عياد: المنهجيّة الصحيحة للتعامل مع التراث تنفي عنه القداسة وتهتم بالتجديد لا التبديد
ألقى الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية د. نظير عياد كلمة في فعاليات الملتقى الدوليٍّ بالقاهرة حول التجارب والممارسات الناجحة في مجال (إدارة المؤسَّسات التراثية) لعام 2022؛ والذي تعقده المنظمة العربية للتنمية الإدارية بالتعاون مع معهد المخطوطات العربية، تحت عنوان: "إدارة المؤسسات التراثية" في الفترة من 7-8 يونيه.
وأكد الأمين العام خلال كلمته على أهمية هذا الملتقى، والحاجة الماسّة إليه؛ خصوصًا مع عظم رؤيته ورسالته، التي يمكن الوقوف عليها من خلال أهدافه ومحاوره وتتمثل في الكشف عن كنوز التراث من خلال تعاونٍ مثمرٍ بين المؤسسات المختلفة بغية المحافظة عليه، واستخراج درره والاستفادة منها، مثمنًا الأهداف التي سعى إليها الملتقى، حيث تعمل على زيادة الوعي لدى المعنين به للمحافظة عليه، فضلًا عن تبادل الرّؤى لوضع خطةٍ استراتيجيةٍ تسهم في العناية والتواصل بين هيئاتٍ علميةٍ ومؤسساتٍ بحثيّةٍّ ووطنيةٍ تعنى به.
وأوضح عياد أن التراث هو عنوان هذه الأمة وماضيها وحاضرها ومستقبلها، فلا يمكن أن تكون لها حاضرٌ أو مستقبلٌ تخطّط له دون أن تقف على أبعاد الماضي، والماضي يحمل ذاكرتها وهويّتها وثقافتها ووعيها الحضاريّ الذي تتميز به عن غيرها، فالتواصل بين الأجيال لا يتمّ إلا من خلاله، وإلّا فكيف يمكن أن نقف على أفكار القدامى وخبراتهم التي قدّموها في جميع مجالات المعرفة؟ فلا يستطيع عاقلٌ أن يقول علينا أن نبدأ من جديدٍ، ولكن نبدأ من حيث انتهى الآخرون، فما قدّمه علماؤنا قديمًا وما أفنوا حياتهم فيه في كثيرٍ من التخصصات المختلفة، من علومٍ شرعيةٍ وعربيةٍ وعلومٍ طبيعيةٍ وغير ذلك، لهو جديرٌ أن نقف له وقفة إجلالٍ واحترامٍ؛ لأنّ ما قدّموه هو دليلٌ على ولائهم لدينهم واعتزازهم به، وتضحيةٍ بأوقاتهم من أجله، فدراسة التراث مقدّمةٌ للحفاظ عليه ليس من باب النافلة بل من باب الفريضة والوجوب، وذلك بكلّ وسيلةٍ ممكنةٍ حتّى نحافظ على هويّتـنا الثقافية وحضارتنا الإسلامية.
وأشار إلى أن التعامل مع التراث لابد أن يكون على أساسين هما الحفاظ على الأصول والثوابت المنبثقة من النّصوص القطعيّة، مع الوعي التامّ بما يستجدّ من الأحداث والنوازل والاجتهاد الملتزم بضوابط النّقل والعقل دون تبديدٍ للثّوابت القطعيّة للتّراث وأصوله، موضحا أن المنهجيّة الصحيحة للتعامل مع التراث، تتمثل في: ضرورة نفي صفة القداسة والعصمة عن التّراث، ضرورة التوظيف والاستثمار للتّراث، ضرورة الاستلهام، ضرورة التجديد لا التبديد، التجاوز، الاعتبار، النّقد والتقويم.
