الاعتياد.. والاعتقاد
د. حسين علي ,
يحْكَى أن زوجة أحد الملوك تأخرتْ فى إنجاب ولى العهد، فسارع الملك باستدعاء أمهر الأطباء من كافة أرجاء المملكة. وشاءت الأقدار أن تشفى الملكة؛ وحملتْ بولى العهد. وعندما وضعت وليدها كانت دهشة الجميع كبيرة؛ إذ كان للمولود أذن واحدة. انزعج الملك من هذا الأمر، وخشى أن تتسبب تلك العاهة فى إصابة الأمير الصغير بعقدة نفسية تحول بينه وبين تولى الحكم.
جَمَعَ الملك وزراءه ومستشاريه، وعرض عليهم الأمر. اقترح أحد المستشارين اقتراحًا لا يخلو من غرابة؛ إذ قال:
- الأمر بسيط للغاية يا مولاي.. اقطع أذن كل المواليد الجدد؛ وبذلك يتشابهون مع سمو الأمير.
أُعجب الملك بالفكرة، وسارع بتطبيقها فى جميع أنحاء البلاد، وصارت عادة تلك البلاد أنه كلما وُلِدَ مولود قطعوا إحدى أذنيه. ومرت السنون حتى بات سكان المملكة جميعهم لا يملكون سوى أذن واحدة.
فى أحد الأيام وفَدَ إلى المملكة شاب بأذنين. أصابت الدهشة سكان المملكة من هذا الكائن الغريب الذى يمتلك أذنين، وسيطر عليهم شعور بالنفور من خِلْقَته. لقد ألِفوا وجود إنسان بأذن واحدة. كان هذا هو السائد والمعروف؛ حتى صار ذلك الشذوذ أمرًا طبيعيًا ومقبولاً، وما سواه يُعَد شاذًا ومنفَّرًا. فى ظل اعتياد ما هو ردئ وشاذ، يتحول الجيد والطبيعى إلى أمر مقلق، ويُنْظَر إلى كل جديد بوصفه خطرًا يستوجب المواجهة والمناهضة، من هذا المنطلق أصدر جلالة الملك مرسومًا باعتقال الشاب؛ الغريب ذى الأذنين؛ وإلقائه فى غياهب السجن، بغية ردعه، وإرغامه على بتر إحدى أذنيه؛ حتى لا يؤدى اختلاف خِلْقَته، وغرابة هيئته وشذوذ منظره إلى إحداث فتنة لا تُحمد عقباها.
رضخ الشاب لما هو سائد، وقرر أن يقطع أذنه بنفسه حتى يصير مثل سائر مواطنى المملكة لا يمتلك سوى أذن واحدة فقط!!
والسؤال الآن: هل يمكن لمجتمع ما أن يكون معاقًا بالكامل؟
الإجابة: نعم.. لقد حدث هذا آلاف المرات فى تاريخ البشرية!!
ولماذا نذهب بعيدًا؟ إن المتأمل لحال مجتمعاتنا العربية سيجد حالها قريب الشبه بحال تلك المملكة التى اعتاد أهلها العيش بأذن واحدة، وألفوا ذلك، وظنوا بسبب هذه الألفة التى امتدت سنوات وسنوات، أن الطبيعى هو العيش بأذن واحدة، واعتقدوا اعتقادًا جازمًا أن الشذوذ كل الشذوذ أن تنبت للمرء أذن ثانية. ويا ليت المسألة اقتصرت على قطع الأذن؛ لو كان ذلك كذلك لهان الأمر؛ غير أن الطامة الكبرى تكمن فى أننا مطالبون فى مجتمعاتنا العربية باستئصال العقل واستبعاده؛ كى نتواءم مع ما هو سائد ومألوف، علينا أن نتجنب التفكير حتى نعيش فى أمن وسلام، «إن من يتفكر سوف يتعكر» هكذا تقول بعض أمثالنا الشعبية. وفى مجتمعاتنا العربية والإسلامية تتوجه الأم بالدعاء لأبنائها قائلةً: «ربنا يكفيكم شر الفكر».. الفكر فى بلادنا شر وبلاء؛ علينا أن نستعيذ بالله من شره. وقديمًا كان يقال «من تمنطق فقد تزندق».
