رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


فن الاستغناء عبادة وقيمة وسلوك حضاري

12-3-2022 | 17:30


مها محسن

مع قرب حلول أي مناسبة اجتماعية أو دينية أو وطنية، وتيقني من استنفار البيوت المصرية وتحولها لحالة الاستنزاف المادي التي تتعرض لها طواعية، أجدني بالتبعية في حالة استنفار أنا الأخرى ولكن على الصعيد النفسي، فالمعظم يتعامل وكأنه مُسيّر لا مُخيّر برغم وجودنا في عالم ضخم ومتنوع من الاختيارات والبدائل والمواءمات.

إلا أنه ومع ارتفاع سقف طموحات ومطالب المعظم على المستوى العالمي لا المحلي فقط، نجد خانات الكماليات وقد تحولت إلى خانات الأولويات القصوى التي لا يمكن الاستغناء عنها، وهو الأمر الذي يسعى إلى تنفيذه كل القائمين على استراتيجية تحفيز السلوك الشرائي وتحويله إلى سلوك شره لا سلطان عليه، أي ليس مقروناً بحاجة ماسة أو ضرورية.

فموسم دخول المدارس أصبح أزمة، وموسم الاحتفال بالمولد النبوي برغم طٌهر المناسبة أصبح أزمة، وموسم شم النسيم أزمة، ومواسم الأعياد أزمة عصيبة، وموسم رمضان أزمة الأزمات لطول أيامه، الكل يتناسى لوهلة الغرض الأساسي من الاحتفال ويتذكر فقط العلاقة الشرطية التي أنشأها المصريون بين المناسبة والأكلة الحتمية المقرونة بها حتى وإن كانت مناسبة وطنية في بعض الأحيان.

فعلى الرغم من كوني وأسرتي من المحسوبين باعتبارهم أسرة ميسورة الحال يميل منحناها مع الوقت تجاه الأسفل جراء كل الإجراءات الاقتصادية التي تحملها الشعب المصري بكل صمود، إلا أننا اتفقنا كأسرة منذ زمن بعيد على ألا ترهقنا تلك الاعتبارات، وعلى أن نمارس مع قرب قدوم أي مناسبة سياسة الاستغناء والتعفف طواعية، والحق أقول أنني -وفقاً لمفاهيمي التعففية- قد وجدت متعة ولذة تشعرك بأنك فوق الأشياء لا أسفلها، أتحكم فيها لا تتحكم في، تماماً كما الصائم في بلاد الغرب برغم طول عدد ساعات الصيام أوقات الصيف وانكباب الجميع من حوله على شتى أنواع الطعام.

المُتَّبِع لهذا السلوك ليس مرفهاً ولا ثرياً يمارس سياسة التواضع والتباسط، بل هو مُستغنياً عن تحكمات الجماد ومن خلفه، ومكتفياً بالقليل المٌبارك فيه عن الكثير المُشَتِّت والمُهدَر بالتبعية، ومُدركاً أن كل القيم الدينية في كل الأديان تدعو للحكمة والتوازن في الاستهلاك من باب ممارسة عبادة الزهد والتقرب إلى الله، وأيضاً الحفاظ على نعمه وتقديرها والاستغناء عن بعضها لمن هم أقل نصيباً في الدنيا من البسطاء والفقراء، ومشاركتهم الشعور ببعض المعاناة ولو لقليل من الوقت.

الغريب في الأمر أن كل الدول الصناعية الكبرى التي نستورد منها معظم احتياجاتنا بل وكمالياتنا، هي نفسها التي يتبع مواطنوها سياسة الاقتصاد بقدر الحاجة، فكل مقيم وزائر لدولهم يمكنه ببساطة ملاحظة السلوك الشرائي لهم داخل محلات الأكل الصغيرة والكبيرة، ففي الوقت الذي تجد فيه سلة شرائنا ممتلئة عن بكرة أبيها بأكياس المكرونة والدقيق والمخبوزات واللحوم والطيور والمكملات الغذائية، تجدهم يحاسبون على ثمرة فكهة واحدة وقطعة خضار واحدة ووردة تساعدهم على تحمل قسوة برودة الجو والمشاعر.

وبرغم ازدياد حجم ووتيرة التحديات العالمية التي يعاني منها العالم ما بين انتشار للأوبئة وخسارة العديد من الأرواح البشرية وفقدان العديد لوظائفهم، وحروب يتخطى تأثيرها الحدود الإقليمية لتنال من اقتصادات العالم أجمع تطبيقاً لنظرية الأواني المستطرقة، إلا أنه ومع كل أسف ما يزال الجزء الجنوبي من هذا الكوكب وبشكل أخص منطقة الشرق الأوسط كلها تعاني من أثر ظاهرة التباهي الاجتماعي، فالتدليل على الثراء ويسر الحال لا يصبح ساري المفعول إلا بموائد الطعام المكتظة بمختلف الأصناف، والفرحة العائلية تظل مرهونة أيضاً بشراء تلك الأصناف أو غيرها ممن لها علاقة بطبيعة المناسبة، وبغيرهم ينتفي الهدف الأساسي من المناسبة حتى لو كان الشهر الكريم ذاته الذي يدعو إلى الزهد والتقشف للشعور بمعاناة الغير وتقدير النعم الربانية.

 أعلم من تكرار سفراتي أن الغرب ينظر لنا نظرة استنكارية استهزائية بسبب سلوكياتنا الشرائية السفيهة وعاداتنا الغذائية الشرهة من وجهة نظرهم، وأرى في ذلك الكثير من الصواب الذي يستحق التوقف، فالباحث في إحصائيات الهدر من موائد الشرق الأوسط وبالأخص الخليج العربي سيصدم ويتألم كثيراً، فقد ساقني طريقي في إحدى المرات الاطلاع على إحصائية صادرة عن إحدى المجلات الاقتصادية الأوروبية عن الفائض المهدر من موائد الخليج العربي خلال شهر رمضان المبارك فقط، والمؤلم في الأمر أنهم أشاروا إلى أن فوائض تلك الموائد كفيلة بأن تطعم دولاً بأكملها، سواء دول أفريقية فقيرة، أو دول من دول الجوار التي تعاني مجاعات بسبب النزاعات المسلحة.

الأمر بكل صدق يدعو للتوقف مع الذات، ومراجعة كل الحسابات الدنيوية والاحتياجات الحقيقية، تماماً كما كان تفعل أسرنا فيما سبق، تدوين الاحتياجات ومقارنتها بالدخل المتاح بالشكل الذي يحقق أقرب توازن مطلوب وبالقدر الذي لا يمثل عبئاً على عائل الأسرة، ولا تقصيراً منه.

دعوة للتعفف قبيل حلول الشهر الكريم، ففي التعفف لذة شعور بالقوة، وعبادة عظيمة نحتاج لها لا تحتاج هي لنا.