مرّت الأيّام يقطر في إثرها عمره ، يتألق في عينيهِ بريق الأمل ، يُطالِع شبحهُ حينَ يتراءى فوقَ ماءِ التّرعة ، يغرفُ غرفة بيدهِ يلَطمُ بها وجهه النّاحل عابثا، تمتزج قطراتها بدموعهِ المنسابة ، يُساورهُ شعور الكَمد ، لا يجد دون نيران صدره مَصرِفا ، حين يشخص بصره قبالة ذراري من حولهِ من أبناءِ عمومته ، الذين فَاضَ بهم الدّرب ، يأمَل وجهَ النّهار وييأس آخره ، يبوح بهِ الفِكر تبريحا.
لا تزال كلمات أمّه ترنّ في مسامعهِ وهي تُحدِّثه حديث لهفة، تُحذِّره أن يصبِح أُحدوثةً في أفواهِ القوم :" دَعْ عَنكَ أوهامك ، واتّخذ لكَ زَوجة جديدة تجلب لكَ من يحمل اسمك واهجر ثُريا ، فهي أرض سبخة تجحد بذرتها"، يعودُ بذهنهِ يكرّ دفتر أيامه مُتَحسِّرا عليها ، بعدما نُفضت دونما فائدة ، يقولُ في لهجة ملؤها رنين الاقتناع :" كَيْفَ السّبيل وقد انقضى العُمر يا أمي وفاتَ الأوان ؟!" ..
يُمرّر يده فوقَ جبهتهِ المحتقنة يعتصرها عصرا ، يعالجها بطرفِ جلبابه يدسّها خَجلا ، مُستعيذا باللهِ من كيدِ النساء ، يَلح صوت الماضي ، يأتيه مقتحما بلا إذن ، تشخص فيهِ" ثريا " شابة ملء السّمع والبَصر ، ترفلُ في جلبابها الفلاحي الأحمر ، قد عصّبت رأسها بطرحةٍ بيضاء ، تتلألأ صَبابةً تَحتَ أضواءِ " الكلوب " ، وأصوات النّساء والصّبايا من حولها ، تتطايرُ مبتهجة ، هي وإن تصغرهُ ، لكنّه وجَدَ فيها فتاته التي يبحث عنها ، حتّى ظنّ الناس أنّها عِلة تأخير زواجه ، يتيمة الأب والأم ، جلبتها خالتها " عواطف " بعدما انقطعت بها سُبل الحياة ، مُذ قدمت لم يعرف جنبها الرّاحة يوما ، تراها اعمل عمل الرِّجال ، تحصد وتغرس وتقلع ، وفي البيتِ تخبز وتمسح وتغسل ، من وراءها خالة زرقاء النّاب ؛ لا تشبع من غلتها ، حتّى ذهبت عن قلبها زهرة السّعادة .
كَانَ زواجها من " حسونة " طوق النّجاة الذي مُدّ إليها فتعلّقت بهِ مُكرهة، آثرها دون بقية بنات العائلة ، يكيل لها الحُبّ كيلا ، انطوت أيامهما قانعا يدبّ في قلبهِ دبيب الرَّاحة، لم يفكِّر يوما في أمرِ " العَوَض" مُكتفيا بهذهِ الحبيبة التي وجَدَ من عطفها ما يُرطِّبُ قلبه ، اعتَرَف بينه وبين نفسه أنّ كلام أمّه المملول نَبّه قلبه الغافل ، لكن فات أوانه ! ، فقد مرَّ على حديثها سنين طِوال ، أيامئذ كان في مَيعة الشّباب ، يستقبل الحياة بصدرٍ فتي لا يعرِف الخوف طريقه ، أمّا الآن وقد انسلت الأيام منه ، أخيرا أدرك أن سبب التعاسة حماقته ، التي ساقته لأن يلقي بذكراه في آتون النسيان .
يحمل أبناء العائلة فوق كتفه منشرح الصّدر ، ترضيه عبارات المحبة تملأ الحنوك ، تغيّبه لحظات دافئة عن أوجاعه :" عامل إيه يا بويا حسونة ؟"، هذه تكفيه ، يرى في توقيرهم لعجوزٍ مثله ما يبلغ الحدّ، لم ينكر يوما أن تلك المشاعر الجياشة كانت تثير حفيظة " ثريا " ، يضحك ملء شدقيه ، حتى يغرق جفنيه الدّمع على سذاجتها ، يقول في انبساطٍ :" هؤلاء من سيحملون رمّتي بعد مماتي "، لكّن المرأة الثرثارة لا تفتأ تذكره عجزه ، تفرك الأرض من تحتها تغمغم بلسانٍ موتور ، تدورُ بمخيلتها صورة حماتها الرَّاحلة ، تلقي إليها التّهم الموجعة :" اتشطري علشان نشيل عيالك "، أصبح همّ الرّجل أن يتعالى على علتهِ بعدما أضحت ظِلّ شقوته الذي يحيا معهُ ليفسد حياته ، يختلي ساعات فوق سطحِ داره، يّطوفُ وسط غَمراتِ الحزن مُنكَفئا نادِبا حَظّه العاثر ، حاول أكثرَ من مرةٍ التَّخلي عن " ثريا " ، لكنه فَشلَ ، تسائل في حيرةٍ :" أهو الحُبّ ، أم الاستسلام للمصيرِ المحتوم؟!"، وهل ذنب المسكينة أن وجدت في قلبهِ دوحة حُبٍّ آوت إليها بعد مشقةٍ ؟! يَلعن في عَصَبيةٍ تلك العصابة من حنانها ورحمتها التي أنسته كُلّ شيء .
ظَلّ على حالهِ يُطالِع الوجوه الفتية التي تتحلّق بهِ، تأخذ بمجامع قلبه؛ تُغالِبُ صدى صوت أمه القادم من سجف الذِّكرى ، يُحَرِضهُ على هؤلاء ، يُغريه بهم مُستَخِفا ، يذكره فشله في ايجاد " العَوض" الذي يحمل امتداده ، يَهبُّ واقفا ، ينقطع عندها سلسال الكلام ، تتطلع إليهِ العيونُ في وجَلٍ ، ينفض جلبابه ويمضي في تيهه بين الحقول .
تَبدّت خيوط الشّمس النّارية من خلفِ الحُجب ، في رونقٍ جليل ، لاحت الحقولُ من تحتها مع غبشِ الصِّبحِ الوليد رحبة، زاهية مليئة بآيات الحُسنِ والجمال ، عندما تقاطرت حشود العائلة تودِّعُ شيخها الفاني ، تخطّفت نعشه أيادي المحبين الذين أفنى عمره في حملهم ، بكتهُ القلوب التي اندفعت لاهثة لوداعهِ بالمُهجِ والأرواح ، تُردِّد سيرته ، وتَلهجُ بذكراه رحمةً وغُفرانا.