كان الفكر السائد فى العصور الوسطى هو أنه ليس فى وسع «العقل» وحده أن يصل إلى جميع الحقائق، بل هناك مجموعة من الحقائق لا نصل إليها إلا عن طريق «الوحى» مهما كانت دقة العقل وصحة برهانه. وعلى ذلك كانت الحقائق الدينية هى نقطة البداية التى يبدأ منها المفكرون فى العصور الوسطى، ويستخدمون العقل فى محاولة البرهنة والتدليل على هذه الحقائق. ومن هنا ظهرت مشكلة التوفيق بين «العقل والوحي»، وتسمى أيضًا قضية التوفيق بين «العقل والنقل» أو العلاقة بين «العقل والسمع».
ولقد نجح بعض مفكرى العصور الوسطى فى التوفيق بين «العقل» و«النقل». لكن بعد صدور كتاب «تهافت الفلاسفة» للإمام أبى حامد الغزالى الذى كان من أشهر مفكرى المسلمين فى القرن الخامس الهجري؛ منذ ذلك الحين صارت الدعوة إلى إعمال العقل تتقلص. وانتهج الفقهاء والمفسرون نهجًا لا عقليًا فى تقديم تفسيرات وشروح وأحكام زعموا أنها تتوافق وصحيح الدين. ونظروا إلى مناحى الحياة كافة من خلال ذلك المنظور اللاعقلي، وتصدوا بشراسة لكل مخالف، وظل هذا النهج ساريًا حتى اللحظة التى أكتب فيها هذه السطور. نجم عن ذلك ضمور العقل العربي. وصارت شعوب المنطقة العربية لا تمتلك سوى أذن واحدة، هى الأذن التى تنصت إلى إرث المرويات والمأثورت، أما الأذن الأخرى؛ «أذن العقل» فقد بُتِرَت.
ونظرًا لخضوع شعوب الأقطار الإسلامية والعربية - على مدى فترات زمنية طويلة تصل إلى عشرات القرون - لحكَّام مستبدين أو مستعمرين غاشمين فضلاً عن فقهاء مضللين، فقد أَدَّى ذلك إلى تخلف تلك الأقطار، ومن ثمَّ تضاءل دور العقل، بل بُتِرَ العقل وتلاشى الفكر، وغابت الحرية. ترتب على هذا الوضع حدوث ألفة واعتياد للتمسك بكل الأفكار والمعتقدات دون فحص عقلى لها، وكانت النتيجة الحتمية لهذا التردي؛ أنه إذا سطع نور العقل على يد أحد المفكرين يُتَصَدَّى له بشراسة، تمامًا كما حدث من تصدى للشاب ذى الأذنين. ولا تهدأ الأحوال إلا بقطع إحدى أذنيه (الأذن التى يسمع بها صوت العقل)، والإبقاء على الأخرى (التى يسمع بها صوت الشرَّاح والفقهاء ووعَّاظ السلاطين).
إن الاعتياد هو مصدر الاعتقاد، وإن الألفة تعمى البصر وتطمس البصيرة، وتحول دون إدراك موطن الخلل وموضع التهافت؛ وكلما طال أمد الألفة تعمق الإيمان بالأوهام. والحجة التى تتم بها مواجهة كل من يملك رأيًا مخالفًا لما هو سائد فى الرأى هى إدعاء المحافظة على أمن واستقرار البلاد، وكأن لا سبيل إلى ذلك الأمن والاستقرار إلا بقهر الإنسان وإرغامه على قبول الرأى الواحد. إن هذا الإجراء التعسفى طُبِّقَ بصرامة على ذلك الشاب الغريب ذى الأذنين!!
عزيزى القارئ لا تقطع أذنك. ولا تتنازل عن حقك فى أن تكون مختلفًا لمجرد إرضاء الآخرين. وإذا كانوا هم لا يخجلون مما هم عليه من ضلال، فلِمَ تخجل أنت من تمسكك بالصواب؟ الخطأ يبقى خطأً ولو مارسه كل الناس، والصواب يبقى صوابًا ولو لم يفعله أحد.
*أستاذ المنطق وفلسفة العلوم بآداب عين شمس