رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


الشُّرطةُ المِصريةُ في مواجهةِ الاحتلالِ الغَشُومِ

21-3-2022 | 19:19


د. صبري فوزي أبوحسين

د. صبري فوزي أبوحسين

لا ريب في أن الأمن ضرورة من ضرورات الحياة في كل مجتمع، وهو نعمة جليلة من الله –تعالى- على مصرنا الحبيبة، الزاخرة بالآثار العظيمة والثروات الكثيرة والمتنوعة، والممتدة في مختلف نواحي وطننا الواسعة وبقاعه الشاسعة. 

 

وقد وُجِد في وطننا مَن اختارهم الله-تعالى- ليجاهدوا من أجل أن يحافظوا على البلاد والعباد والثروات من إنسان وحيوان ونبات وذخائر، وهم يبذلون ما في وسعهم لتحقيق ذلك؛ لنحيا في سلام واستقرار يتيح لنا أن نمارس حياتنا دون قلق أو وَجَل أو ضيق أو خوف أو تهديد أو إرهاب أو إرجاف أو فتن أو قلاقل، ونحيا في ستار من الطمأنينة والكرامة والرخاء والإنتاج والتعمير، عن طريق هؤلاء الأشاوس الصناديد الذين يسهرون في سبيل الله تعالى؛ لحراسة مصالح البلاد والعباد، هؤلاء الجنود المرابطون الأشداء الأصلاء النبلاء، الذين لم يتوانوا عن التضحية بأوقاتهم، بل وأرواحهم في سبيل هذه الغاية النبيلة، ليصدق فينا قول الله –تعالى- على لسان سيدنا يوسف -عليه السلام-: {ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين} [يوسف:99].

 

  وهذه الحراسة للبلاد والعباد -التي يقوم بها هؤلاء الجنود الأبطال- تُسمَّى في شريعتنا السمحة (الرباط)، ولها أجر كبير، يدل عليه الحديث المرويُّ عن سيدنا عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما- حيث قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ الله، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ الله" [رواه الترمذي وحسنه]؛ فهؤلاء الشُرطِيُّون الأشاوس هم العين الساهرة الحارسة التي قدمت صالح الوطن وأبناءه ومحاربة أعدائه على كل شيء حتى أنفسهم.

 

وفي التاريخ المصري الحديث دور فريد وعمل مجيد للشرطة المصرية يُذكَر ويُشكَر، ولا يُجحَد أو يُنكَر، لابد من تعريف الأجيال المصرية الشابَّة والقادمة به تعريفًا متنوعًا تعليميًّا وتثقيفيًّا وأدبيًّا وفنيًّا؛ وذلك لبثِّ الأمل في النفوس، وللقضاء على خطط التيئيس والتقنيط، ولمحاربة الدعاية الإرهابية السوداء، ولتقديم النماذج النبيلة الخَيِّرة البنَّاءة المُعمِّرة، المُضَحِّية في غرض تحقيق الخير والأمن كلَّ غال ونفيس؛ لتكون قدوات ومُثُلاً عُليا أمام شباب الوطن القادم.

 

ويتمثل ذلك الدور التاريخي في معركة الإسماعيلية (سنة 1951م) الشرسة بين رجال الشرطة المصرية والجيش الإنجليزي، تلك المعركة التي كان لها أسباب ظروف مُمَهِّدة لها، وأثمرت عدة نتائج خاصة، ويمكن أن نتعرف على ذلك عبر مراحل ست، تمثل مواقف مصرية شعبية ورسمية مجيدة وخالدة، هي: 

 

1- إلغاء معاهدة سنة 1936م المُكَبِّلة للمصريين والمُرَسِّخة للاحتلال:

 

ففي اليوم الثامن من شهر أكتوبر ‏1951م‏ أعلن رئيس الوزراء مصطفى النحاس - أمام مجلس النواب- إلغاء معاهدة 1936م، تلك الوثيقة المُكَبِّلة لمصر والمصريين والمُبرِّرة للاحتلال، والتي كانت قد فرضت على مصر أن تتخذ من المحتل الإنجليزي وليًّا لها، ليُفرض عليها عبء الدفاع عن مصالح بريطانيا، وإن هذا الإلغاء استجابة لمطالب الحركة الوطنية والشعبية الداعية إلى الخلاص الكامل من الاحتلال وتحقيق الاستقلال التام من هذا العدو الغاشم الجاثم على البلاد والعباد، والبالغ مدة أربع وسبعين سنة (1882-1956م).

