«الباب الأخضر».. الكلام غير المباح في رحاب الحسين
قليليون هم الروائيون الذين ينزلون إلى قاع المجتمع؛ ليتعايشوا بل يعيشوا مع شخوصه لحظة بلحظة فيكشفون لنا عن مكنوناتها، والقليل من هؤلاء المبدعين من يتطرقون إلى مسائل يحظرها العرف والتقاليد التي تتدثر بثوب التدين الخوض فيها؛ كنمط تفكيروسلوك أفراد المجتمعات التي يغلب على ظاهرها الطابع الديني وخصوصًا الصوفي.. ومن هؤلاء الأدباء محمد هلال الذي اعتدنا منه الجرأة في تناول القضايا الشائكة ومعالجاتها بأسلوبه الخاص، ومذاقه الذي يتميز به في الكتابة.. فها هو من جديد يبهرنا برواية تفيض طزاجة في الفكر والفلسفة وتأمل وحيوية في السرد وهي رواية "الباب الأخضر".
والباب الأخضر كمكان ــ وللمكان في هذه الرواية بطولة خاصة ــ هو الشارع الملاصق للمسجد الحسيني من جهة الضريح وهو الباب الذي قيل أن رأس الحسين دخلت منه ملفوف بحرير أخضر مضمخ بالمسك والعنبر فسمي بذلك.. بل تم طلاء الباب الخشبي باللون الأخضر، وسمي الشارع باسمه.. وهو إن كان أقصر شوارع القاهرة المحروسة إلا أنه يموج بعوالم من البشر متباينة الملامح والصور والأهداف والمشارف والسلوك، فترى إلى جوار باعة الحلوى والحمص ولعب الأطفال، باعة المصاحف وكتب السحر والشعوذة، وباعة العطور الشعبية إلى جوار باعة فساتين الراقصات! أما داخل المسجد فالمشهد يكمل الصورة، فترى الهائمين في عشق الحسين وآل البيت الأطهار، وكذا الشباب لصوص أحذية المصلين والذاكرين.
في تلك الرواية ينقل لنا الكاتب تجربتة الذاتية في رحاب مسجد سيدنا الحسين وداخله ربما ساعده عمله في الصحافة على مثل هذه التجارب الغريبة التي عاش فيها مع أناس من شتى الطبقات، عرف رجال الدين الصوفي الأنقياء والمدعين، عاش مع قاطني الشارع من الباعة الجائلين، بل والمشردين ممن يفترشون الارض بأثمالهم البالية؛ المستجيرين من قسوة الظلم، وقد شدوا رحالهم إلى المسجد من مختلف المحافظات وعاشوا في دفء مولانا الحسين.. تأمل حياتهم بعمق والظروف التي صنعت تلك الحياة الغريبة المدهشة.. أيضًا تأمل ذهنياتهم فكان كطبيب يغوص فى أغوار النفس البشرية ممسكا مشرطًا فكريًا فلسفيًا عله يستأصل الداء في نفوس شخوصه التى أصابها الدرن، آملًا في إصلاح وتغيير هذا المجتمع.. ومن المدهش أن ترى المؤلف ينضم الى شخوص الرواية فيصبح فردًا منهم يحاكمهم ويحاكمونه، وكأنها حالة توحد وتماهي معهم ليقول: أنني منكم؛ فكلنا تحت مقصلة الظروف. وعليه يمكننا القول إن رواية الباب الأخضرتعد من نمط الروايات ذات الطابع الإنسانى الإصلاحي الاجتماعي الذى يأمل في مجتمع نوراني كصوفية ابن عطاء السكندري والشقيري وأبي حيان التوحيدي وأبي حامد الغزالي ومولانا جلال الدين الرومي وأستاذه شمس تبريزي والشاذلي وغيرهم.. مجتمع لواءه الحب لا الزيف
ومن غريب تكنيك تلك الرواية أن المؤلف قد قسمها ثلاث أقسام، اختلط فيها الخيال بالواقع، المتاح بغير المتاح، المعقول باللامعقول وكأنها فسيفساء الحياة العجيبة.. فالجزء الأول منها تناول حياة الشخصيات التي عايشها في المكان حيث تدور أحداث الرواية في شارع الباب الأخضر وحوله، وقد اختار الكاتب شخصيات في الرواية على هامش الحياة والتي اتخذ البعض منهم الضريح ملاذا لهم من وحشة الحياة كما قلنا، والبعض الآخر اتخذه ملاذا له هربا من أفعال مشينة بل جرائم اقترفوها في بلادهم ظنا منهم أن الحسين سيحميهم ومن تلك الشخصيات "زغلولة" بطلة الرواية تلك الشخصية النادرة التكرار. وكذا "ناجي مقطوع الساقين" وشخصية الخالة مستورة وابن مطيعة الفيومي، وغيرهم في سياق كأنه عادي.
