رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


الأسمر الجنوبي أمل دنقل من مقهى ريش إلى الغرفة 8

21-5-2022 | 14:14


أمل دنقل

أبانوب أنور

تحل اليوم السبت 21 مايو، الذكرى الـ 39 على رحيل أمل دنقل، ابن الصعيد الذي أتى إلى القاهرة يحمل تراث الأجداد وثقافة الوالد حيث كان والده أحد علماء الأزهر وحصل على الإجازة عام 1940 سنة ميلاد نجله فأسماه "أمل" تيمنًا بالنجاح الذي أحرزه في نفس العام، وكان لديه مكتبة رائعة تحتوي على أمهات الكتب من فقه وشريعة وتفسير وذخائر التراث العربي، وكانت هذه النواه الأولى لثقافة وتعليم الفتى الصغير الذي أصبح مسؤولا عن أسرته في سن العاشرة حيث توفي والده.

ميلاد أمل دنقل وحياته

ولد الأسمر الجنوبي محمد أمل فهيم أبو القسام محارب دنقل في عام 1940م في أسرة صعيدية بقرية القلعة، مركز قفط على مقربة من مدينة قنا في جنوب مصر، ورث أمل عن والده موهبة الشعر فقد كان يكتب الشعر العمودي، فقد أمل دنقل والده وهو في سن صغير مما أثر عليه كثيرًا وأضاف إلى حياته مسحة من الحزن التي نجدها في كل أشعاره، فما أقسى من فقدان الأب.

انتقل أمل إلى القاهرة بعد إنهاء دراسته في المرحلة الثانوية بقنا، والتحق بكلية الآداب في القاهرة، ولكنه انقطع عن الدراسة منذ العام الأول لكي يعمل، فقد عمل موظفًا بمحكمة قنا وجمارك السويس والإسكندرية ثم بعد ذلك موظفًا في منظمة التضامن الأفروآسيوي، ولكنه دومًا كان ينصرف عن العمل لكتابة الشعر.

هوية أمل دنقل الشعرية

في بداياته استوحى أمل دنقل قصائده من رموز التراث العربي، وكان ذلك مخالفًا لمعظم المدارس الشعرية في الخمسينيات، فقد كان السائد في ذلك التوقيت التأثر بالميثولوجيا الغربية عامة واليونانية خاصة.

شهد أمل دنقل عصر أحلام العروبة والثورة المصرية مما ساهم في تشكيل نفسيته وهويته الشعرية، فانكسر بانكسار مصر في عام 1967، وعبّر عن انكساره في رائعته «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» .

كان دنقل شاهدًا على نصر 73 ، وصرخ ضد معاهدة السلام، وأطلق في وقتها رائعته «لا تصالح» والتي عبر فيها عن كل ما جال بخاطر كل المصريين، ونجد أيضًا تأثير تلك المعاهدة وأحداث شهر يناير عام 1977م واضحًا في مجموعته «العهد الآتي».

استطاع الجنوبي الأسمر أمل دنقل أن يعبر عن مصر وصعيدها وشعبها، ونجد هذا جليًا في قصيدته «الجنوبي» في آخر مجموعة شعرية له «أوراق الغرفة 8»، حيث عرف القارئ العربي شعره من خلال ديوانه الأول «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» الصادر عام 1969 الذي جسّد فيه إحساس الإنسان العربي بنكسة 1967 وأكد ارتباطه العميق بوعي القارئ ووجدانه.

وصدر لأمل دنقل ست مجموعات شعرية هي: البكاء بين يدي زرقاء اليمامة ـ تعليق على ما حدث ـ مقتل القمر ـ العهد الآتي - أقوال جديدة عن حرب بسوس - أوراق الغرفة 8 .

مرض أمل دنقل ووفاته

أُصيب أمل دنقل بالسرطان وصارعه لمدة ثلاث سنوات تقريبًا، وتتضح معاناته مع المرض في مجموعته «أوراق الغرفة 8» وهو رقم غرفته في المعهد القومي للأورام، وقد عبرت قصيدته السرير عن آخر لحظاته ومعاناته، وهناك أيضًا قصيدته «ضد من» التي تتناول هذا الجانب، ولم يستطع المرض أن يوقف أمل دنقل عن الشعر حتى قال عنه أحمد عبد المعطي حجازي: «إنه صراع بين متكافئين، الموت والشعر».

