رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


الأمن القومى والحق فى المعرفة فى ظل مصادر التهديد فى الداخل والخارج المنظور الأوربى والأمريكى

9-2-2017 | 10:42


إذا كان هذا القرن قد طلع على الإنسانية باقتحامات جديدة فى مجال العلوم والتكنولوجيا والمعلوماتية الرقمية، ووسائل التواصل الاجتماعى والفضاء الإليكترونى، فهو قد طلع على المجتمعات والدول والحكومات والشعوب على حد سواء بما يشبه الانتشار الهائل وبسرعات فائقة فيما يعرف بمصطلح الحق فى المعلومات، أو لنقل الحق فى المعرفة، وما يرتبط بها بقوانين وتشريعات تقر بهذا الحق، هذا التطور أثار فى النفوس شيئًا من الآمال فى أن المجتمع الإنسانى يقترب من عصر جديد من الانفتاح الذى قد يسميها البعض «بالشفافية» أو الإفصاح أو المكاشفة أو بتعبير أكثر تحفظًا بالمصارحة، وبشئ من العلنية التى تتاح للعامة والمجتمعات فى ظل مناخ من الديمقراطية وفى ظل بيئة مواتية للمشاركة العامة فى صناعة القرار وتشكيل الرأى العام، وفى ظل مناخ إعلامى تطلق فيه القدرات فى حرية التعبير والنقد لا يحدها ولا يحكمها إلا أطر الدستور والقانون

بيد أنه ثمة موروثات قد تكون قديمة قدم تطور المجتمعات فى العصر الحديث، لكنها تتجدد بتجدد نظم الحكم وتقدم الفكر السياسى عبر العصور تلك الموروثات هى فيما نستخدمه كتابًا ومفكرين وممارسين للسياسة الداخلية والخارجية من مصطلحات قد لا يحسن البعض ضبط حدودها أو التدقيق فى معناها ودلالاتها ومعايرها، حتى تختلط المفاهيم والرموز، تلك المصطلحات الخلافية أو الجدلية هى باختصار ما تطلق عليه مصطلح «الأمن القومى، والمصلحة القومية»، والمصلحة العليا، وجميعها لها ضوابط وتعريفات عبر التاريخ الحديث والنظريات السياسية، كما أن لها من التطبيقات ما يتيح مساحة واسعة من التشابه أحيانًا، والاختلاف أحيانًا أخرى باختلاف الدول شرقًا وغربًا، بدءًا من المفكر الإيطالى القديم الأشهر (ميكافيللى) فى كتابه الأمير مرورًا بالكاردينال الفرنسى (ريشيليو) ووقوفه ضد الكنيسة الكاثوليكية، دفاعًا عن كيان الدولة وصولًا إلى (مورجانتاو) عميد المدرسة الواقعية فى السياسة الدولية القائمة على مبدأ الدفاع عن المصالح القومية للدولة

قصارى القول أن الحديث عن هذه المصطلحات، الأمن القومى والمصلحة القومية هو أمور مختلف عليها، وهى بطبيعتها معقدة تتسع أحيانًا لتشمل الأمن السياسى أمن الدولة وبقاؤها وكيانها ووجودها كما أن التعريف قد يتسع كما هو الحال اليوم لتشمل الأمن الاقتصادى، القدرات الاقتصادية الكامنة والفعلية، وقد تتسع أكثر فتسمى (الأمن البيئى)، والتلوث الجوى الصناعى وندرة المياه، الجفاف، وهكذا وقد يضيق التعريف ليقتصر على (الأمن الدفاعى) الذى يغطى السلاح والرجال بمعنى القوات المسلحة وعتادها ومصادرها وكمياتها، وقد يتسع أكثر فأكثر فينصرف إلى القدرات الشاملة للدولة، أرضًا وسكانًا وحدودًا برية وبحرية وقوى بشرية فى التصنيف العمرى للشباب أو الكهول، كما قد تنطوى على خريطة التحالفات والتكتلات والشراكات التى ترتبط بها الدولة بمعنى «الاستراتيجية العليا للدولة»، وهذه كلها تسمى فى تعريف العلوم السياسية بالعناصر المكونة أو (بمقومات الأمن القومى)

