د. محمد سليم شوشة,
تبدو فى رأيى أغلب مشاكلنا مرتبطة بسوء فهم الكلام بكل مستوياته ونصوصه. إشكاليات فى فهم النصوص الدينية ينتج عنها تأويل خاطئ وأفكار دينية خاطئة وفقه يقوم على التنازع بدلا من التنوع والمرونة. خطأ فى فهم خطاباتنا ورسائلنا وحواراتنا يؤدى إلى أشكال من الاحتراب والشجار والتنازع الفردى والجماعى والدينى والسياسي.
ثقافة عدم الهضم أو التسرع فى الاستنتاج والتساهل فى التأويل أو حتى غيابه تماما، حين تهيمن هذه الثقافة يكون هناك أشكال من الخلاف والطاقات المهدرة ويكون كثير من التنازع الأجوف.
تبدو مشاكلنا كلها تقريبا مرتبطة بإنتاج اللغة وتلقيها وتعاملنا مع كل منتج لغوى سواء قديم أو جديد باعتياد دائم على رحابة العقل والقلب.
الأغرب أن كثيرين من مثقفينا وكتابنا ومشايخنا يدركون جيدا هذه السمة فينا فيتلاعبون بالكلام أو يزيدون من تحويره ويغلفون بلغتهم رسائل ضمنية خبيثة يتقبلها العقل المتسرع الذى اعتاد القفز على المعانى ويدأب على اتهام الآخر أو هو بالأساس لا يقرأ إلا ليبحث عن شيء يدين الآخر أو يترقب فى كل ما يقرأ شيئا يدين الآخر.
العقل العربى بوصفه مستقبلا للغة ونصوصها وخطاباتها يحتاج إلى تشريح ونحتاج إلى دراسات معمقة وحديثة عن إشكاليات الفهم وسوء الفهم وتأويل اللغة، علوم البلاغة والحجاج وتحليل الخطاب والنظريات النقدية تطورت كلها عند الغرب فى إطار دراسة الكتاب المقدس، ونحن هنا مازلنا نحرم تأويل النصوص الأدبية على غير المختصين، نحرم أولادنا من إبداء رأيهم فى كلامنا، نحرم الاستنتاج والتأويل والحوار المتسع ومازال كثيرون منا يرون الإطال فى الحديث نوع من اللجج والإثم وقلة الأدب وكل ما يليق بالشياطين وأهل النار.
أتخيل أن أزمتنا الأساسية أننا لا نجيد الحوار ولا يسمع بعضنا بعضنا، وبالتأكيد لا نجيد القراءة فما بالنا باجتيازها إلى مراحل الفهم والتأويل والتفكر.
أتصور كذلك أن أزمات سوء الفهم ليس من أحد مسئول عنها غير المثقفين ورجال الدين، فالحوار عند المثقف الكبير يجب أن يكون فى اتجاه واحد ولا يقبل برأى آخر، ورجل الدين أكثر من هذا فلا يجب أن يرد الرأى رأى أو يجاوب الصوت صوت آخر أو أن يكون هناك نقاش لأطراف عدة لأن هذا حسب تصوراتهم قد يجعل الدين أديانا وقد يصنع تشعبا فى الدين يهدمه.
يمكن أن ننتج أحيانا فنا أو جمالا أدبيا لكنه نوع من الارتجال الفردى الذى لا يشكل ظاهرة عامة أو يصنع نسيجا ثقافيا شاملا. ليس لدينا فلسفة وأساتذة الفلسفة فى الجامعات متطرفون وينتمى أغلبهم للجماعات أو على الأقل خلايا نائمة وكلها فئات مصنوعة منذ نهاية السبعينيات واستفحلت هذه الطبقة الآن وصارت تغذيها مؤسسات ومنظمات مجتمع مدنى فى مصر وفى بعض دول الخليج والإعلام والفن هم الأمل الوحيد ولكنهما فى النهاية يتأثران بكل هذا التراكم من الفساد وانسداد الفكر وقنوات الاتصال فيهيمن الصوت الواحد.
الفهم ضوء، الفهم إضاءة هائلة بين أطراف عدة تحاول العيش وتلمس طريقها نحو كيفياته، الفهم يصنع الاتفاق وينقل من مرحلة فى الكلام إلى المراحل التالية، فى حين لا ينتج عن سوء الفهم غير سوء الظن وربما العنف والاقتتال.
أستطيع أن أجزم أن كافة إشكالياتنا نابعة من كل فساد تغلغل فى دراستنا للغة العربية، كل فساد فى علوم الأدب والبلاغة والفلسفة والمختصين بفهم النصوص الدينية وشرحها وتأويلها، كل هذه الطبقة هى المسئولة عن كل حالات التهدم الفكرى والثقافى ولا أحد آخر غيرهم
أقصد باختصار شديد وبدون أى مواربة أو لف ودوران أن كل الكليات المختصة بعلوم اللغة العربية من البلاغة والأدب وعلوم الدين والفلسفة هم السبب المباشر لكل مظاهر التردى الحضارى والانهيار الفكرى الذى نعانى منه.