أما الجزء الثاني في الرواية فينقلنا الكاتب نقلة أخرى يختلط فيها الواقع مع الخيال في جو من الفنتازيا فبعد أن عاش الكاتب مع شخوص روايته على أرض الواقع انتقل بخياله ليصور لنا شخصيات الرواية متمردة على النهايات التى آلت اليها كما .. ففي مقدمة الرواية أخبرنا الكاتب أنها العمل الأول الذي استخدم في كتابت التكنولوجيا" اللابتوب" .. لكن التكنواوجبا غدرت به، لمجدرخطأ بسيط محيت كل أحداث الرواية، وطارت الشخصيات الهواء . وبينما كان الكاتب يجلس حزينًا على ضياع مجهود كبير مضني ووقت طويل استغرقه كتابة الرواية ، إذا به يفاجأ بأن الشخوص جاءت فرادى تحاسبه أشد الحساب على " قدرهم الروائي" .. وجلهم غاضب مما اختاره له الكاتب من قدر روائي إذا بإمكانه أن يسعدهم جميعًا لأن أن يكتب عليهم صنوف العذاب التي وضعهم فيها. أما الجزء الثالث فقد جاء أكثر فانتزيا وخيال ، فقد جال بخاطر الكاتب بعد مضي عشر سنوات أو يزيد أن يزور مسرح أحداث روايته ربما صادف أحد الشخصيات الباقين على الحياة .. فيتناول ماطرأ على الحى بعد عودته له بعد مرور نحو عشر سنوات ــ كما قلنا ـ شهدت فيه مصراندلاع ثورة يناير.
تجذر الخرافة.. أم الغلام نموذجًا!
أصر الكاتب فى رواية الباب الاخضر على دراسة عقليات وانماط تفكيرسكان منطقة الباب الاخضربحى الحسين التى دارت فيها احداث الرواية ووفقا لتعريف مفهوم الخرافة؛ بأنها الاعتقاد او الفكرة القائمة على مجرد تخيلات دون وجود سبب عقلي او منطقي مبنى على العلم والمعرفة، وأنها ترتبط بفلكلور الشعوب.
صور لنا الكاتب جانب من تلك الخرافة المسيطرة الطاغيةعلى بعض العقليات وكأنها من صحيح العقيدة ومنكرها آثم ! مثل خرافة تسمية شارع "أم الغلام " خلف المسجد الحسيني ،بهذا الاسم والتى ترجع الى أنه عندما طار رأس الحسين الى مصر وحاول رجال يزيد بن معاوية ابن ابى سفيان أخذها للتنكيل بها كانت هناك امرأة ترضع وليدها فسقطت رأس الحسين فى حجرها فقامت بقطع رأس وليدها، وأبدلته برأس الحسين لدرجة ان الشارع سمى باسم تلك المرأة ،شارع ام الغلام .. ولنا أن نعرفلا أن الشهيد الحسين قتل عن ثمانية وخمسين عامًا، وكان رضي الله عنه صاحب لحية عظيمة، فكيف لايكون رأس طفل رضيع كرأس شيخ كبير معروف.. أيضا خرافة أحد شيوخ الصوفية الذي ادعى أنه نزل إلا الضريح وأى رأس الحسين ،التى لازال طازجًا يقطر الدماء منه ، رغم مرور قرون عديدة ،واعتقادًا آخر لايقبل الشك من أحد يقول: إن الحسين مات عطشانًا، لذا يقوموا بتوزيع المياه مجانًا على زوار المكان..
