مصر الجديدة.. الجديدة فعلًا
أقطن بمصر الجديدة -العزيزة على القلب- منذ ثمانينات القرن الماضي، كنت أسكن بمنطقة محيطة ببوابة 2 من نادي الشمس، وكانت العمارة التي أسكن بها هي وأخرى الوحيدتان بالشارع كله قبل أن تكتسح حركة العمران المنطقة بأكملها لتظهر منطقة مساكن شيراتون والنزهة الجديدة استكمالاً لها ووصولاً لمطار القاهرة الدولي.
كنت معتادة على المرور بأراضٍ فضاء قاطعة شارع عبد الحميد بدوي للوصول إلى نادي الشمس ملاذنا ومتنفسنا الوحيد آنذاك بالنظر إلى اتساع أراضيه، وأنشطته الاجتماعية والرياضية والثقافية المتعددة، كنت أيضاً أذهب إلى مدرستي مع أخي وبعضاً من جيراني سيراً على الأقدام في مسافة زمنية لا تتعدى الإثنى عشر دقيقة متخذين في ذلك طريقاً من ثلاثة في كل مرة (الصحراوي، أو الزراعي، أو الصحراعي)، كان الطريق الصحراعي فيهم -كما كان يطلق عليه أخي- نصفه تأكله الشمس لأنه بلا أي أبنية أو شجر، والنصف الآخر تكسوه الخضرة وأشجار البونسيانا وأغصانها المنسدلة بالورود الحمراء، وكذا أشجار الياسمين الممتدة من بين أسوار البيوت برائحتها النفاذة التي لطالما ارتبطت في أنفي بطريقي للمدرسة، في مشهد بديع اختلط فيه الأحمر بالأبيض على أرصفة مصر الجديدة المميزة بالبلاط المتداخل كما بيوت النحل.
ذكرياتي بهذا الحي الذي احتفلنا بمئويته منذ حوالي الإثنى عشر عاماً في حي الكوربة الشهير أحد أرقى الأحياء داخل الكيان الأكبر نسبياً، هي ذكريات خرسانية لا يمكن نسيانها أو محوها من داخل ذاكرة طفلة، وبرغم تكرار السفر والعودة وحدوث تغيرات جذرية بالعديد من المعالم والشوارع وباقي التفاصيل المميزة لطابع أحد أرقى أحياء قاهرة المعز، كتوسعة الشوارع الرئيسية بعد الاستغناء عن قضبان وعربات مترو النزهة وعبد العزيز فهمي الشهيرين، أحد أهم المواصلات المريحة زهيدة السعر طويلة زمن الرحلة، وأيضاً أحد أهم وأشهر معالم الحي.
وأيضاً العديد من الحدائق التي تم إخراجها من حيز الشوارع المكتظة بالسيارات والبنايات لخروجها من الخدمة منذ زمن بعيد، بسبب جفاف أشجارها وتحولها إلى أراضٍ جرداء تسكنها حيوانات الشارع وفضلاتهم، وفضلات الحيوانات الأليفة لبعض السكان، بالإضافة إلى فضلات البيوت التي عمد بعض سكان الحي غير الأصليين إلى التخلص منها في نفس الحدائق المهملة، وهي نفسها ذات الحدائق الجرداء التي بكاها بعض السكان بحجة أنها كانت المتنفس الأخضر للمنطقة.
أشعر هنا بالاستغراب بيني وبين حالي كلما سمعت آفة التذمر والاستنكار المرتبطتين بنظرية المؤامرة الفتاكة، وكأن كل صنع جديد هو بالتبعية ضار ولإنساني، فأسأل وأتساءل أليست هي نفس الحدائق التي عمدتم إلى التعامل معها باعتبارها صفيحة قمامة ضخمة ومرتع لفضلاتكم وفضلات حيوانتكم الأليفة! ألم يلحظ أحدكم ألوان الأشجار الصفراء التي تبدلت من الأخضر بما يؤكد ذبولها تماماً وبما يستدعي استبدالها بجديد، باعتبار أنها سمة الحياة في الميلاد والموت، الإنسان يُولّد ويموت، وهكذا هي النباتات لها دورة حياة، ألم يلحظ أحد منهم كم الشتلات التي تم زرعها بمنتصف الشوارع بعد التخلص من الأرصفة العريضة، وعلى جانبيها تنمو الشتلات بهدوء وتنتظر النمو الكامل بالوقت كما ذبلت سابقتها بالوقت! أليست المصلحة العامة للإنسان مفضلة عن سائر المخلوقات التي خلقها الله لخدمته وتيسير الحياة عليه لا تعسيرها!!
أيهما أفضل في المنطق الإنساني الإبقاء على مساحات مهملة من أخضر مزمع ! أم التوسعة وإفساح المجال للسيولة المرورية بعد أن كان التنقل من ميدان لآخر داخل الحي يستغرق ما لا يقل عن 20 دقيقة في مسافة زمنية لا تستغرق أكثر من 3 دقائق على أكثر تقدير! ناهيك عن ما يستتبع ذلك من إهدار للوقت ولكل المواعيد المتفق عليها، وتكرار حدوث العديد من الاشتباكات والاختناقات المرورية وما يترتب عليها من نسب حوادث وخلافات وتلف للأعصاب، ولاسيما وأن المنطقة مكتظة بالعديد من المدارس والمصالح الحكومية وهو ما يجعلها في أغلب الأحيان طريق مطروق في معظم الأوقات.
أعود وأقول لنفسي، صفة الدنيا الأساسية هي التبدل والتغير، فكما تتبدل وجوهنا وأجسامنا، لزم تغيير العالم من حولنا، وكما نقوم بإجراء بعض التعديلات والإصلاحات على منازلنا بما يتناسب مع المصلحة العامة لأهل المنزل، فهكذا هو الحال على نطاق أوسع للكيانات الأكبر، الحي والمحافظة والدولة.
فدوام الحال من المحال، وإذا كانت آفة هذا الزمان هو النقد، فمن باب أولى الالتفات للسلوكيات الشخصية الهدامة، فحركة العمران والإصلاحات والتوسع الزراعي برغم كل إنجازاتها، لا يمكنها اللحاق بركاب قطار الانفجار السكاني الرهيب، أو السيطرة على السلوكيات البشرية الفوضوية... وهو ذاته نفس القطار المعارض لحركة التوسعة والإعمار بما يخدم البشر حقاً لا أهواءهم.