رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


نصر العاشر من رمضان

11-4-2022 | 16:30


د. أسامة فخري الجندي,

لا شك أن من أهم مظاهر الاعتزاز وصور الانتصار في تاريخنا المصري المجيد هو نصر العاشر من رمضان 1393هـ/ السادس من أكتوبر 1973م .

ولقد اتسمت العقلية المصرية بِفِرَاسَةٍ رائعة ورؤية عميقة في اختيارها السنة والشهر واليوم والسَّاعة (وقد كتبت عن ذلك مقالًا سابقًا) ، ومن ثمّ فقد تعددت أسبابُ النصر في تلك المعركة لما كانت تحمله العقلية المصرية الواعية من حُسْنِ تفكيرٍ وتخطيطٍ وترتيب وابتكارٍ وفق الآليات التي كانت متاحةً وقتها، مع قوة وعزيمة وإصرار وحسن توكل واعتماد على الله (عز وجل) ، بالإضافة لاستدعاء قيم الضبط والجودة والإتمام والإحكام قدر المستطاع.

إن نصر العاشر من رمضان كان فتحًا جديدًا لواقع جديد، وكان لصيحة (الله أكبر) دويٌّ زلزل حصون الباطل، وكان لسلطان هذه الكلمة النورانية (الله أكبر) قوةٌ عظيمة ، فدخل جنودنا تحت شعار (الله أكبر) وجعلوا أنفسهم في معية الله.

لقد تجلت في هذه المعركة هذه الإشعاعات الإيمانية التي لا تصنعها إلا النفوس الراقية الواثقة في ربها سبحانه، إنها قيم التفاؤل والأمل والثقة والتضحية والفداء، فقد كانت هناك مقاييس كثيرة في هذا المعركة إلا أن هناك شيئًا معنويًّا أكبر من هذه المقاييس وأعظم ، وهو (الإيمان).

نعم ، لننظر معًا إلى تلك القوى المادية الملموسة التي وضع العلم الحديث فيها كل إمكانياته ، كيف أنها تحطمت على أيدي جنودنا .

لننظر معًا إلى تلك الحصون التي شهدت لها كلُّ العبقريات الماديّة وقتها بالقوة والصلابة، كيف أنها تَهَاوَت على أيدي جنودنا .

لننظر معًا إلى ذلك التفوق التكنولوجي وهو يعجز أمام جنودنا وهم واقفون يتحدون الموت ببسالة وقوة وإيمان .

ومن أجمل ما كُتِب عن هذه الإشعاعات الإيمانية في نصر العاشر من رمضان أن هذا الإيمان هو الذي صَاحَبَ جُنودَنَا في عبورهم ، فَحَرَسَهم منذ اللحظات الأولى من موجات السعير التي أراد العدو أن يصليه بها.

هذا هو الإيمان الذي عزّز الثقة في نفوس جنودنا ، فجعلهم يُقدمون على الموت بصدر رحب؛ لأنه أحيا معنى الشهادة في نفوسهم، فهم يقاتلون لينالوا إحدى الحسنيين.

هذا هو الإيمان الذي فجر على أيدي جنودنا المعجزات ، فلم تعقهم قوى الحصون ، ولا ضخامة الحوائل ، ولا مرتفعات السواتر، ولا خزانات اللهب ، ولا شراسة العدو، ولا كثرة مكره ودهائه عن أن يقوموا بأعظم عملية عبور في التاريخ، متحديين في ذلك لكل الصعاب ، ومحققين أعظم المعجزات بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معان ومفاهيم.

ولم يعقهم حرُّ الصحراء ونقصان الماء عن هدفهم؛ لأن الله معهم في وقت الشدة ، ولم تعقهم شدة الحصار من حولهم عن أن يستمروا ثابتين كالطود، شامخين كالجبل؛ حيث أمدهم الله (عز وجل) بصبر لا يأخذ منهم الملل، وأمدهم بما يعينهم على اجتياز المحنة بثبات يقوي فيهم روح الأمل، ولم ترهبهم كثرة القاذفات ولا شراسة الدبابات ولا قسوة المعارك وعنف الاشتباكات عن غايتهم .

إن الإيمان الذي ظلل المعركةَ كان له آثارٌ عظيمة المدى؛ حيث تم اقتحام هذا العائق المائي واجتياح هذا الخط الرهيب في ساعات معدودات دون خسائر تذكر ، فعبر القناةَ آلافُ المقاتلين في زمن وجيز جدًا لا يزيد على ساعات تعد على أصابع اليد الواحدة تحت وابل من الغارات الجوية الرهيبة ، وتسابقت الزوارق في مياه القناة تصنع نشيد النصر وتنسج خيوط الفجر الجديد لتاريخ آخر مجيد، وانطلقت إلى الشاطئ الآخر في ثقة وثبات ليحتضن الجنود المؤمنون رمال سيناء الحبيبة، ويقبلوا ترابها الطاهر الذي تشرف بخطى الأنبياء والمرسلين، ويحرروا هذا المكان الذي ذكره الله (عز وجل) في كتابه الكريم، وأقسم به على أن الإنسان خلق في أحسن تقويم.

لقد تحطم خط بارليف نفسه الذي أُنفِقَ عليه مئات الملايين وأُنفِق فيه الجهد والفكر والوقت ، وحطمه جنودنا في ست ساعات .