ويستمر سيناريو الخرافات فى عقول سكان الباب الاخضر الذىن يعتقدون انهم يعيشون ببركة سيدنا الحسين حيث يستظلون بظله ليحميهم وينعم عليهم بالستر من أعين من يكيدون لهم فها هى زغلولة تهرب من مطاردة البوليس لها بعد قتلها زوجها . ومستورة التى ترتمى فى حضن ضريح الحسين بعد أن هربت من اهلها بعد أن حاولو قتلها لحملها سفاحا، تقول في حديثها لزغلولة : " مولانا يرحب بضيوفه وهي تشير الى مسجد الحسين ، جئت من محافظة الشرقية بعد ما تخلى عنى ابن الحرام وحاول أهلى قتلى فهربت من بلد الى بلد واخيرًا وبعد عذاب لايطاق جئت فى حماية هذا البطل الشهيد.. كلما لعبت بك وساوس الشيطان توضئي وصلى ركعتين لله بنية تفريج الكرب.. ثم ادخلى لزيارة مولانا الشهيد "المظلوم الاكبر" . ان صاحب المكان مولانا الحسين مات مغدورًا به، قتلوه وفصلوا راسه عن جسده، يعنى ظلمتنا الحياة والتقاليد وجمعنا المظلوم الاكبر حوله".
التدين الزائف فى الباب الأخضر
ومن قاطنى حى الحسين والباب الاخضر يشير المؤلف فى روايته الى أن المجرمين والمزيفين دينيًا ايضًا اتخذوا من مقام الحسين مكانًا يمارسون فيه اجرامهم وزيفهم ولكن فى الخفاء، وقد رمز لهم بشخصية الحاج مدبولى الذى لجأت اليه زغلولة لتحتمى به فاذا به يطمع فيها دون زواج شرعى وظل يماطلها رغم استطاعته استخراج اوراق شخصية لها جديدة، وهناك شخصية الحاج بدوى صاحب فندق آل البيت الذى لجأت اليه ايضا بطلة الرواية والمعروف بعطاياه وحجه لبيت الله الحرام فاذا به يدير الفندق وكرًا لتجارة المخدرات وتوزيعها ،وهناك من يسرقون أحذية المصلين ويدعون أنه ذلك ليس بغرض الكسب الحرام، وإنما ليبيعها وتوزيع ثمنها على الفقراء . وهنا يريد الكاتب ان يشير الى ان سكان المناطق المقدسة وان تظاهروا بالقداسة ففيهم من لايعرفون من القداسة في شيء.
الفقراء فى الباب الأخضر
لم يفت مؤلف الر واية الاشارة الى ارتفاع نسبة الفقر بين سكان الباب الاخضر فهو مثال للمجتمع الأكبرالذى يجتاحه فان كان مفهوم نظام الطبقات هو عبارة عن مجموعة من المفاهيم فى العلوم الاجتماعية وان النظرية السياسية تركز على نماذج من التراتب الاجتماعى الذى يتم من خلاله تصنيف الناس الى مجموعة من الفئات الاجتماعية الهرمية واكثر الطبقات شيوعًا هى الطبقة الغنية والمتوسطة والعاملة فإننا نجد فى الرواية ان الكاتب صور بصدق هذا التفاوت الطبقى على سكان الباب الاخضر حيث صور كيف يعيش سكان هذا المكان المهمشين فى الشوارع الخلفية لميدان الحسين مقارنة بالقاطنين فى الميدان أمام المسجد حيث المحال السياحية. كما صورهم عند حدوث الزلزال الذى تهدمت فيه منازل قديمة كثيرة في المنطقة..وان كان هذا هو الوضع الكارثى لقاطني الباب الاخضر الذى اعتادوا عليه فان الامر يزداد سوءًا اذا أراد مسئول كبير حضور مولد الحسين أو صلاة العيد فيه .. حيث تقوم قوات الأمن بتفريغ الشوارع والمنطقة تمامًا من سكانها قبل عدة أيام من الزيارة، لضرورات الحفاظ على حياة المسؤول الكبير.. فيضطر هؤلاء المهمشون الى ترك أماكنهم والانتقال الي المقابر والشوارع البعيدة في عذاب مضاعف من لون جديد لحين انتهاء زيارة المسؤول .
