د. حسين علي ,
كيف السبيل إلى ثقافة موحدة متسقة يعيشها مثقف حى فى عصرنا هذا، بحيث يندمج فيها المنقول والأصيل فى نظرة واحدة؟
وفى صياغة أخرى: كيف نوائم بين ذلك الفكر الوافد إلينا من الغرب الذى بغيره يفلت منا عصرنا أو نفلت منه، وبين تراثنا الذى بغيره تفلت منا هويتنا العربية الإسلامية أو نفلت منها؟ هذا هو السؤال المحورى الذى يدور حوله كتاب الدكتور زكى نجيب محمود «تجديد الفكر العربي».
يصف زكى نجيب هذا السؤال بقوله: «هو سؤال طرح نفسه على المفكر العربى منذ أوائل القرن الماضي، وظفر منه بإجابات تتفاوت إيجازًا وإطنابًا، ووضوحًا وغموضًا، وصوابًا وخطأ.
ومع ذلك فلم يكن من بين تلك الإجابات التى امتدت خلال قرن ونصف القرن، إجابة نحس معها أنها تقطع الشك بيقين، والحيرة باهتداء، لا، لم يظفر السؤال من المفكر العربى بعد بجواب يمكن أن يقال عنه إنه هو الجواب الذى يرسم أمام الناس طريق العمل، إذ لا يزال الناس أمامه فى الحيرة نفسها التى كانوا يقفون بها أمامه، عندما طرح نفسه عليهم لأول مرة فى بدايات القرن الماضي، حتى ليتعذر علينا اليوم أن نقول عن الفكر العربى إنه قد أصبح ذا طابع يميزه».
غير أننا نود أن نشير إلى أن ما أثاره هذا السؤال من تفاوت فى الإجابات إنما هو علامة صحة ودليل حيوية، وذلك من ناحيتين، تتمثل الناحية الأولى فى أن طرح بعض الأسئلة، قد يكون فى بعض الأحيان أهم من الإجابة عنه، والسؤال الذى طرحه زكى نجيب محمود ينتمى إلى هذا النوع، فالإجابات مهما تعددت وتنوعت لا تقلل من أهمية الأسئلة الكبرى؛ لأن مثل هذه الأسئلة لا تنفض ولا تتلاشى بظهور كثرة من الإجابات، بل على العكس، كلما كان السؤال كبيرًا ازداد إلحاحًا وصقلًا وبروزًا بتنوع محاولات الإجابة عنه.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى؛ فإن الأمة التى تطرح مثل هذا السؤال، إنما هى أمة حية تبحث عن ذاتها وتسعى إلى تحقيق هويتها.
إن مشكلتنا هى التخلف الحضارى، هكذا رآها زكى نجيب محمود، كما رأى أن لا سبيل أمامنا للنهوض سوى «أن نأخذ بجانب العلم ولواحقه، فى صورته التقنية الجديدة، على أن تظل لنا تلك الجوانب من ثقافتنا التى نراها ضرورية للإبقاء على هويتنا القومية والوطنية».
من هذا المنطلق تظهر قضية الأصالة والمعاصرة، تلك التى يقول عنها بحق زكى نجيب محمود «ربما جرت تلك العبارة (الأصالة والمعاصرة) على قلم قبل قلمى ولسان قبل لساني، ولكن اليقين المؤكد هو أن أحدًا لم يبذل مثل ما بذلته من جهد لترسيخ هذه القاعدة».
إنه يريد بالأصالة، تلك الجوانب الثقافية التى نبتت أساسًا فى تربة الوطن، وابتدعتها عقولنا نحن ومشاعرنا نحن، وقرائحنا نحن ابتداعًا.
ويريد بالمعاصرة، أن نعاصر الحضارة القائمة معاصرة صحيحة بأن نشارك فى صنع هذه الحضارة، وفى تجددها، وتقدمها المستمرين «ومن هذا الأصيل، وذلك المنقول المشتول يجب أن تُنْسَج حياتنا الجديدة لحمة وسدى».
التوفيق بين الأصالة والمعاصرة، هو ما تختلج به نفوسنا نحن أبناء الأمة العربية اليوم، وننتظر صاحب الفكر الفلسفى الأصيل النافذ، ليغوص إلى أعماقنا الثقافية، فيستخرج لنا الصيغة المنشودة التى نقرأها فنجد أنفسنا منعكسة فيها.
وذلك هو ما حاوله الإمام محمد عبده، وما حاوله من بعده كل أعلام الفكر فى بلادنا، كل بطريقته الخاصة، فحين حاول «محمد عبده» وضع تراثنا الدينى فى ضوء العصر الراهن، فإنما أراد أن يلتمس طريقة إلى هذا التوفيق الذى نبتغيه، وحينما حاول «العقاد» أن يدافع عن الإسلام بدحض ما يقوله عنه خصومه، مستخدمًا فى ذلك ثقافته الأوروبية وثقافته العربية ممتزجتين فى مركب واحد، فإنما أراد أن يجمع بين الثقافتين على صعيد مشترك، وحين حاول «طه حسين» أن ينقد أدب العرب الأقدمين على ضوء الفكر الحديث فقد أراد بدوره أن يصنع الصنيع نفسه، وعندما كتب «توفيق الحكيم» عددًا كبيرًا من مسرحياته وحاول فيها أن يعانق بين الروح والمادة، وبين الأزلى والحادث، فقد أراد أن يصل بذلك إلى الغاية نفسها.
وهكذا تستطيع أن تتعقب أعلام الفكر فى تاريخنا الحديث والمعاصر، فتجد كل واحد منهم قد أراد بطريقته الخاصة أن يضفر ثقافة الغرب وثقافة التراث العربى فى جديلة واحدة.