د. مريم بوزيد
انطفأ قنديل من قناديل مصر.. بل قنديل "ام هاشم" وما يحمله من نسمات الشفاء للعليل، ذلك الذي ما يذق طعم القاهرة وأصوات حرفييها وروائح الأكل والخبز البلدي...الخبز البلدي الذي تابعت بالبحث والشغف، لحد الوله، كل تفاصيله، قبل النمو، وبعد اخضرار السنابل، والتجفيف والطحن والعجن او الخبيز..."الخبز في المأثورات الشعبية" ليس مجرد رحلة ترفيه في تقاليد مصر زمان، بل معاينة لروح المجتمع ونظامه الرمزي، وكيف يصبح "الخبيز" كغيره من الأعمال اليومية، التي لم تكن يوما ما مجرد حركات آلية دون معنى، مؤسسة اجتماعية تمر على محكها البنات لتحضيرهن للغد، لتكوين الأسر وتأمين حاجياتها..."فالخبيز مهارة ومؤهلا رئيسيا يتفوق حتى على الأناقة والجمال" ميعجبكش أم كحلة ولبانة وقت الخبيز تعمل عيانة" ... ومن كان يزور القاهرة، كنت أنت الدليل الروحي لأماكن ذاكرتها الحية التي تتفتح كبراعم ورود شتوية نادرة، محملة بدموع شفافة كالماس...كم ستحل على غيطانك يا مصر، انكسارات النخيل التي تنحني أمام برك المياه والترع، بعدما غيب الموت الطفل الشقي الذي كان يعانق انحناءات النخيل ويقفز بالمياه وتتبلل ثيابه، ثم يهيم في غيطانك المعطاءة ليجف ثوبه خوفا من توبيخ والدته...كيف ستنعيك ثقافة الفلاحين التي عشقتها ، حد النخاع، كيف سيتحمل من جبرت بخواطرهم فقدك المؤلم وأنت الذي تماهى بكل تفاصيل الحياة اليومية للبسطاء وانصهر مع صانعي الخبز والحياة...هل سيكفي "العديد" لذكر كل مناقبك أيها السيد المتربع على عرش "الطيبة والوفاء، بقلبك المرصع بالماس الرقراق صفاء وحبورا...لا يمكن ان نقول أنك لا تغضب من جحود الاصدقاء وغدر الزمان، لكن لست ذلك الذي يجتر الاساءة ويطيل في ذكر مساوئ الآخرين...لقد كنت سميح المسامح، المتسامح، إلى اقصى درجة لأنك كنت تعرف مدى قصر الحياة... من سينقل بأمانة وشغف ثقل تراث الفلاحين ووشائج ارتباطهم بالحضارة المصرية الأولى غير واحد مثلك مؤمن بعمقه الحضاري ومدافعا مستميتا على ذلك الانتماء في زمن الانسلاخ الذي اصبح العملة الرائجة.
أيها الشاعر، الذي لم تسمعنا نظما، نحن اصدقاؤك، بل من يستأنس بحديثك وطريقة حوارك يتلمس حماسا وشاعرية طالما أخفيتهما عنا...لقد كنت لصيق بالموت...وكان مؤتمر 2007 بالجزائر تمهيدا لرحلة مشوقة عن الموت من خلال "العدودة" او العديد في مقالك حول " العدودة كإحدى صيغ الابداعات النسائية" ..."فكرة الموت تختلف إلى حد بعيد عن فكرة الموت في الأديان السماوية، فتقف حدود الموت عند الحدث ذاته وحتى الدفن ، ولا تصل غلى ما بعد ذلك، ويرجع هذا إلى عدم ميل الجماعة الشعبية إلى التجريد"...وإن توفاك الأجل أيها الصديق الصدوق والأخ العزيز، ولم نتمكن من ذكر خصالك و"معدّدين" مناقبك و"ممجّدين" مواقفك...ستأتينا في كل المواسم والأعياد لتبكي على حال اصحاب الدنيا الفانية قائلا: "ع العيد وأنا أجيكو...وأشوف مين عمل جميل فيكو، ع العيد وأنا أجي الدار...وأشوف مين عمل جميل وطار".