السلطة الدينية والخرافة والفقر
وإن اعتبار ان التصوف الصحيح يعد أحد مراتب التدين الثلاثة (الإسلام ،الإيمان ‘الإحسان ) فمثلما اهتم الفقه بتعاليم شريعة الاسلام وعلم العقيدة بالايمان فان التصوف اهتم بتحقيق مقام الاحسان ومقام التربية والسلوك ومقام تربية النفس والقلب وتطهيرهما من الرزائل وتحليتهما بالفضائل وهو ما يذكره الاديب محمـد هلال في روايته وذلك ماأشارت إليه دراسة ماتعة عن الرواية للكاتب والناقد العراقي الكبير كامل الدليمي .. فنوى المؤلف يكشف بل قل يفضح بعض رجال الطرق الصوفية الذين حادوا عن هذا المفهوم، ليصبح الأمر مجرد سلطة يهيمنون بها على اتباعهم ومريديهم.. وهو مايكشفه العلماء فى تعريفهم للقداسة، بأنها حالة عامة، لكون الشيء مشرفًا ويتلقاها الافراد المتدينون بوصفها؛ كل مايصحب الإله او مقدسًا؛ حيث تعتبر الاحترام الروحى أو التفانى أو الرهبة الملهمة أو الخشوع فى أوساط المؤمنين بمجموعة من الافكار الروحية . حيث لجأ الكاتب الى تحليل شخصية بعض رجال الطرق الصوفية و الهالة القدسية التى يرسمونها على وجوههم والتى تظهر فى أنماط سلوكهم مثل انفاقهم بسخاء على المريدين و المحرومين من الفقراء الذين يتحلقون حولهم .. الأمر الذى يدعو للتساؤل ، من المستفيد وراء بقاء هؤلاء الشخوص بهذا الوضع الرث والجهل والفقرالمدقع.
ووفقا لرأى الشاعر والناقد العراقى كامل الديلمى ، بأنه يرى ان مثل تلك الشخصيات ذات السلطة الدينية وراء تردى وانحطاط القيم فهذا الوضع المزرى يقف خلفه المستفيد من السلطة الدينية فبدلًا من ان تكون خطابات هؤلاء الشيوخ عوامل تنقية للنفس البشرية تحولت الى خطابات موبوءة تسعى لتجهيل الانسان بحجة المقدس الذى يحقق لهؤلاء اهداف يحلمون بها.
وهو ما كشف عنه محمـد هلال فى رواية الباب الاخضر وذلك فى تحليله لشخصية "الدكتور شوقى" شيخ احد الطرق الصوفية فى الرواية وهويعترف بذلك ــ في جزء المحاسبة ـــ و يشكر الكاتب على الستر عليه دون كشف شخصيته الحقيقية..
وكما ورد على لسان تلك الشخصية انه كان يكذب حين ادعى انه وجد رأس الحسين والدماء تحيط به ندية وكانه قد قتل منذ ايام قليلة، وكذلك رؤيته للست فاطمة تحج رغم انها لم تبرح فرشتها ،وكذلك اعترفه إن ما وراء انفاقه على الفقراء بسخاء ليس حبا فى الإنفاق فى الخيروالجود وانما من باب الوجاهة ورغبة فى الهيمنة عليهم.