وأى أحد يخبرك بخلاف هذا فهو يضللك، فلا سياسة أو أى نظام للحكم يمكن أن يحل هذه الإشكاليات العميقة الراسخة فى المجتمع، صحيح يمكن أن يتجه نظام الحكم أو النظام السياسى إلى إجراء إصلاحات فى التعليم العالى أو التربية والتعليم ولكن هذا لن يشكل تطورا جوهريا أو تحولا عميقا على المدى القريب فى مناهج دراسة هذه العلوم المرتبطة بحالات الفهم وتأويل اللغة ونصوصها وخطاباتها، لأن هذا أمر جوهرى يرجع إلى طرح العلماء المختصين بهذه المجالات، هو أمر جوهرى يرتبط بكل بحث أو دراسة أو كتاب يقدم أو يطرح فى هذه التخصصات التى هى بالأساس تقود حياتنا وتشكلها ونحن لا ندري.
لو آمن هؤلاء بحرية العقل وحرية الفكر وأبدعوا كما يجب ولو لم يتسلطوا بحكم مهنهم ومواقعهم لما كان هذا حالنا، لو دأبوا على رد الرأى بالرأى ولو اعتادوا الحوار والنقاش والجدل ولو كانت بحوثنا ودراستنا كلها إضافات وحوارات ونقاشات ومحاولات للتنقيح لما كان هذا حالنا. لو تعامل الجميع مع أى اجتهاد أو تأويل بدون تزمت أو بغير نبذ واحتراب لما كان هذا حالنا من سوء الفهم.
لو كان مشايخنا وأساتذة اللغة والبلاغة والأدب والفلسفة لدينا أفضل من هذا لما كان هذا حالنا، ولكفونا ما نحن فيه من انسداد لقنوات التواصل ولكان لدينا إبداع أفضل ولكان لدينا تجديد فى الفهم والفكر ولكان النسيج العقلى والاجتماعى مختلفا تماما عما هو عليه الآن.
بالعكس أتصور أن العلوم الطبيعية والحياة من حولنا تقود فى اتجاه معين نحو التطور ومسايرة حياة البشر من حولنا فى كل دول العالم فى حين هذه العلوم النظرية من علوم الدين واللغة والبلاغة والأدب تسير فى اتجاه مناقض، وفق هذا الوضع الحالى وصورتها الآنية التى يهيمن عليها الجمود والسلطوية والرأى الواحد وعدم تنظيم الاختلاف فى الرأى وعدم تنظيم حوارتنا ونقاشاتنا.
حين تقدم العرب كانت البداية من علوم اللغة والدين والفكر والفلسفة، كان هناك تلاقح شديد فى العصرين الأموى والعباسى مع نتاج الحضارات الأخرى، فأخذوا من ميراث الأمم الأخرى وترجموا عن اليونان وفارس والهند والصين وطبعا ترجموا ميراث مكتبة الإسكندرية ومصر القديمة، ولهذا كانت هناك تصورات صحيحة فى هذين العصرين بعد استقرار الحكم لبنى أمية وكذلك بنى العباس من بعدهم، كانت تهيمن حرية الفكر والرأى والغلبة السلطان أو الخليفة أو الحاكم وما بقى كله للناس من حرية فى الإبداع الشعرى واللغوى وتطورت هذه العلوم وكثرت المؤلفات أو تعاظمت إلى حد غير مسبوق، كان كل شيء مباحا بعيدا عن تنازعات الحكم والسلطة، فى الشعر والدين والتصوف والفلسفة وعلم الكلام وتطورات المعتزلة والفرق الأخرى بشكل غير مسبوق، كما تطورات العلوم المادية فى الجبر والهندسة وعلوم البناء وإنشاء السفن وأدوات الحرب، واستمر هذا الأمر قائما حتى بدأت موجات التطرف الفكرى والدينى وبدأ يشعر المسلمون بالاضطهاد وأنهم أقل من الأمم الأخرى، ويمكن اعتبار نهاية دولة المماليك فى مصر هى نهاية العالم الإسلامى القومى وبداية تراجع حضارة المسلمين مع الدولة العثمانية التى كرست لمشاعر الاضطهاد لأنها كانت فى مواجهات دائمة مع أوربا وكانت تريد تجميع المسلمين حولها بدافع من مشاعر الاضطهاد وهذه الروح العدائية، وبخاصة بعد طرح المسلمين من الأندلس، هنا بدأ المسلمون فى مرحلة جديدة من علاقتهم بالآخر تراكم فيها سوء الفهم مع الآخر المختلف دينيا ثم مع أنفسهم مع الاختلافات فى الفرق والمذاهب ومن بعدها جمدت علوم البلاغة العربية وجمدت الدراسات الأدبية واللغوية وهيمنت المسكوكات والمنظومات التعليمية الفارغة من إعمال العقل وكلها تعتمد على الحفظ والتلقين وظللنا ندور فى هذا الفلك حتى هذه اللحظة.