لا يوجد ملائكة وشياطين في رواية فتحي غانم "زينب والعرش"، إنما هناك بشر من لحم ودم تجمعهم دوائر صراع مميت، هناك فصل من تاريخ الصحافة رواه "غانم" من كواليس جريدة "العصر الجديد" كشف فيه أحزان المهنة وصراعاتها، بل بعض من عورتها، ما قدمه الكاتب في تلك الرواية لم يكن جلدًا للذات، إنما هو رصد لتاريخ اجتماعي وسياسي ألقي بظلاله على بلاط صاحبة الجلالة وأبنائها، لم يكن يدري الروائي العبقري أن بعض مما كتب ربما يتكرر في رواية أحدهم في المستقبل بصورة أخرى وبشخصيات مختلفة، لكنها لا تزال في نفس دوائر الصراع.
التفاصيل الدقيقة التي رسمها "غانم" لـ "عبد الهادي النجار" رئيس تحرير "العصر الجديد" وكواليس ودوافع إصدار مجموعة من رجال المال في تلك الفترة للجريدة، لم يكن الهدف منه تقديم صحافة حرة تعبر عن أحلام وآمال الناس، إنما تحقيق مصالح اقتصادية.
صدرت الجريدة في عام 1948، وكان ممولها الرئيسي بنك النيل الذي يساهم فيه كبار رجال المال المرتبطين بصناعة النسيج، وكان رئيس مجلس إدارة البنك أحمد باشا مدكور، الذي كان في زيارة إلى أمريكا والتقي المليونير جاك فيشر الملقب بملك "النايلون" أبدى استعداده لتمويل مشروع لتطوير صناعة النسيج.
لكن عندما حاول مدكور باشا ضم مساهمين للمشروع كان يصطدم بمخاوفهم من مواجهة رجال صناعة النسيج في إنجلترا، وهي لا تزال صاحبة الكلمة العليا في مصر، وتفتق ذهن الرجل عن استخدام الصحافة كأداة تخلق نفوذ يمهد لذلك المشروع ويمكنه من الضغط على خصومه، هكذا صدرت "العصر الجديد"، بل إن "غانم" لم يكتف برسم الصورة الدقيقة لصدور "العصر الجديد" بل تناول سياستها التحريرية التي وضعها لها رئيس التحرير المؤسس، فلم تكن الصحيفة تنقل الأخبار بمهنية إنما كانت تقدم الأخبار في صيغة تحمل رائحة الفضائح، فالصحيفة تنشر أخبار عن صراع بين الأحزاب السياسية، و في الخلفية صراع بين زوجتي رئيسي الحزبين، وكيف تطور صراع الزوجات حتى بلغ ذروته ليظهر في صورة صراع سياسي، و هو الأمر الذي ساعد في سرعة انتشار "العصر الجديد" كما أراد عبد الهادي النجار.
أكاد أرى في يومنا هذا صورًا أخرى من "العصر الجديد" لكن في صور أخرى مختلفة بعضها يقدم قصصًا ليس لها علاقة بالصحافة إنما تقدم قصصًا تستهدف جمع المال، وبعضها يهدف لرواية القصة من الجانب الذي يخدم مصالحه السياسية، ومع تطور أدوات ثورة المعلومات تراجعت الصحافة أكثر، فقد أصبحت في منافسة مع صناع محتوى السوشيال ميديا التي تزداد قوة وقدرات على النشر لا تملكها الصحف، وأصبحت الصحيفة التي تحاول الحفاظ على المهنية كالقابض على الجمر.
وفي "زينب والعرش" تنتقل "العصر الجديد" بأمراضها المهنية وصراعات أبنائها من قبضة رأس المال ونفوذ "مدكور باشا" ورفاقه إلى قبضة دولة يوليو، هنا تظهر انعكاسات وتحولات المجتمع على شخصيات الرواية، يمكنك أن تلمح ذلك جليا في تطور شخصية "حسن زيدان" أول الدفعة، الذي دخل إلي بلاط "العصر الجديد" بفضل نقله أخبار أستاذه إلى "عبد الهادي النجار"، المدرك لـ شخصية "حسن زيدان" ويعلم أنه ينتظر الوقت المناسب لإزاحته وميراث مقعده في "العصر الجديد".
تحولات يوليو كانت الفرصة الذهبية التي ينتظرها "حسن زيدان" للتخلص من "عبد الهادي النجار" وبنفس الطريقة التي دخل بها إلى دائرته، وهي نقل أخباره إلى الرقيب العدو التقليدي لـ"النجار"، لكنه لم يستطيع إزاحته.
كان "غانم" يرسم كل شخصية بمبضع نحات، يكشف عرواتها وخبايا نفسها ولحظات ضعفها الجميع لديه مآرب من "زينب"، وفي بعض اللحظات كانت هي كعبة الحب وقبلة التطهر لأكثرهم قسوة، كانت "زينب" هي البطلة في رواية كل من اقترب منها.
للحديث بقية الأسبوع المقبل.