د. حسين علي ,
ظاهرة التسول ظاهرة عالمية، إذ لا تخلو دولة من المتسولين، ولكن حجم انتشار التسول ومظاهره، وتغاضى الحكومات أو مكافحتها لهذه الظاهرة، كل هذا يختلف من دولة إلى أخرى.
والتسول في مصر ليس جديدًا، وليس أمرًا طارئًا نجم عن تدهور أوضاعنا الاقتصادية الحالية، وإنما هو يضرب بجذوره في المجتمع منذ عقود طويلة، صحيح أنه كظاهرة يزيد أو ينقص وفقًا للحالة الاقتصادية السائدة في المجتمع. لكن اللافت للنظر أن ظاهرة التسول في مصر في الوقت الراهن، وصلت إلى معدلات –من حيث التنوع والانتشار– غير مسبوقة، وتفوق الوصف!
أتذكر أنني عندما كنت أعمل أستاذًا زائرًا بجامعة الإمارات منذ سنوات، كنت وبقية زملائي من الأساتذة نستقل أتوبيسًا ينقلنا من الفندق الذى نقيم به إلى مقر الجامعة الذى يبعد عن الفندق عدة كيلومترات. وكنت اعتدت أن أجلس في المقعد داخل الأتوبيس بجوار أستاذ أمريكي الجنسية، وكنا نقطع المسافة من الفندق إلى الأتوبيس في تبادل أطراف الحديث، وكان يحلو لي الاستماع إليه وهو يتحدث عن مشاهداته وانطباعاته عن مصر التي زارها مرات كثيرة. لقد أحببت فيه حبه لمصر.
وإذا نسيت فلن أنسى ذلك اليوم الذى طرحت عليه سؤالًا يتعلق بالأمور التي لا تعجبه في مصر، والتي ينفر منها ويتمنى أن تختفى من مصر وتزول. فوجئت به يقول: «كثرة المتسولين».
نطق بهذه العبارة، وقد تغيرت ملامح وجهه، وكشفت عن شعور بالقرف والنفور، هالني هذا التغير الذى طرأ على قسمات وجهه، وهو يستطرد متحدثًا عن مصر: «أينما تذهب يلاحقك المتسولون ويطاردونك».
منذ تلك اللحظة شعرت بأن جدارًا سميكًا يفصل بيني وبين هذا الأمريكي، وحرصت –منذ تلك المرة– على تجنب الجلوس بجواره في الأتوبيس. شعرت أنه ظالم ومفترٍ، وأن مصر أجمل وأروع من أن تكون قبيحة على هذا النحو الذى ذكره.
ولكن بعد عودتي للقاهرة اكتشفت – للأسف الشديد – أن ذلك الأستاذ الأمريكي كان صادقًا وموضوعيًا في وصفه لبشاعة انتشار ظاهرة التسول في مصر. الواقع يقول إنه ما من مكان تذهب إليه حتى يقتحمك متسول، رجلًا كان أو امرأة، كهلًا أو طفلًا. في مفترق الطرق وعند إشارات المرور، وعلى مشهد ومسمع من رجالات الأمن، يتكاثف وجود المتسولين. ما إن تُغلق الإشارة ويُضَاء اللون الأحمر، فتتوقف السيارات، حتى يبدأ هجوم جحافل المتسولين الكاسح من كل حَدَبٍ وصَوْبٍ، منهم من هو مبتور الساق أو الساقين، أو الكهل المريض الذى بالكاد تحمله قدماه، ومع هذا –ويا للعجب– يواظب يوميًا على الوقوف في الشارع طوال النهار دون كلل أو ملل وبعزيمة لا تلين، ودون أن يعوقه سن أو إعياء مرسوم على وجهه، حقًا أو تمثيلًا. وتشاهد كذلك من يزحف على الأرض على أطرافه الأربعة بين السيارات، وتظن للوهلة الأولى أنك أمام نوع جديد غير مألوف من الحيوانات، ثم تكتشف بسرعة أنه شاب تكشف نظرات عينيه عن إصرار وشراسة، وسواء أكان عاجزًا حقيقةً أو يتظاهر بالعجز عن الوقوف على ساقيه، ولا يمتلك كرسيًا متحركًا؛ فإنه يزحف بإصرار ويمرق من بين السيارات الواقفة في إشارة المرور مروقًا عجيبًا. مناظر تصيب المرء بالاكتئاب.