رحل أمل دنقل عن عالمنا في يوم 21 مايو عام 1983 لتنتهي رحلته في دنيانا، وكانت آخر لحظاته في الحياة برفقة الدكتور جابر عصفور والشاعر عبد الرحمن الأبنودي.

أمل دنقل بعيون زوجته عبلة الرويني

تزوج أمل دنقل بعبلة الرويني ورافقته حتى لحظاته الأخيرة في هذه الدنيا، كانت له السند والأمان والحصن.

تقول عبلة الرويني: كان «مقهى ريش» بداية الطريق إلى أمل دنقل، إنه الملامح والمكان والهوية الذي بدأت منه رحلة البحث عن شاعر، لا أعرف ملامح وجهه.

كتبت عبلة كتاب يجسد سيرة الشاعر الراحل أمل دنقل واسمته "الجنوبي"، تناول الكتاب حياة عبلة الرويني مع أمل دنقل خلال 4 سنوات من الزواج وحتى قبل الزواج حين كانا أصدقاء.

وتروي عبلة الرويني في كتابها، إن بداية اللقاء بينها وبين ودنقل، كان عام 1975و التقته في مقهى (ريش) في بداية عملها في جريدة "الأخبار"، لإجراء حوار، ورغم تحذير الكثيرين لها إنه شاعر يساري وسياسة الجريدة لا تسمح بإستضافة حوار له، لكنها سعت لمقابلته والتعرف إليه، وحتى إن أمل في نهاية اللقاء قال لها بترفع "لا تحلمي بأن نكون أكثر من أصدقاء " فردت عليه بعصبية " أولاً نحن لسنا أصدقاء، ثانياً لا أحد من حقه تحديد مشاعري"، كان أمل يخشى الوقوع في حبها فكان يسعى لإبعادها حتى أعترفت له ذات يوم بحبها، فأغرم بها وكان مولعاً بإهدائها كتب الشعر، حتى تزوجا عام 1979.

تحكي "الرويني" في كتابها عن أمل الصعيدي الشديد، المترفع صاحب عزة النفس القوية، تحكي عن تناقضاته ومشاعره المتشابكة المتعددة في اللحظة الواحدة، علاقته بأصدقائه وعلاقته بعائلته وعلاقته بأرصفة الشوارع ، جسد الجنوبي كذلك حياتهم سوياً حيث الدخل المادي الضعيف والتنقلات السكنية من فندق لفندق ومن منزل لمنزل، وعلى الرغم من كون عبلة الرويني من طبقة أرستقراطية وتعليمها في مدارس الراهبات الفرنسيات وكان على نقيضها أمل الزاهد في الدنيا لدرجة عدم أمتلاكه حتى ثمن كوب من الشاي، لكنها أغرمت به حتى نسيت عالمها وأصبحت تدور في فلك محبوبها أمل دنقل.

تناول الكتاب أيضًا الجزء الأكثر قسوة حيث مرض أمل بالسرطان، وفي هذا الأمر تقول عبلة الرويني حين أخبرهما الطبيب بمرض أمل الذي أصبح أكثر خطورة بسبب اهمال أمل المتابعة الطبية "انفجرتُ باكية بينما ظل أمل صامتًا يقتله الحزن الشديد، حتى فاجأني بسؤال غير متوقع: لماذا لا يريدني الطبيب أن أتعامل مع السرطان كشاعر؟ كانت الغرفة رقم 8 في الدور السابع على موعد معنا، فقد صارت منذ اليوم سكننا الدائم، بل هي أول منزل حقيقي تمتد فيه إقامتنا لأكثر من سنة ونصف السنة حتى رحل أمل . " -كقارئة، لم أستطع أن أترك الجنوبي من يدي حتى أنهيته بل كررت قراءته بعدها لثلاثة مرات، غارقة في عالم الشاعر الذي أحببته، ومندمجة بشدة مع سرد عبلة الرويني للأحداث وتنقلاتها مابين حياتهما الشخصية إلى الغوص في شخصية أمل المعقدة إلى حد كبير، لكنها أحبته فاستطاعت فك شفراته بسهوله.