الدينى مع السياسى وتكريس الخرافة
نوه محمـد هلال فى الرواية الى أن تصالح السلطة الدينية مع السلطة السياسية يساهم بجزء كبير بالبقاء على الخرافة فى المجتمعات الصوفية، بل ان السلطة السياسية تسعى جاهدة لتثبيتها والتشجيع عليها بالسماح بإقامة الاضرحة وتربية الناس على تلك الخرافات، وقد جسد الكاتب السلطة الدينية بشخصية زغلولة بطلة الرواية والشخصية المحورية فيها اما السلطة السياسية فرمز لها بإدارة السجن والمأمور الذين استعانوا بها من خلال سيرتها الطيبة وذيوع قدرتها على شفاء المرضى فى السيطرة على السجن وترويض السجينات، بل انهم وافقوا على طلبها فى اقامة ضريح لها داخل السجن دون قيد او شرط ! وربما يقصد هنا الكاتب بجهل السلطة السياسية حين جعل مأمور السجن نفسه يعتبر زغلولة احدى أولياء الله الصالحين مصدقًا قدرتها على شفاء ابنته التى ظلت مريضة سنوات طويلة، الى أن زارتها زغلولة وقرأت لها بعض الآيات القرآنية وسقايتها قليل من الماء قرأت عليه بعض آيات قرآنية.
الاصلاح الاجتماعى سمت الرواية
منطقة الحسين ليست بمعزل عن المتغيرات والمتناقضات التى تصيب اى مجتمع فالخير والشر متلازمان على وجه البسيطة منذ ان خلق آدم وحواء وانجابهما قابيل وهابيل فقد حرص الكاتب على ان يكشف الشخصيات امام انفسهم وكأنه مصلح اجتماعى كما جاء فى الجزء الخاص يوم اختفت "الداتا" لتلاحقه شخصيات الرواية واعتراضها على نهايتها واصراره على نشراحداث الرواية كماهى دون اى تعديل رافضًا الحاح شخصياتها على تعديل نهايتهم....يقول محمـد هلال " المؤلف " ادهشنى أشد الدهشة، تلك المفارقة المذهلة بين الرحمة الواسعة والحب الجميل داخل ضريح الحسين، واعمال السفلة والسوقة خارج المسجد. كل ما فعلته هو رصد هذه المفارقات وعجائب البشر فى شارع الباب الاخضر . هل هذه جريمة استحق عليها هذا الغضب من شخوص الرواية الذين مارسوا الشر بإيمان شديد. الناس حصائد السنتهم .ملأت رأسى تناقضات الدنيا وأفعال العباد بفسادها الكثير وصلاحها القليل .يدهشنى ان الناس يطلقون اسماء ابناءهم على اسم قابيل قاتل اخاه الطيب هابيل.
الاماكن تشيخ وتموت كأصحابها
وعلى اعتبار منطقة الباب الاخضر والحسين هى جزء لايتجزء من المجتمع المصرى الذى اعتراه كثيرا من التغيرات فقد تعمد الكاتب بعد مرور نحو عشر سنوات لتركه حى الحسين ومغادرته لشخوصه ان يعود للمكان مرة اخرى الذى شهد مثل غيره من المناطق فى مصر تغيرات بعد ثورة يناير ليرصد فى الجزء الثالث لرواية الباب الاخضرماحدث هناك والذى يذكرنا بما كتبه الدكتور جلال امين فى كتابه "ماذا حدث للمصريين" حين قال إن المثقفين يشكون من انحدارالمنتج الثقافى المصرى، وتدهور مكانة اللغة وانحطاط التعليم .
