الشهيد محمد السايح العادلي : علم .. بطولة .. فروسية
في إحدى ليالي عام 1933؛ استيقظت مدينة طنطا من نومها على صوت انفجار مدوٍ في مخزن الأسلحة الإنجليزي، وفي المخزن المحترق عُثِّرَ على الجنديين الإنجليزيين المكلفين بالحراسة، مكبلين ومشدودًا وثاقهما بالحبال، أعينهما الزائغة بصمتها المذعور تعلن للقيادة الإنجليزية بأن الفاعل لديها مجهول.
أثلجت الواقعة صدور الأهالي الموتورين من جنود الاحتلال، يرقبون في تشفٍ مخزن السلاح وهو يتحول إلى كتلة من اللهب، وقبل بزوغ الفجر كان الإنجليز ينقبون بإصرار عن ذلك الفاعل المجهول الذي سطا على أسلحة وقنابل من نفس المخزن قبل أسابيع، ليؤرق سكينتهم ويُضيِّع هيبتهم، انطلقوًا يبحثون عن الفاعل في حملات تفتيش مسعورة صوب البيوت والمزارع والأزقّة، ولما تمادت أفعالهم قصد الأهالي القائمقام محمد عدلي المحبوب من الأهالي مساعد حكمدار مديرية الغربية ليتوسط لدى قائد القوات الإنجليزية أن يخفف من وطأة أعمال التفتيش والاعتقال التعسفي، كف محمد عدلي عن الأهالي غضبة الإنجليز، بعدما نجح في إقناع الضابط الإنجليزي بعدم جدوى ما يفعلوه أنه سوف يسلم الفاعل له قريبًا، وافق على مضض لا تزال تساوره شكوك تجاه محمد عدلي الذي انشغل منذ صباه بقضايا الوطن وحقه في الاستقلال رغم أنه ابن وحفيد لعين أعيان قريته بني هلال في مركز المراغة بمديرية جرجا "سوهاج حاليًا" ؛ فتاريخه معهم - الإنجليز- لما قبل عشرين عامًا لا يزال يكتنفه الكثير من الشكوك حول إضراره بمصالحهم، فلم يكن طيًعا منذ تخرجه في كلية البوليس ثم ضابطًا في أسيوط، فقد كان من تلاميذ الزعيم مصطفى كامل وتشكيله لخلية مقاومة في أسيوط قبل ثورة 1919 والتفاف الناس هناك حوله، وفي أثناء ثورة 1919 تم نفيه إلى أبعد حدود المحافظة كي لا يكون على احتكاك مباشر بالجمهور بعد تصنيفه ضمن العناصر الثورية ضد الإنجليز.
عاد القائمقام محمد عدلي ليلة انفجار مخزن الأسلحة من حكمدارية الغربية إلى بيته منهكًا بعد يوم شاق استطاع فيه مداوة شيء مما فعله الإنجليز مع الأهالي، وصعد إلى الطابق الثاني ليقابل ذلك الفاعل المجهول الذي قلب الدنيا رأسًا على عقب، بابتسامة حانية ربّت على كتفه، كان ابنه الطالب بمدرسة طنطا الثانوية محمد السايح، المتفوق في دراسته، الموهوب، فهو العضو الأهم بفرقة التمثيل في المدرسة، وكذلك رئيس فرقة الكشافة، كوّن خلية مقاومة سرية في طنطا مع زملاء له، عاشقًا للفروسية، فلم يكن يقضي وقت فراغه إلا بين الكتب أو فوق ظهر جواده.
لم يمنع الضابط الثائر ابنه عن الحركة الوطنية حفاظًا على منصبه الشُرطي أو يؤثر السلامة بعدما طاله من الإنجليز في حياته من نفي وإقصاء، لأنه أيقن أنه آمن بقضية وطنه مثله، تركه في معية الله ليحفظه، وبارك الأب القوي الحاني ما يفعل لأن عروقه تنبض بما يحرك هذا البطل الصغير، فقد أقدم وزميل له على اختلاس قنابل يدوية وإلقائها على مخزن السلاح حديث الساعة، ثم كتابة وتوزيع المنشورات الوطنية التي انتشرت في المدينة ما أزعج رجال إسماعيل صدقي في القاهرة.
وفي آخر سنوات الثلاثينيات انتقل محمد السايح يدرس الطب في القاهرة، ليلقى له قدوة عظيمة، شقيقه الأكبر مصطفى محمد عدلي، المحامي خريج جامعة فؤاد الأول دفعة 1935، كان يقطن محمد السايح معه في بيت الأب في شارع الأفضل بحي شبرا، وفي ذلك البيت التقى محمد السايح شخصيات سياسية ممن كانوا يزورون شقيقه الأكبر وتفاعل معها وتأثّر بهم وبفكرهم الوطني، مثل أحمد حسين وفتحي رضوان وإبراهيم شكري وأحمد الوكيل، وقد أسسوا مع شقيقه جمعية "مصر الفتاة"، وسطعت أسماؤهم في سماء السياسة بعد "مشروع القرش"، ثم تحولت الجمعية إلى "حزب مصر الفتاة" عام 1937، وكان مصطفى عدلي فيه قائد جناح المجاهدين، ومع بداية الحرب العالمية الثانية ترأس تحرير جريدة "مصر الفتاة" لسان حال الحزب؛ وفي عام 1941 حصل محمد السايح على بكالوريوس الطب، ثم التحق بالكلية الحربية وتخرج برتبة ضابط طبيب بتقدير "باهر" وتكريم من الكلية لقدرته الفروسية النادرة، انتظم بعدها بالسلاح الطبي الملكي في كوبري القبة، ونقل بعدها إلى بور سودان عام 1943 هناك كان يقضي وقته في المستشفى أول اليوم، ثم بعد انتهاء العمل في القراءة حتى ساعة متأخرة من الليل.