رثاء يوسف إدريس لأمل دنقل

في جريدة الأهالي، مايو عام 1983، وبعد وفاة الشاعر أمل دنقل بأيام كتب الأديب يوسف إدريس مقالا قرأه في الاحتفالية التي أقامها حزب التجمع بذكرى الشاعر الراحل قال فيه:

منذ أن مات نجيب ويحيى وصلاح وأمل.. منذ أن مات المتنبى وأبو العلا.. منذ أن مات الحلاج وهيمنجواى وجاليليو وتشى جيفارا وأنا أتساءل لماذا يموت الشاعر؟

هل يموت لأن القبح يسود والجمال يتقلص؟ هل هو ينتحر بالإرادة لأنه يئس من العالم؟ هل يموت من فرط حبه للمغامرة وعشقه للخطأ والخطر؟.. هل يموت مهموما لأن الألم في الدنيا أكثر؟

وهل يموت ليقول للعالم كلمة عجز عن قولها بحياته.. أم لأن من يخونونه ويرهبونه ويأكلونه حيا بعد أن عجزوا عن قهر نتاجه..

أم أن موت الشاعر حدث مثل غيره من أحداث الحياة لا معنى له بالمرة.. عبثا يولد الشاعر وعبثا يقول وعبثا يموت.

أم أن موت الشاعر لأنه لم يعد يتلقى من الناس حبا مخفوقا بالحسد والكراهية من حوله غريب الدار في داره بلا وطن وهو في وطنه.

أبدا لا يموت الشاعر لأنه أصبح الأضعف أمام أعدائه المزيفين.. وما قتل الزيف أبدا حقيقة...أبدا لا يموت الشاعر من كثرة الخناجر، فخناجر أعداء الشاعر مبارد تشحذ نصله وأبدا لا تكسره.

ولا السرطان يقتل الشاعر فالسرطان حياة مغلوطة تقضى فقط على حياة مغلوطة.. أما الحياة.. حياة الشاعر فلن تقضي عليها أبدا أي حياة حتى ولو كانت مغلوطة.

وحتى الموت لا يميت الشاعر.. وحياة الشاعر تذكرة ذهاب وإياب بين الحياة والموت.. يحيا ورأسه على يده.. يقول الكلمة وهو مستعد أن يلاقى الموت جزاؤها، وقد يذوق الموت والإعدام وقد يموت فعلا ولكن الموت أبدا لا يميت الشاعر، بل الجنون نفسه ولا الجن ولا الفاشيست ولا السى آى إيه ولا هتلر ولا شارون.. ولا إنس ولا جن لا يستطيع أن يقتل الشاعر.

بل إن الحب لا يقتل الشاعر.. ذلك الصاعق الماحق المتوهج الشجاع الخبيث الأرعن، فالحب يحيى الشاعر، والحب الناجح يحيله إلى مغن والحب الفاشل يجعله فيلسوفا.

أذن لماذا يقتل الشاعر؟ أجل يموت حين ييأس من أن يشاركه أحد الرؤية، تمام الرؤية.. ولست هنا في مقام إيضاح رؤية أمل دنقل مما حصلته منها نتف متفرقة.

وأمل دنقل الرؤية كان رؤية.. مستحيلة أن يراها سواه وإلا كنا جميعا أمل دنقل.

حين صاحبت أمل في أخريات حياته كنت رفيقه.. كل يوم وكل قهقهة عالية.

أيها السادة نحن في حضرة أمل دنقل.. عبقرية انتهت منذ أيام وإلى ألف عام من الآن إلى مسافة تماما مثل التي كانت بين المتنبى وأمل دنقل.

سنظل ننتظرها ولن أطلب منكم الوقوف حدادا، فنحن إذا وقفنا حدادا سيكون حدادا على عصر طويل قادم، حدادا على العصر الذي سيمضى حتى يسب فيه رجالا لهم شيم الرجال الذين كان يراهم أمل دنقل، وكرم الرجال الذين كان يحلم بهم أمل دنقل.