نص الليل .. صدمة
بقلم – أحمد سعدة
فى «نص الليل».. تتهيأ القلوب للشكوى والبوح بما فيها، وترسل أوجاعها إلى السماء، بعد أن يئست من رحمة أهل الأرض.. «المصور» تحاول أن تشارك قراءها هذه الآلام وتلك الاعترافات وتقدم لها الحلول
ألتفت حولي فلا أجد إلا الخيانة والكذب، وأمشي في كل مكان فلا أقابل إلا وجوهًا ماكرة تتفنن في المكر والخداع. الكل يتقن لغة المصالح، والدنيا تفوح منها رائحة الغدر والكراهية.
هذا عمي يحتال ليأخذ من نصيبنا في ورث أبى، وهذه أمى أدمنت الشات ووجدت نفسها في المحادثات الهاتفية الليلية مع مراهقين من عمر أبنائها، تدللهم ويدللونها
والدنيا ضاقت حولي بلا صديق أو رفيق، ولم أعد أرى فيها إلا السواد. وكل هذا يتواضع أمام ما فعلته معي زوجتي.
أحببتها من قلبي، ومنحتها نفسي وفي المقابل عاشت معي حياة فاترة لا تهتم فيها سوى بما في جيبي. لم أرضَ أبدًا عن حياتي معها، لكنني في نفس الوقت كنت عاجزًا عن فراقها. وعشت معها ثلاث سنوات لا أفعل شيئا إلا أن أرضيها بمنتهى البذخ لاحتواء نوبات تمردها على الحياة معي.
نعم، عشت معها تمامًا بلا كرامة كرجلٍ تابع كليًا لامرأة.
ومع الوقت تسلل الإحباط إلى قلبي بعدما دمَّرت بداخلي كل أمل في أن تحبني، وبعدما سلبتني نفسي، وأفسدتني وأرهقتني وعذبتني بحبي لها.
كنت أفخر بها وبجمالها، بينما هي لم تهتم لأن تنظر لي بعين الحب ولو لمرة واحدة. وكنت أشعر بأن العالم يتأرجح فوق رأسي كلما هددتني بالابتعاد. فأظل أياما بلياليها أصالح فيها، وأُقبل يديها وقدميها وأهاديها بالألماس والذهب، لتتراجع عن تهديداتها.
لا يمر عام على سيارتها الحديثة، إلا وتطلب تغييرها. ولا تقتني عطورها وملابسها إلا من أرقى بيوت الموضة في مصر أو أوربا. وعشت حياتي فقط من أجلها، ومن أجل طلباتها التي لا تنتهي. وكل هذا كان على قلبي زي العسل، طالما أنها معي، وطالما أنها زوجتي.
كانت ضربة موجعة لي ولكرامتي حينما علمت أنها تعمدت تأخير الإنجاب بأقراص منع الحمل، وتحججت بأن العمر لايزال أمامنا. وتقبلت الفكرة مثل كل شيء معها أقبله.
ورغم أني رجل تجاوز الأربعين، إلا أنها كانت تسحبني معها كل ليلة في كازينوهات يرقص فيها الشباب كالقرود على موسيقى صاخبة وماجنة. وويلي إذا لم أتخلَ عن بدلتي وأشاركها هي وأصدقاءها.
لقد شعرت جدا بحقارتي وسذاجتي. لكنها بما فعلت بي وبما أفسدته في شخصيتي، جعلتني خاضعًا تمامًا لها. جعلتني أراجوزًا تافها من صنعها.
وأصبحت هي دموعي المتحجرة التي تأبى النزول من عيني. وآهاتي المكتومة بين أضلعي. ومارست معها حياة فاشلة كل الفشل. ورغم كل ذلك فإنها حبيبتي التي أسكنتها في صمامات قلبي وشرايينه. حبيبتي التي امتلكت مفاتيح نفسي وتحكمت في مزاجي وانقلابي.
