سَيْنَاء.. البُقْعَةُ المُبَارَكَةُ
د. أسامة فخري الجندي
بمناسبة عيد تحرير سيناء العزيزة، نتناول بعضًا من هذه المكانة التي تتميز بها سيناء، من خلال الكلمات الآتية:
سيناء.. هي جزء من أرض مصر، ولها مكانة عظيمة ومميزة في القرآن الكريم، وليست هذه المكانة مع نزول القرآن وفقط، بل قبل نزول القرآن، وصاحبت نزوله، وبعد نزوله.
فهي أول أرض شهدت أول وحي إلهي مباشر بغير واسطة (جبريل عليه السلام)، عند جبل الطور بسيناء على أرض مصر، قال تعالى عن سيدنا موسى (عليه السلام): {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم :52]، أي في ذلك المكان (الجانب الأيمن) من جبل الطور كان أول وحيّ ونداء من الله لموسى عليه السلام، وإذا أردنا تحديدًا دقيقًا وخريطة تفصيلية لهذا المكان الذي هو أول وحي إلهي لموسى على أرض مصر، سنجد الحقَّ سبحانه وتعالى يقول: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} [القصص:30].
وهي الأرض التي شهدت مرحلة الإعداد والتهيئة لسيدنا موسى (عليه السلام) لما سيُقْبِلُ عليه من معجزاتٍ حسيّة، فقبل هذا النداء قد رأى نارًا، وكان معه زوجه، وقيل : كان معه زوجه وولده وخادم؛ ولأنه أخطأ الطريق، وكان الجو باردًا، وقيل: كان ممطرًا، فلما رأى هذه النار من بعيد، قال لهم: امكثوا، أي: تمهلوا وانتظروا لعلي آتيكم منها بخبر، أي من يخبرني الطريق الصحيح، أو أعلم لِمَ أُوقِدَت، {أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النار، أي قطعة من الحطب فيها نار لكم. {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}، أي تستدفئون بها من البرد الذي بكم.
وموسى عليه السلام رأى النار تشتعل في فرع من الشجرة، ومعلوم أن الشجرة (برطوبتها) مع النار (بحرارتها) نقيضان، ومع ذلك فهو يرى النار تزداد اشتعالاً (حرارة)، ويرى الشجرة تزداد اخضرارًا (رطوبة)، فلا النار تبهت اللون الأخضر للشجرة وتحرقها بحرارتها حيث إنها تزداد، ولا الشجرة تؤثر بازدياد خضرتها ورطوبتها فتطفئ النار.
وهذا يعد الأمر الأول الذي يقف أمامه موسى (عليه السلام) بعجب ودهشة ويستقبله بشيء من الحيرة في الفكر، ثم بعد ذلك يكون النداء الذي مضمونه: {أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:30]، وهي اللحظة التي بها عرف أنه نبيٌّ مُرْسَل، وهي اللحظة التي شهدت بداية رسالة سيدنا موسى (عليه السلام) عند هذه البقعة المباركة من الشجرة حيث شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ من جبل الطور على أرض سيناء.
وهي الأرض التي شهدت أولَ تدريب لسيدنا موسى (عليه السلام) على معجزة العصا، والذي سيستخدمها فيما بعد مع قومه بني إسرائيل حين يضرب بها الحجر، فتنفجر منه اثنتا عشرة عينًا بالماء، ومع سحرة فرعون حين تلفق ما كانوا يأفكون، ومع فرعون ومطاردته مع جنوده لسيدنا موسى (عليه السلام) وقومه، فيضرب بها البحر فينفلق كل فرق كالطود العظيم.
وهي الأرض التي شهدت أولَ حوار وقع بين موسى (عليه السلام) وبين ربه (عز وجل)، بعد أن عرف بنبوته، وهو حوار للإيناس والتهيئة التي أشرنا إليها سابقًا، قال تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى * قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى * قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى * وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى * لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى *.........الآيات}[سورة طه: 17-23 ].
وهي الأرض التي استجاب الله فيها لرغبة سيدنا موسى (عليه السلام)، فجعل معه أخاه هارون نبيًّا ووزيرًا ليشد من أزره، قال تعالى: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى *} [سورة طه: 29-36].
وهي الأرض التي انفرد جَبَلُها (جبل الطور) من بين جبال الكرة الأرضية بأنه مبارك مشهور معروف إذا ذكر في القرآن معرَّفًا، فالمتأمل لكلمة (جبل) في القرآن سيجد أنها ذكرت ست مرات، منها ثلاث مرات نكرة، أي لا يُعلم أي جبل، ومنها ثلاثة مقرونة بأل التعريف، إشارة إلى هذا العلم المشهور المبارك (جبل الطور).
