يُعرف القادة ببعد النظر وقدرتهم على قراءة الواقع وتقدير المسار للمستقبل، هكذا الحال لشخصيات تاريخية عرفتها المنطقة وأدركها العالم، مثل عبد الناصر والسادات وياسر عرفات ومصطفى بارزاني.
لو حققنا نظريات هؤلاء لوجدنا لكل منهم رؤيته التاريخية الصائبة للأحداث المعاصرة ونظرته المتأملة للمستقبل، فناصر نادى بوحدة تبنى على قومية اللغة، والسادات قدم بدائل مقبولة لأزمة الصراع بالمنطقة، وعرفات وجد في المقاومة والتمسك بالحقوق الفلسطينية المشروعة المبدأ الأسمى في بناء الدولة، ومصطفى بارزاني وجد في الشراكة والتعايش حلا لعراق تعددي فرضت سايكس بيكو على قومياته وشعوبه حدود سياسية مقننة.
وبصفتي كاتبا وباحثا كرديا عراقيا أقول إن بارزاني رغم رحيله منذ مارس 1979 إلا أنه لايزال حيا في قلوب المخلصين من العراقيين، فهو أول من نادى ببناء مجتمع ودولة مدنية وناضل لأجل السلام والديمقراطية للعراقيين كافة .
ولد بارزاني في 14 من أذار مارس عام 1903 لعائلة وطنية دينية بمنطقة تعتبر مهد الثورات والنضال والعدالة الاجتماعية هي بارزان عرين الأسود، وعانى منذ طفولته من بطش الحكم العثماني حيث سجن مع والدته وهو في الربيع الثالث من عمره، وترعرع في عائلة تؤمن بالعدالة الاجتماعية والمساواة والحرية والحفاظ على البيئة.
شارك القائد الكردي مصطفى بارزاني وقاد العديد من الثورات بدءا من ثورات بارزان والسعي لتأسيس أول جمهورية كردية عام 1946، جمهورية مهاباد في كردستان إيران، وبعد انهيار الجمهورية التجأ بارزاني مع عدد كبير من رفاقه من خلال ملحمة بطولية ومعارك مع قوات ثلاث دول واجتاز الوديان والجبال حتى وصل بهم إلى الاتحاد السوفيتي السابق وأصبح لاجئا سياسيا مع رفاقه، وهناك دافع عن قضية شعبه، حتى وقع العدوان الثلاثي على مصر.
قال بارزاني في حديث صحفي لمراسل جريدة أخبار اليوم في 29/11/1967، "دفنت ابني بيدي ولم أبك، لكن بكيت يوم العدوان على مصر".
وعن القضية الفلسطينية قال "قضية فلسطين ليست قضية العرب وحدهم، ولكنها قضية الإنسانية".
هكذا كان بارزاني يشعر بالظلم الذي لحق بشعبه وكان سببا في دعمه ومساندته الشعوب المضطهدة، ونتيجة لوعي الشعوب من أجل الحرية والاستقلال بعد الحرب الكونية الثانية أسس الحزب "الديمقراطي الكردستاني" في 16 أغسطس 1946 تحت شعار "الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان".
لم يؤمن بالقتال لأجل الحصول على حقوق شعبه بل كان دائما مع السلام وحل الخلافات بالطرق السلمية والحوار، إلا أن تعنت السلطات في العراق آنذاك وانحراف بعض قادة ثورة 14 تموز يوليو وقيام الحكومة آنذاك بشن هجوم عسكري على المدن والقرى الآمنة أدى إلى قيام ثورة كردية بقيادة الأب الروحي للشعب الكردي مصطفى بارزاني، سميت بثورة أيلول سبتمبر لأنها بدأت في 11 من سبتمبر العام 1961، وحاول بارزاني منع احتكاك قوات الجيش مع قوات بيشمركة كردستان حقنا للدماء.
وخلال رجوعه من منفاه بالاتحاد السوفيتي السابق إلى العراق استقبل استقبال الأبطال، كما استقبله الزعيم الراحل الخالد الذكر جمال عبد الناصر في القاهرة في أكتوبر 1958 وكانت هذه بداية للعلاقات المصرية الكردية في العصر الحديث.
كان بارزاني شخصية واسعة الأفق من النواحي السياسية والعسكرية والدينية والثقافية، له شخصية ذات هيبة ومكانة، فالعديد من الصحفيين الذين أجروا لقاءات معه أشادوا بشخصيته والكاريزما التي يتمتع بها.
اليوم نحتفل بذكرى زعيم له رؤيته التاريخية الصائبة للأحداث، بينما حزبه الديمقراطي بقيادة الزعيم مسعود بارزاني يواصل نضاله من أجل السلام والديمقراطية وبناء عراق ديمقراطي فيدرالي تعددي تلتزم أطرافه وقواه كافة بالدستور، ونؤكد احترامنا للدول والقوى الديمقراطية المحبة للسلام وحقوق الإنسان، وفي مقدمتهم مصر ورئيسها الزعيم الراحل جمال عبدالناصر.
واليوم نثمن ونقدر، نحن الكُرد كافة، مواقف الرئيس عبد الفتاح السيسي في دعم الحقوق القومية الدستورية لنا، ودعمه الدائم لبناء دعائم الاستقرار والسلام في العراق والمنطقة التي كسبت زعيما جديدا بظهوره ونضاله ضد الإرهاب.