وسألت نفسي: هل فعلا أحبها أم أنني أدمنت عذابي معها؟ هل سيأتي اليوم الذي أتخلص فيه من أسرها؟
ولكن الأيام كانت كفيلة لاختبار قدرتي على فراقها. واختبار قدرتي على احتمال أفعالها. حتى لو كان هذا الفعل، هو الخيانة.
نعم خانتني. !
في آخر شهوري معها كنت أحاول معرفة سبب انهيارها وسوء حالتها النفسية، لكن بلا نتيجة. وأفضل ما في تلك الفترة أنها كانت تحضنني وتبكي على صدري عكس شخصيتها معي، ولم أفهم ما بها. وصارت أكثر رقة معي، وصرت أكثر تعاطفًا مع دموعها، وكنت أبكي بجوارها. وعرضت عليها المتابعة مع طبيب نفسي، وكل ما كان يؤرقني هو إحساسي بأني ربما أكون سببا في أزمتها.
وفي إحدى نوبات انهيارها، تناولت مهدئات لكي تنام، وأغمضت عينها ودخلت في مرحلة ساقطة بين الصحو والإغماء، ثم بدأت تهذي بكلمات غريبة وكأنها تطلب من شخص ما ألا يبتعد عنها، وأنها تحبه. ثم دخلت في مرحلة أخرى من ترديد كلمات قبيحة وعبارات جنسية صريحة وكأنها تطلب من نفس الشخص أن يعاشرها.
كانت أول مرة أسمع تلك الألفاظ على لسانها، وكأنها عاهرة. وقلت إنها ربما هلوسة التعب، لكنها نطقت اسم شخص. وليتها ما نطقته.
هل تريد أن تعرف من هو؟
إنه ابن أختي. وهو ليس فقط ابن أختي، بل إنه أيضا صديقي ومدير أعمالي. وأمين أسراري وأوراقي وممتلكاتي.
ووجدتني لأول مرة أمسك تليفونها وأفتش فيه وفي رسائلها ومكالماتها. إن كل رسائلها إليه عبارة عن توسلات واعتذارات، وكل رسائله لها عبارة عن إهانات وتجاوزات.
إنه يفعل بها، ما تفعله هي بي. إنها تعشقه مثلما أعشقها أنا. ويهينها وتهون عليه، كعشقي لها وهواني عليها. وفهمت من الرسائل أن لقاءاتهما كانت في شقة كنت قد كتبتها باسمها. وأنني عشت مغفلا أتجرع السم والعذاب في كؤوس من الذل والوجع.
ونظرت لها لأجد عينيها في مواجهة مباشرة مع عيني التي انفجرت دموعها. فجذبتها من قميصها، وسألتها: ليه؟
قالت: سامحني، واتركني.
وحكت لي بالتفصيل ما كان يحدث بينهما. ولم أتمالك نفسي من أثر الصدمة الموجعة. وصفعتها بهيستيريا على وجهها، وجريت كالمجنون وأحضرت سكينا من المطبخ، وكنت أجبن حتى من أن أجرحها. ووقعت السكين من يدي، ورميت رأسي على صدرها وبكيت حتى أصابني الإغماء.
ولم أدرِ بنفسي إلا في الصباح، لأجدها قد غادرت المنزل. وحاولت الاتصال على كل أرقامها لكن دون وصول. وبحثت عنها في كل مكان كالمجنون لكن دون عثور.
ثم جاءني عبر البريد ظرف مغلق باسمي، فتحته لأجد فيه توكيلا عاما منها يحق لي بموجبه التصرف في كل ممتلكاتها. وأدركت أنها أرادت بهذا التصرف أن ترد لي كل شيء كتبته باسمها ربما بسبب عقدة الذنب التي تلاحقها، وربما بسبب صدمتها بعد أن تركها عشيقها.
وكل ما كان يعتريني في ذلك الوقت هو الخواء من بعدها، وتمنيت لو وجدتها وسامحتها على كل شيء. وأيقنت أنها صارت وجعي ولوعتي، وقدري وشقائي.