فهو الجبل الذي شهد ظاهرةً فريدةً لم تجرِ أحداثُها فوق أي أرض إلا على أرضٍ مصر في جبل الطور؛ حيث تجلى الله تعالى للجبل فجعله دكّا وخرّ سيدنا موسى (عليه السلام) صعقًا، قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}[الأعراف: 143].
وهو الجبل الذي شهد نزول الألواح أو كتاب التوراة، قال تعالى:{وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [سورة الأعراف:154].
وهو الجبل الذي شهد ذلك اللقاء الذي رفع الله (جل وعلا) الجبلَ فوق بني اسرائيل وأخذ عليهم فيه العَهْدَ والمِيثَاقَ: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة الأعراف: 171].
وهو الجبل الذي شهد مجيءَ سيدنا موسى (عليه السلام) بسبعين رجلًا من قومه للتوبة عند الطور فأخذتهم الرجفة، قال تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا} [الأعراف: 155].
وهو الجبل الذي شهد هذه القاعدة الإلهية (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)، فحين أخذتهم الرجفة، قال سيدنا موسى (عليه السلام) مخاطبًا ربه عز وجل: {قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف]، فكانت الإجابة من قبل الله (عز وجل): {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ}[الأعراف: 156].
وهو الجبل الذي أقسم الله (عز وجل) به مع البقاع المقدسة التي شرَّفها الله تعالى بالوحي والرسالات السماوية، قال تعالى:{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ}[التين:1-3].
وهي الأرض التي سُميت بهذه الخصوصية (الوادي المقدس طوى) فانعكست على مكانة سيدنا موسى (عليه السلام) بين الأنبياء، قال تعالى:{إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى}[سورة طه: 12].
وسيناء اشتملت تربتها على آثار أٌقدام الأنبياء والمرسلين، وفيها تنَزَّل الوحي الإلهي عليهم، فقيل: إن سيدنا إبراهيم (عليه السلام) رحل إليها في عصر الهكسوس (1675-1580ق.م) وكان ذلك عن طريق سيناء، ونعلم أنه أنجب ولده سيدنا إسماعيل (عليه السلام) من السيدة هاجر وهي من بنات مصر، فبمصر عن طريق سيناء ارتبط أبو الأنبياء (عليه السلام)، ونزل عليه الوحي، ورفع لواءَ التوحيد في مواجهة الشرك وعبادة الأصنام.
وإلى مصر جاء سيدنا يوسف (عليه السلام)، وكان ذلك في عهد الأسرة الخامسة عشرة، والتي يبدأ حكمها سنة 1675ق.م، وباستدعاء من سيدنا يوسف (عليه السلام) جاء إلى مصر (والده) سيدُنا يعقوب (عليه السلام)، وعاش فيها، ودعا إلى الله (عز وجل)، وتنزّل الوحيُّ عليه على أرض مصر، وقد قيل: إن دخولهم كان عن طريق سيناء، بل وقيل: إن قوله تعالى على لسان سيدنا يوسف (عليه السلام): {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف: 99] كان من خلال سيناء.
سيناء والمحمل: من أرض الوادي المقدس طوى في (سيناء) إلى البلد الأمين (مكة المكرمة) كان أجمل المشاهد التي عاشتها أرض سيناء والتي يذكرها التاريخ لنا، حيث خروج "المحمل" إلى الحج، فقد كان "المحمل" يمر بسيناء متجهًا إلى الأراضي المقدسة في الحجاز منذ سافرت "شجرة الدر" عام 1248 مع قافلة إلى مكة عن طريق سيناء، ولكن مراسم "المحمل" الشهيرة أصبحت معروفة عام 1266 عندما بدأ الملك الظاهر بيبرس إرسال "محمل" يصاحب الحُجَّاجَ عبر ذلك الطريق التاريخي، وقد كان يمر بسيناء آلافُ الحجاج من المصريين والعَرَب والأفارقة والأجانب من شتى بقاع العالم متوجهين إلى البلد الأمين.
سيناء والفتح الإسلامي لمصر: وسيناء هي مفتتح دخول الصحابة والتابعين (رضي الله عنهم) إلى أرض مصر، وعلى أرض العريش كانت أول صلاة عيد أضحى في العاشر من ذي الحجة 18 هـ، يوافق 13 ديسمبر 639 م؛ حيث صلى سيدنا "عمرو بن العاص" (رضي الله عنه) وَمَنْ معه على أرض مصر بعد أن جاوزوا رفح متجهين للعريش، وبعد أن أراد الله لمصر فتحها بالإسلام، وقد كان تمام الفتح في سنة 22هـ /642م، والذي استقبله سيدنا "عمر بن الخطاب" (رضي الله عنه) بالبشارة والسجود لله؛ حيث صلى الجميع في مسجد النبوة شكرًا لله (عز وجل).