ليس الموت من جاءك فجأة وأنت متربعا على عرش معاركك الأكاديمية، بل نحن من تأخرنا في السؤال عن احوالك وعن همومك التي تحفر داخلك والتي شكلت اخاديد لا يمكن أن تندمل الا بالصفاء والتضحية والتعالي على كل ما تخلفه شهوانية الارض من اهداف "وضيعة"، لم تكن تغريك ايها المصري الشامخ في فضاءات التاريخ الممتد امتداد المبصر بحكمة لكل الأشياء...لقد كان تأويلك لكل معاني التراث مختلفا عن تشنجات الايديولوجيات ومختلف التوجهات المترفعة عن معرفة الشعب البسيط "صاحب نظرية" ...نعم فوق كل نظرياتنا وتموقعنا المفاهيمي، استلهمت قوة اقناعك من "نظرية" الفلاحين والبسطاء وهم على مصطبات في أمسيات قمرية يرتشفون شايا وأرجيلة، بعد تعب النهار ولفح الشمس لأجسادهم النحيلة الرشيقة...عندي نظرية...عبارة ساحرة، الهمتك "الحكمة"...حكمة الأجداد التي لم تعد مجرد عبارة شعرية رومانسية، بل ممارسة بكل نجاعة العالم الرمزي والمحسوس.
أيها القنديل الذي طالما اضاء ما حوله، بكل الوان الطيف والبهاء...كم نحتاج للذكريات معك ومن خلالك كم يكفي من النصوص والكلمات لنكفيك حقك علينا...أتذكر وهج سنة 2007 التي جمعتنا معا، ضمن كوكبة مضيئة من الأساتذة الباحثين من الوطن العربي، لمناقشة إشكالية النساء والمعرفة بالعالم العربي، ولم تكن المعارف بغير معارف النساء من عامة الشعب المشبعة بالعطاء والابداع الذي لا تمسكه حدود ...اللقاء كان على غير العادة انسيابي، وكأننا نتعارف منذ سنين عجن الطين والمشي حفاة، واللعب بالأعواد والحجارة، منذ زمن الطفولة الأول...وهج اللقاء أفرز ملتقى كنت دائما تصفه بغير المعقول، وبأنه من افضل مشاركاتك...كنت تذكرني دائما بأن المؤتمر كان ناجحا بكل المقاييس بأمثالك، وبأن الجميع اكتشف عالما عربيا راقيا، غير الصورة النمطية التي كانت تعشش بعقول بعض من النخب عندنا...وتكررت زياراتك التي كان يترقبها الجميع بفارغ الصبر، لأنك ذلك المتواضع المنصهر مع الانسان أي كان موقعه، ومهما كانت مكانته"...كنت ضيفا فوق العادة في ظهورك على شاشات التلفزيون، تتكلم بأريحية ودون تكلف عن حياة لم تقطع حبل الود معها مهما طالت رحلاتك وجولاتك البحثية ...صدمنا رحيلك صديق الجميع وأستاذ الجميع وأب الجميع...رحيل غير متوقع في حياة ضنكا، تنهكنا وتغرينا وتجذبنا نحو مثلثات الشهوة والخلود والمكابرة...علمنا رحيلك ضرورة الوقوف في وجه الدنيا لنقول لها "لا" كفي عن اخذنا عن "الحقيقة" والعبث بنا في وهم زائف زائل.
أيمكن تصور النيل يفيض خضرة ورفاهية دون أن تلمسه عباراتك الشفافة وترمقه برموش عينيك التي تسيل عتابا؟ ايمكن لقناديل رمضان ان تنير دون أن تتذكرك، ايها العزيز، قنديلا لا ينطفئ...أيمكن تصور مصر بدون هرم من اهرامات ثقافتها الشعبية، المتقدة حياة بحلوها ومرها؟ وجع رحيلك كبير، لكن لا راد لقضاء الله... الله يرحمك برحمته الواسعة ...تعازينا من الجزائر لأهلك ولأحبابك ولطلبتك.
** مديرة بحث في الأنثروبولوجيا الثقافية، الجزائر