عاد السايح إلى ألماظة وفي عام 1944 انتقل إلى بورسعيد، ثم فترة ما قبل انتقاله لأرض المعركة في فلسطين قضاها في المستشفى العسكري بالقاهرة طبيبًا نشيطًا متميزًا، وفي تلك الفترة توطدت صداقته بالزعيم الراحل جمال عبد الناصر الضابط بكلية الأركان.
كان محمد السايح يتأكد بأن مصر تعيش في حالة من حالات التبعية السياسية والاقتصادية التي تسبب فيها نظام الحكم القائم الفاسد، والذي يجب إزاحته عن السلطة، ولن يكون هناك سبيل لذلك إلا بضباط الجيش أن يتحرك فوحده من بيده القوة لذلك.
وفي تلك السنوات الحاسمة اختلط السايح بالعديد من ضباط الجيش ممن جمعتهم روح وهدف الخلاص من السلطة التي تدعم الاحتلال وتمتص خيرات الوطن، ومنهم كان عبد اللطيف البغدادي وعبد المنعم رياض وحسين الشافعي، وفي تلك السنوات الحاسمة كان على اتصال بأغلب الضباط الأحرار، حتي لاحت نذر حرب فلسطين في الأفق، وقد وقف قبلها يؤكد أنه سوف يكون من أوائل المحاربين هناك لو حدثت الحرب، وتحققت أمنيته، وقامت حرب فلسطين وسافر السايح إلى أرض المعركة في أول يونيو عام 1948، وقبل استشهاده بيوم أرسل خطابًا إلى شقيقه ضابط البوليس فتحي محمد عدلي "أنا في فلسطين وفي الصفوف الأمامية"، ثم أقام معسكره في المجدل ومعه مستشفى ميداني ليسهل تنقله، واتخذ موقعًا متقدمًا في"عراق سويدان" حيث بدأت المعركة واشتدت، فنصب السايح خيمة يعالج فيها زملاءه والجنود، وأصيب أثناءها ضابط مهندس مدده السايح على المحفة الطبية وركع أمامه يعالجه، حتى سقطت على الخيمة قنبلة هاون أطلقها الصهاينة، لتتطاير منها شظية تصيب الخوذة الفولاذية من الخلف فيموت البطل من دون نقطة دم واحدة، ونقل جثمانه الضابط طبيب إبراهيم سامي إلى مستشفى المجدل، وسجل لحظة استشهاده الضابط محمد عبد العزيز النشتي بأن : كنت أراه في المعركة وفي يده مشرط وضمادات وحقنة ضد تسمم الجروح وفي قلبه الكبير تزخر الشجاعة النادرة إذ كان يتقدم الصفوف الأمامية ويعانق المصابين لحملهم إلى داخل المستشفى الميداني ليضمّد جراحهم ويبعث فيهم روح الأمل للعودة إلى المعركة .. نسي أن له ولدًا صغيرًا فقد تركه في معية ربه .. كان يقوم بواجبه تحت قنابل ورصاص العدو إلى أن حمل إليه جريحًا وفي ذات الوقت جاءت الأوامر أن يخلي ميدان المعركة لأن المستشفى في مرمى نيران العدو .. فقال : إذ أنتهي فلن يمهلني الموت لحظة ..
أمسك بمشرطه وتقدم يعالج المصاب، حتى أصابته شظيّة أودت بحياته إلى جنة الخلد في يوم 2 يونيو 1948 وطار خبر استشهاده إلى أسرته في القاهرة وإلى بني هلال في سوهاج، رفض والده الأميرالاي محمد بك عدلي تلقي العزاء فيه واحتسبه شهيدًا، وتم دفن الجثمان الطاهر في فلسطين، وفي 31 يوليو عام 1949 أهدى والده الحصان الخاص بالبطل إلى الكلية الحربية.
يستشهد السايح وهو في عمر الثلاثين، تاركًا وراءه ابنه الوحيد "محمود"، ليكمل رفاقه المسيرة ويحققون حلمه الذي عاش يكافح ويناضل من أجله حتى آخر أنفاسه، فقاموا بثورة يوليو ولم ينسوه لحظة، فلو كان على قيد الحياة لكان معهم أول الضباط الثائرين؛ فأول ما قاموا به هو الإتيان برفاته من فلسطين إلى مسقط رأسه ودفنها في سراي العادلي ببني هلال المراغة، وسمّي مستشفى الكلية الحربية باسمه "مستشفى الشهيد محمد السايح عدلي".
ولا يتوقف مسلسل تكريم البطل الشهيد من جانب زملائه وأخلاّئه، بل يطلق اسمه على محطة السكة الحديد وأكبر مدرسة بالمراغة مسقط رأسه، ولا سيما احتضان الرئيس جمال عبد الناصر لابن الشهيد "محمود" وإرساله إلى بعثة تعليمية خارج البلاد لينتهج نهج والده ويصير طبيبًا مثله.
رحم الله الشهيد البطل ورحم كل شهدائنا الأبرار وأسكنهم جنات الخلد، السايح محمد عدلي أول طبيب ضابط في الحروب وحلقة في مسيرة هذا الوطن الحافلة بالشهداء والتضحيات.