 

2- مساعدة جهاز الشرطة للمقاومة المصرية: الشبابية والشعبية للاحتلال الإنجليزي:

 

عقب إلغاء هذه المعاهدة بأيام قليلة نهض شباب مصر إلى منطقة القناة؛ لضرب المعسكرات البريطانية في مدن القناة،‏ واشتدت أعمال التخريب والأنشطة الفدائية ضد معسكرات العدو وجنوده وضباطه في منطقة القنال، ودارت معارك شرسة بين الفدائيين وجنود الاحتلال، واستطاع الفدائيون بأسلحتهم المتواضعة أن يكبدوا الإنجليز خسائر فادحة، ‏ورافق هذه المقاومة العسكرية مقاومة عُمَّالية إيجابية مُؤَثِّرة؛ حيث ترك أكثر من (91572) عاملاً مصريًّا العمل في معسكرات البريطانيين، في الفترة من 16 أكتوبر 1951م، حتى 30 من نوفمبر 1951م؛ للإسهام في حركة الكفاح الوطني، كما امتنع التجار والمتعهدون المصريون عن إمداد المُحتلِّين بالمواد الغذائية، وتوريد الخضراوات واللحوم والمستلزمات الأخرى الضرورية لإعاشة ثمانين ألفَ جنديٍّ وضابط بريطاني.

 

3- انزعاج الإنجليز وتهديدهم الشرطة المصرية بسبب مواقفها الوطنية:

 

بعد هذين العَمَلِين الشعبيين المِصْرِيينِ الكَبيرَينِ، انزعجت حكومة لندن آنَئذٍ، فهدَّدت باحتلال القاهرة إذا لم يتوقف نشاط المصريين الفدائيين، الذين مَضَوْا في المقاومة غير عابئين بالتفوق الحربي البريطاني، وشهدت المعركة تحالف قوات الشرطة مع أهالي القناة‏،‏ وأدرك البريطانيون أن الفدائيين يعملون تحت حماية الشرطة‏،‏ فعملوا على تفريغ مدن القناة من قوات الشرطة؛ حتى يَتَمَكَّنوا من الانفراد بالفدائيين المصريين، عن طريق تجريدهم من أي غطاء أمني.

4- رفض الشرطة المصرية الاستسلام للإنجليز الغاصبين:

 

 في صباح يوم الجمعة الموافق 25 يناير عام 1952م قام القائد البريطاني بمنطقة القناة "ألبريجادير أكسهام"، واستدعى ضابط الاتصال المصري، وسلَّمه إنذارا لتُسلِّم قوات الشرطة المصرية بالإسماعيلية أسلحتَها للقوات البريطانية، وترحلَ عن منطقة القناة، وتنسحب إلى القاهرة، ورفضت قوات الشرطة تسليم المحافظة، مع أن أسلحتهم وتدريبهم لا يسمح لهم بمواجهة جيوش مُسلَّحة بالمدافع‏.،  وما كان من المحافظة إلا أن رفضت الإنذار البريطاني، وأبلغته رفضها إلى فؤاد سراج الدين باشا، وزير الداخلية في هذا الوقت، والذي وافق على هذا الرفض، وطلب من قوات الشرطة بالمحافظة

الصمود والمقاومة وعدم الاستسلام للمحتل الإنجليزي.

 

5- مقاومة الشرطة المصرية للعدوِّ الإنجليزي: 

 

اشتد غضب القائد البريطاني في القناة وأفقده قرار الرفض أعصابه، فقامت قواته ودباباته وعرباته المُصَفَّحة بمحاصرة قسم بوليس "شرطة" الإسماعيلية للدعوى نفسها، بعد أن أرسل إنذارًا لمأمور قسم الشرطة، يطلب فيه منه تسليم أسلحة جنوده وعساكره، وخروجهم من الإسماعيلية، وعدم وجودهم نهائيًّا فيها، وأعد الإنجليز قطارًا بمحطة السكة الحديد؛ لنقل رجال الشرطة  المصريين إلى القاهرة، ومنحوهم إنذارًا، مدته (٢٤ ساعة) للتحرك إلى المحطة،  غير أن ضباط الشرطة وجنودها رفضوا قبول هذا الإنذار، وأطلق البريطانيون نيران قنابلهم بشكل مُرَكّز وبَشِعٍ وبطريقة وحشية لأكثر من ست ساعات بدون توقف، ولم تكن قوات البوليس "الشرطة" مسلحة بشيء سوى البنادق العادية القديمة؛ فقد حاصر أكثر من سبعة آلاف جندي بريطاني مبنى محافظة الإسماعيلية وثكنات الشرطة، والذي كان يدافع عنهما (850 جنديًّا) فقط، واستخدم البريطانيون كل ما معهم من الأسلحة في قصف مبنى المحافظة، حيث دباباتهم (السنتوريون) الثقيلة وعرباتهم المُصَفَّحة ومدافع الميدان، بينما كان عدد الجنود المصريين المحاصرين لا يزيد على ثمانمائة في الثكنات وثمانين في المحافظة، لا يحملون غير البنادق، ومع ذلك قاوم الجنود المصريون واستمروا يقاومون ببسالة وشجاعة فائقة، ودارت معركة غير متساوية القوة بين القوات البريطانية وقوات الشرطة المُحاصرَة في القِسْم، ولم تتوقف هذه المجزرة حتى نفدت آخر طلقة معهم بعد ساعات طويلة. 