هنا نجد مؤلف الرواية وقد تحول الى باحث انثروبولوجى ولكن باسلوب ادبى رقيق يفيض بالمشاعر والحنين للامكنة ليرصد التغير الذى طرأ على البشر والمكان فى منطقة الباب الأخضروشارع " ام الغلام " وميدان الحسين .. فالمكان ليس نفس المكان وان كانت الخرافة لازالت متجذرة فى العقول الا انه لم يعد كما كان بما يحمله من دفء، وما يضيفه من جو روحانى فقاطنى المكان منهم من مات ومنهم من اختفى و استبدلوا باناس جدد و لغة الحوارلم تعد هى نفس لغة الحوار ليكتشف المؤلف ان الأمر قد تغير تمامًا ليسود عالم الصراع على المال باى وسيلة واختفت الروح والقيم الإنسانية من المكان حيث استبدلت المقاهى القديمة بمقاهى كثيرة تمددت فى كل الشوارع... يقول مؤلف الرواية " الاماكن تشيخ وتموت مثل اصحابها ...ضاقت مساحة الشارع بشكل كبير ، هجم الشباب غريبو الاطوار والوجوه الكالحة والسلوك المشين من اهالى المناطق المجاورة على المساحة المتبقية وانتشرت المخدرات والاتجار بالآثار وتم غلق المكتبة تمامًا بعد أن اصابها صاحبتها اليأس وأصبحت هيئة الكتاب مكانًا مهجورًا وازداد الفقر والجهل ،يضاف اليهم موت الروح التى كان يستظل بها قاطنى حى الباب الأخضر.... عبر الكاتب عن ذلك فى حديثه لنافع بائع العطور الذى تبقى من سكان الحى بقوله: "هذا الذى أرى ليس الباب الأخضر ولادفء الحسين الذى كان يقصده كل مكروب فى بلادنا"
الثورة والطائر الأخضر والبراح
بالرغم من قتامة الصورة فى رواية الباب الاخضر فان المؤلف لاييأس ويجد الحل فى الشباب وظهور جيل جديد مثل الشاب "الحلوانى " والثورة على كل تلك الخرافات والقضاء على الفقر والجهل بالثقافة والتعليم لم يعتري الكاتب ذرة شك فى الامل فى اصلاح تلك الشخصيات المتلحفة بستار الدين، أما عن جهل او عن غرض فى نفس يعقوب .. وجعل شخصية الحلوانى النموذج الذى يجب أن يحتذى به .. ذلك الشاب الجامعى المثقف كثير الاطلاع الذى يطمح للتغييرويعتبر ابن عطاء السكندرى مثله الأعلى فى صوفيته ويشارك فى المظاهرات التي تطالب بالأفضل ويطمح فى ان يغير من ثقافة الناس بتغييرنشاط مكتبة السيدة بدرية أحد شخصيات الرواية ، من كتب الجن والعفاريت والسحر والشعوزة الى مكتبة للثقافة والفكر. وعلى الرغم من ان المؤلف قد جعله يموت فى مظاهرات الازهر قبل اكتمال حلمه، إلا انه جعله فكرة فى رأسه لاتموت فصوره فى هيئة طائر أخضر يرفرف بجناحيه فى براح غرفة المؤلف.. فكرة تطهر شخصيات الرواية وتطهرالمؤلف نفسه .وفى اعتقادى ان الكاتب قد قصد نفسه بشخصية الحلوانى بعد محاكمة شخوص الرواية له ..يقول الكاتب فى حديثه عن الطالب الثائر الحلوانى: "عجبًا رأيت طائرًا أخضر اللون عملاقًا أشبه بعصفور جميل.. احتضننى بجناحيه وهمس فى روحى.. ما لهذا خلقت يامؤلفنا؟ قم واستغفر ربك ولاتجعل الشيطان يرافقك هكذا".
وأخيرا فان الباب الاخضر للأديب محمـد هلال رواية كاشفة تبوح بالكثير والكثيرتنشد المعاني والأفعال السامية التي هي أساس الأمم المتحضرة والإنسانية في أبهى صورها.