تركتني خاويا شريدًا تسكنني الغربة من بعدها. وأصبحت مشتتًا عاجزًا عن فعل أي شيء إلا البكاء. ومضى عام كامل أبحث عنها، ولا أجد إلا التعب والإحساس بالخراب والدمار في حياتي. وجربت كل شيء، وفشلت في كل الأشياء، وخسرت جميع معارك الحياة. وانتقلت من حب إلى حب، ومن حضن إلى حضن كي أنساها، لكنها دوما كانت حاضرة بكل ما سببته لي من تخريب وضرر.
ولم أعد أبالي بالنساء، وأصبحت أبادلهن الحب فقط على الفراش. ربما انتقاما منهن، وربما انتقاما من نفسي التي أفسدتها وأتلفتها. ولم يعد هنالك معنى للحياة، أو سبب واحد للبقاء.
أهملت عملي، وعاقرت الخمر، وبددت ثروتي كلها على سهرات القمار، وأصبحت أتسول ثمن علبة السجائر. واقتربت من خماسين العمر، ولم يعد يضحكني شيء أو يبكيني شيء. وحياتي أصبحت في إحباط قاتم، ويأس وملل واكتئاب.
أكتب إليك هذه الرسالة من أمام قبر أبي بعد أن فقدت صلتي بالجميع، وفقدت حتى صلتي بنفسي. أكتبها وأنا أعض أصابع الندم، بعد أن خدعني شيطاني وأصبحت وحيدا لا أجد من يسمعني أو يتكلم معي.
أكتبها وأنا أبكي كطفل يتيم بلا مأوى تحت البرد والمطر. أكتبها وأنا أبكي كما لم أبكِ من قبل في حياتى.
الرد
ابك كثيرا. ابك بحرقة. ابك حتى تحمر عيناك. فأنت بحاجة ماسة للبكاء.
إن نجاتك من هذا الجحيم مشروط بانقلاب داخلي تشنه على تكوينك النفسي وعاداتك وسلوكياتك. وتستبدل فيه همومك الشخصية وأهدافك الذاتية، بهموم اجتماعية وأهداف أسمى وأكبر.
إن انتقالك من حضن إلى حضن، سيكون مصحوبا دائما بالقلق والتوتر والخواء النفسي وسينتهي غالبًا بالملل. إن مشكلتك في الحقيقة ليست تغيير المرأة التي تحبها، ولكنها مشكلة تغيير نفسك أولا.
لقد أعطتك الدنيا درسا قاسيا قد يكون سرا في اكتشافك لنفسك وفهمها. ومن لحظات الصدمة والجرح وخيبة الأمل يولد الإنسان من جديد. وأنت وحدك القادر على تجاوز محنتك وبلائك العظيم. والعبور بسفينة حياتك من هذا المستنقع والوصول بها لأي بر. فلتصل لأي بر أولا.
والأمر هنا يتوقف على مدى أصالتك. وعلى طبعك وجوهرك.
فما هي أهدافك في الحياة من الأساس؟ وما الذي يرضيك وتبحث عنه؟
فإن كان ما تبحث عنه هو الحب والنساء وحياة الترف، فأنت لن تبرح مكانك ولن تتجاوز نفسك وشهواتك التي بدأت من عندها وستنتهي أيضا عندها.
إن استمرارك في الحياة بهذه الطريقة الخنازيرية، وانزلاقك بسيقان عارية في مخاط الجنس والمخدرات لن تفيق معه إلا لحظة الموت. وقتها فقط ستكتشف أنك أهدرت عمرك هباء، ولن تجني شيئا سوى العدم.
إن تجاوزك لِذَاتك المغلقة، سيفتح أمامك أبوابًا واسعة وآفاقًا إنسانية أرحب تَشغلك عن هُمومك الشخصانية الصغيرة.
لذا فَتِّش عن روحك أولا.
وأخشى ما أخشاه، أن تموت قبل أن تجد روحك الضائعة.