كما استعرض الأمين العام خلال كلمته دور الأزهر في الحفاظ على التراث المخطوط؛ من خلال عدّةٍ أمور أهمها: تحقيق المخطوطات؛ حيث حرص الأزهر الشريف بتاريخه العريق على حفظ التراث الإنسانيّ، بما فيه من تراثٍ عربيٍّ وإسلاميٍّ، وفي هذا الإطار أنشأ الأزهر مجمع البحوث الإسلامية، وجعل أولى واجباته تحقيق التراث الإسلاميّ ونشره، ولتحقيق هذا الواجب أنشأ المجمع لجنة إحياء التراث الإسلاميّ والعربيّ، فأصدرت سلسلة التراث الإسلاميّ، التي تشبه السلسلة العلمية للمجمع، ومنوطٌ بتلك اللجنة أن تشرف على إخراج الكنوز العلمية للتراث الإسلاميّ، ومؤخرًا قام المجمع بإنشاء (مركز الأزهر العالميّ للفلك) للبحث في علوم الهيئة، وتقديم حلولٍ للعديد من المشكلات الخاصّة بالمواقيت والمطالع والأهلّة، الّتي يعاني منها مسلمو البلاد الواقعة في الخطوط الشمالية، إضافةً إلى تحقيق المخطوطات الخاصّة بعلوم الفلك والهيئة، ومحاولة الاستفادة منها في هذا العصر، كذلك مكتب إحياء التراث بمشيخة الأزهر الذي يسعى إلى نشر التراث العلميّ والإسلاميّ والتعريف به لربط الموروث العلميّ بالمجتمع الحاضر، ومركز تحقيق النصوص بجامعة الأزهر الذي أنشئ من أجل تحقيق التراث ودراسته ونشره.
أضاف عياد أنه لا بدّ من تسليط الضوء على المكتبة الأزهرية، كإحدى أهمّ الإدارات المركزية بمجمع البحوث الإسلامية لحفظ المخطوطات، التي تضمّ أكثر من (50000) مخطوطٍ في مختلف الفنون؛ كالفلك والميقات والحساب والهندسة واللغات والطبّ و.... وغيرها، وتعدّ مكتبة الأزهر إحدى المؤسسات العلمية الرائدة في مجال حفظ التراث المخطوط، إضافة إلى أوقاف الكتب التي كانت من وجوه الاعتناء بالتراث التي ازدهرت في ظلال الحضارة الإسلامية.
كما أوضح أن مركز الفلك الشرعيّ أحد المراكز العلمية المتخصصة التي جاء الهدف من إنشائها محاولة الإجابة عن كثيرٍ من التساؤلات، ومحاولةً لإيجاد أجوبةٍ للعديد من القضايا التي ترتبط بواقع المسلمين، والحفاظ على التراث الفلكيّ للعرب والمسلمين؛ لأنّه يمثّل ركيزةً أساسيةً في الحفاظ على الهويّة، وفي الوقت ذاته تأكيدٌ على السبق والريادة، فضلًا عن الربط بين الماضي والحاضر بما يحفظ للأمة وجودها ومستقبلها، ولأبنائها العزة والكرامة بأن ترك لهم أسلافهم هذا الإرث العتيق؛ وفي سبيل ذلك قام المركز بالتعاون مع لجنة التراث في مجمع البحوث الاسلامية بانتقاء مجموعةٍ من المخطوطات في علوم الفلك والهيئة لتحقيقها، إسهامًا منه فيما يجب تجاه إرثنا العربيّ والإسلاميّ، والذي يمثّل -بجانب أهدافه الكثيرة- الحفاظ على الهوية.
وختم عيّاد كلمته بالتأكيد على أن أهمّ ما يميّز تحقيق التراث عند الأزهريين هو نظرتهم إلى التراث وما تركه الأسلاف باعتبارهم صانعي الثقافة الإسلامية العربية؛ حيث أخذوا على عاتقهم مهمّة الحفاظ عليه وتعريفه للجمهور من القرّاء المتعطشين لمعرفة التراث، فأعلام المحققين الأزهريين أصّلوا بحقٍّ لهذا الفنّ ووضعوا مقاليده وقوانينه، مضيفا أننا إذا استطعنا أن نتعامل مع التراث وفق هذه الضوابط من الممكن إحيائه وإيجاد الجسور بينه وبين الجيل الحاضر والأجيال التالية، ومن ثمّ نحقّق معنى التواصل الإنسانيّ في مسيرة الأمّة، ونجعل من نهضتها بناءً متماسكًا، ومتناسقًا ومتمازجًا، كلّ حلقةٍ تفضي لما يليها، وكلّ عطاءٍ فيه ركيزةٌ لما فوقه، ومثل هذا الترابط في بنية الأمّة، بأفقه التاريخيّ، يجعلها مستعصيةً على شتّى محاولات الاختراق الهدّام، ويمنحها حصانةً ذاتيّةً، تحول بينها وبين أيّة عمليّة تسلّلٍ غريبةٍ إلى كيانها فتفسد تواصله وتمزق روابطه، وتستطيع الأمّة من خلاله أن تنهض من كبوتها مرّةً ثانيةً، وأن تتولّى زمام الحضارة الإنسانيّة كما كانت من قبل.