ولا يقتصر التسول على الشوارع والطرقات، بل إن التسول يطارد الناس في بيوتهم من خلال شاشات التليفزيون. إن حملات التبرع التي تعلن عنها بعض الجمعيات الخيرية، وبعض المستشفيات هي نوع من التسول، إنه نوع قبيح ومذموم من التسول؛ لأنه يتاجر بآلام الناس، وبخاصة الأطفال، إذ تُعْرَض علينا مشاهد لأطفال مرضى مصابين بالسرطان أو بغيره من الأمراض، مشاهد مؤلمة ومحزنة تستهدف استجداء عطف المشاهد.
صحيح أننا شعب فقير، يعانى أغلبه أمراض بعضها مزمن وخطير، وعلينا أن نسهم في مساعدة من يحتاج، وهذه المساهمة –بخاصة لمن يملك القدرة على القيام بها– هي واجب وطني وديني وأخلاقي. لكن مساعدة المحتاجين شىء، واتخاذ التسول كمهنة شيء آخر، إننا نطالب بالتصدي لكل من يتخذ من التسول «مهنة». لقد كشفت بعض الوقائع عن أن دخل بعض المتسولين يفوق دخل كبار الموظفين!
نسبة كبيرة من شعبنا تعانى فقرًا مدقعًا، ولكن من يتهجم على الناس ويقتحمهم طلبًا للمساعدة، هو أبعد ما يكون عن استحقاق هذه المساعدة. فبدلًا من أن تضع يدك في جيبك –أو تضعي يدكِ في حقيبتكِ– وتخرج بعض النقود لذلك المتسول الذى يقف على قارعة الطريق يوميًا مادًا يده طلبًا للمساعدة، فتساعد –دون قصد– على انتشار التسول بوصفه مهنة مربحة. وتسهم دون أن تدرى في تصدير صورة سيئة عن أحوال مصر للعالم العربي والخارجي، فالأفضل والأجدى من ذلك أن تساعد الفقير العفيف الذى يمنعه حياؤه وعزة نفسه أن يمد يده للغير. ابحث عن هؤلاء الفقراء أصحاب الكرامة والنفوس الأبية، ابحث عنهم في مجال عملك، وفى نطاق منطقة سكنك، وقبل ذلك، ابحث عنهم بين أقاربك، وحاول أن تساعدهم بقدر الطاقة.
نحن لسنا ضد عمل الخير ومساعدة الغير، فالمريض يستأهل أن نعتنى به ونخفف من آلامه، والفقير في حاجة إلى المساعدة دون أن يهان أو تمس كرامته، ولسنا ضد جمع التبرعات بشرط أن تشرف على عمليات التبرع جهة تتصف بالحيادية والنزاهة، وعلى نحو يتسم بالشفافية التامة. أما أن تتقاعس الحكومات المتعاقبة عن القيام بواجبها في مد يد العون للفقراء والمرضى، مما أسهم في استفحال ظاهرة التسول؛ فهذا ما نرفضه تمامًا. إن انتشار الفساد والإهمال وعجز الدولة عن القيام بمسئولياتها عبر عقود طويلة تجاه الفقراء والمعدمين – وما أكثرهم– جعل من التسول مرضًا اجتماعيًا مزمنًا. إن الحكومات المتعاقبة لم تكتف بالإحجام عن القيام بدورها في مكافحة التسول، بل قامت هي نفسها –في أحيان كثيرة – بالتسول!!