إن الحديث عن نصر العاشر من رمضان لا تستطيعه الكلمات والعبارات، فاللسان يعجز عن أن يأخذ بنواصي الكلمات التي يستطيع من خلالها استدعاء كل صور الانتصارات الكثيرة ومعاني البطولة العظيمة التي ظهرت في العاشر من رمضان / السادس من أكتوبر ، بل إن الحديث عن هذا النصر تقصر دونه الأقلام، فنصر العاشر من رمضان هو معنى من المعاني الإنسانية الرحبة التي تتجاوز حدود القول وترتفع على مستوى الأساليب، هي مثل أعلى، والمُثُل العُليا من شأنها أن يُحِلَّقَ الناس في فلكها ولا يستطيعون الاقتراب منها ، هي منبع فياض بالخير والعطاء، وسنظل نرنو إلى مورده بالشوق واللهفة ، هي حياة جديدة، ولحن خالد يرسل أنغامه في سمع الزمان ليردد الناس على وقعه نشيد البذل والتضحية والفداء والنصر .

إن سموَّ الأهدافِ، وشرفَ المقاصدِ، ونبلَ الغايات، يقتضي سموَّ التضحيّات وشرفَها ورقيَّ منازلها، ولا شك أن من أسمى وأشرف وأرقى المقاصد، ما كان في مواجهة أعداء الوطن، وها نحن اليوم نتذكر معًا نصر العاشر من شهر رمضان، والذي يعد مظهرًا من مظاهر التاريخ المصري، مظهرًا شاهدًا على انتماء المصرين المخلصين لوطنهم، وأنهم قد بذلوا كلَّ ما يملكون من طاقاتٍ وقدراتٍ وإمكاناتٍ متاحة، بل وجادوا بأنفَسِ ما يملكون، وهو (الرًّوح)؛ فداءً ودفاعًا وحفظًا وصيانةً لهذا الوطن، ونستطيع أن ندرك معًا بعضَ القيمِ والأسبابِ التي كانت عواملَ رئيسة لهذا النصر .

من هذه الأسباب : الاتصال بالله (عز وجل)، وقوة اليقين فيه، والثقة في أن النصر لا يكون إلا من عند الله (عز وجل)، يقول ربنا سبحانه وتعالى : " إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ"، هكذا كان المصريون في نصر العاشر من شهر رمضان، اتصلت أنفُسُهم بالله سبحانه وتعالى، وارتبطت قلوبُهُم بقوة اليقين والثقة في الحق (عز وجل) .

فإن الذي يستعين بغنيٍّ، فهذا الغِنَى قد ينقلب فقرًا، والذي يستعين بقويٍّ، هذه القوة قد تنقلب ضعفًا، والذي يستعين بصاحب منصب أو نفوذ، فهذا المنصب قد يزول، أما من يستعين بالله، فقد استعان بِمَنْ خلق كلَّ شيء، قد استعان بالقادر على كل شيء، قد استعان بمن لا يُعجزه في الكون أي شيء .

هكذا كان المصريون في هذه المعركة، استعانوا بالله (عز وجل)، ووجدنا هذا النداء الذي ارتجّ به كلُّ مكان (الله أكبر)، (الله أكبر)، (الله أكبر)، كان محركًا رئيسًا لهذا النصر في العاشر من شهر رمضان .

وأقول : لم يكن فقط هذا النداء، وهذا الذكر الرصين على لسان قواتنا المسلحة وفقط، بل كان على لسان كلِّ وطنيٍّ مُخلصٍ شريفٍ يحب هذا الوطن .

كذلك من الأسباب الرئيسة والرصينة لهذا النصر : الثبات، يقول ربنا سبحانه وتعالى : " يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ "، فوجدنا هذا الثبات للجند المصري، ومن ثمّ ترتب عليه القدرةُ، وكفاءةُ الأداء، وتحملُ المصاعب، ووجدنا هذا التحدي للمحن التي قابلتهم، مع استمرار يقظةٍ، وعملٍ، وسهرٍ، وتعبٍ، وتشغيلٍ لكلِّ الطاقات الممكنة (الفكرية والبدنية)؛ من أجل تحقيق هذا النصر .

ومن الأسباب أيضًا : التوكل على الله (عز وجل) بحسن الأخذ بالأسباب، فكانت الأدوات والآليات المتاحة وقتئذٍ، وكان الترتيب، وحسن التخطيط، والابتكار حسب الآليات التي كانت متاحة في وقت الحرب، ووجدنا هذه الفِراسَة المصرية، والجُندية الواعيّة في اختيار الشهر، وفي اختيار اليوم، بل وفي اختيار ساعة البدء.

هكذا كان المصريون بفضل الله عز وجل، امتثلوا عواملَ كثيرة في النصر، بقوة وعزيمة وإصرار، يأتي في مقدمتها : الاستعانة بالله (عز وجل)، والاتصال به، والأخذ بالأسباب، والثبات، كل هذه مع غيرها كانت أسبابًا رئيسة لنصر العاشر من شهر رمضان

نسأل الله أن يحفظ مصرَنا من كل سوء ومكروه، وأن يرفع عنا البلاء والوباء