنا لخلق واقع جديد تتحقق فيه رغبة الفرار من كل شيء سلبى فيصبح الخيال بمثابة الطائرات التى تحلق فوق رءوسنا نتعلق بها لتحقيق أحلامنا بالهروب بعيدا لتحقيق حلم الحياة أو حلم الهروب من الحياة بسبب حالة البؤس التى يحدثها الفراغ القاتل فيدفعنا لبذل جهود تقربنا من تحقيقه حتى لا نصاب بالندم على ما فاتنا أو نتأخر فى تحقيقه وعندها نقول لماذا كل شيء جميل يأتى متأخرًا.