 

6- نتيجة المواجهة العسكرية بين الشرطة المصرية والجيش الإنجليزي:

 

كانت هذه المعركة غير متساوية بين القوات البريطانية وقوات الشرطة المحاصرة في العدد البشري والعتاد العسكري، وقد دافعت شرطتنا المصرية ببسالة عن أرضها بقيادة الضابط مصطفى رفعت حتى سقط منهم ستة وخمسون شرطيًّا مصريًّا شهيدًا، و(ثمانون جريحًا)، وهم جميع أفراد جنود وضباط قوة الشرطة، التي كانت تتمركز في مبنى القسم، وأصيب نحو سبعين آخرين، هذا بخلاف عدد آخر من المدنيين وأُسِر مَنْ بَقِي منه، ومما يُؤسف ويُؤسَى له رفض العدو الإنجليزي تقديم أيسر حقوق الإنسان لهم، وهو إسعافهم، ولم يكتفِ البريطانيون بالقتل والجرح والأسر، وقامت القوات البريطانية بالاستيلاء على مبنى محافظة الإسماعيلية، كما قاموا بعمل هَمَجي، وهو هدم قرى مُسالمة تابعة للمحافظة؛ لاعتقادهم أنها مقر يتخفَّى خلاله الفدائيون، فقتل عدد آخر من المدنيين أو جُرحوا أثناء عمليات تفتيش القوات البريطانية لهذه القرى؛ مما أثار الغضب في قلوب المصريين، فنشبت المظاهرات لتشق جميع شوارع القاهرة مليئة بجماهير غاضبة تنادي بحمل السلاح لمواجهة العدو الغاشم، ولم يستطع الجنرال الإنجليزي (إرسكين) أن يخفي إعجابه بشجاعة المصريين، فقال للمقدم (شريف العبد ضابط الاتصال): لقد قاتل رجال الشرطة المصريون بشرف واستسلموا بشرف؛ ولذا فإن من واجبنا احترامهم جميعًا ضباطًا وجنودًا، وقام جنود فصيلة بريطانية بأمر من هذا الجنرال بأداء التحية العسكرية لطابور رجال الشرطة المصريين عند خروجهم من دار المحافظة ومرورهم أمامهم؛ تكريمًا لهم وتقديرًا لشجاعتهم. وفي صباح السبت (26 من يناير 1952م) انتشرت أخبار هذا الحادث الدموي في مصر كلِّها، واستقبله المصريون بالغضب والسخط، وخرجت المظاهرات العارمة في القاهرة، واشترك جنود الشرطة مع طلاب الجامعة في مظاهراتهم، وانطلقت المظاهرات تشق شوارع القاهرة التي امتلأت بالجماهير الغاضبة، وقد مَهَّد هذا الحادث لقيام الضباط بثورة ( 23يوليو) بقيادة اللواء محمد نجيب في العام نفسه. وقد دل هذا الموقف التاريخي على أن الدفاع عن الأوطان ليس مرهونًا بامتلاك العدة والعتاد بل بمدى عقيدة الرجال الراسخة داخل نفوسهم، ومدى إخلاصهم لوطنهم، مع تكاتف بين الشعب والشرطة والجيش في سبيل هذه الغاية النبيلة.

وما أجمل -بعد هذا العرض التحليلي لهذا الحدث التاريخي للشرطة المصرية- أن نتخذ منه قبسًا نستنير به في آننا هذا، وأن نُثَمِّن التقدير الحكوميَّ الرسميَّ لهذا اليوم التاريخيِّ؛ حيث تحول يوم الخامس والعشرون من يناير إلى عيد للشرطة يُحتَفل به كلَّ عام، كما أنه أصبح عيدًا قوميًّا لمحافظة الإسماعيلية، وفي شهر فبراير 2009م، أصبح هذا اليوم المجيد يوم عطلة رسمية في مصر، كلَّ عام؛ تقديرًا لجهود رجال الشرطة المصرية في حفظ الأمن والأمان واستقرار الوطن واعترافًا بتضحياتهم في سبيل ذلك، هؤلاء النبلاء الأحرار المجاهدون المرابطون الواعون لطبيعة وظيفتهم ومتطلباتها، والعارفون لواجبهم تجاه الوطن، الذين شعارهم: لا استسلام ولا تهاون فيما يخص الوطن والمواطنين، وإنها لإحدى الحسنيين: إما النصر والأمن، وإما الموت والشهادة.

 

وما أنبل حرصنا على تكريم شهداء الشرطة الذين استشهدوا في هذا الحادث التاريخي، أثناء أداء واجبهم الوطني، أولئك الذين اشترى الله -عزَّ وجلَّ- منهم أموالهم وأنفسهم بأن لهم الجنةَ يُقاتِلون فيَقتُلونَ ويُقتَلونَ! 

 

إن أرض مصر خصبة مُنجبة ولَّادة، تفيض بالخير، وتصنع الرجال، ولا يمكن أن تَنضب أبدًا من الأبطال الذين يدركون قيمة الوطن وعظمته، وحتمية حبه والانتماء إليه، ولن ينال منها أي عدو متربص، بحول الله تعالى وقوته.

 

حفظ الله جنودنا المرابطين في كل بقاع مصرنا الحبيبة، وجعل رباطهم في سبيل الله تعالى، وفي ميزان حسناتهم.