هذا الأمن القومى، ولنقل المصالح العليا والحيوية، له أدواته ومناهجه للحفاظ عليه وكفالته وتأمينه ضد ما يسمونه فى العلوم العسكرية بالعدائيات (أو مصادر التهديد والمخاطر) على الدولة كيانًا وحدودًا وبشرًا، واقتصادًا، واستقرارًا هذه المقومات التى يشملها الأمن القومى وتلك العدائيات ومصادر التهديد التى يتعرض لها فى الداخل (الإرهاب والفساد، التخريب) أو فى الخارج، (تهديد الحدود تهديد التجارة والصراع على الموارد، تهديد السيادة، التدخل فى الشئون الداخلية، ترويج الشائعات (الحرب الرابعة أو ما يعرف اليوم بالحرب الهجين)، كل ذلك يترجم فى لغة الأجهزة والهيئات المعنية (بتأمين الأمن القومى والدفاع عنه والحفاظ عليه (بالمعلومات) التى تقوم أجهزة الدولة المدنية والعسكرية الدفاعية والأمنية بجمعها وتحليلها واستخلاص التقديرات منها ووضع الخطط الملائمة للتعامل معها فى التوقيتات المطلوبة، هذه المعلومات كلها هى الجدار الواقى أو الدرع الواقى لأمن الدولة ذاتها والحفاظ على كيانها من التصدع والاهتزاز، هذه المعلومات بهذه الخطورة بطبيعتها وحجمها تحتاج إلى حماية وتأمين ودفاع بشرى وتكنولوجى فيما يسمونه بالسرية بمختلف درجاتها القصوى والمحدودة

القانون الدولى أحيانًا ما يعرف الأمن القومى ذلك «التقييد المشروع» والمفروض على حرية التعبير والإعلام، بل إنه ثمة قوانين كثيرة تطرح كيفية تطبيق هذا القيد الذى يظل من أكثر الإشكاليات إثارة للجدل بسبب الإفراط فى تطبيق هذا القيد الذى قد يؤدى إلى آثار عكسية فى إتاحة المعلومات والإفصاح عن طبيعتها أو مصادرها

فى المجتمعات الديمقراطية الحديثة، طرحت الدعوة، سنة بعد أخرى، ودولة بعد أخرى لتحقيق مبدأ الشفافية باعتباره مبدأ مستقرًا فى نظم الحكم الديمقراطية وفى العلاقات ما بين الدول، وعلى اعتبار أن الشفافية ليست بحال من الأحوال من العوامل المهددة للأمن القومى ومع أن الشفافية فيما يتصل بالمجال الأمنى تخضع للعديد من القيود والحدود، فإن الإقرار بالحق فى المعلومات، بل سن القوانين المنظمة لهذا الحق فى الولايات المتحدة، وفى دول أوربية عريقة فى الديمقراطية (المملكة المتحدة) لم يحل دون الجدل والخلاف والنقاش حول كيفية تحقيق التوازن الدقيق أو المعادلة الذهبية بين الالتزام بالشفافية والحفاظ على الأمن القومى من خلال قيود السرية والكتمان والبعد عن العلنية وتجنب الإفصاح والمكاشفة

وإذا أخذنا (المملكة المتحدة) نموذجًا وهى الأعرق تاريخيا بين ديمقراطيات العالم الغربى، فليس ثمة ما هو أهم وأخطر شأنًا فى التقاليد السياسية الإنجليزية من إقامة حكم ديمقراطى وضمان حقوق الإنسان سوى تلك القضايا التى تتصل بأمور الحرب والسلام وبحماية الأمن القومى، لكن هذا المثلث المتكامل الأضلاع الالتزام بالشفافية والحفاظ على السرية، ضمان الأمن القومى غالبًا ما يثير الكثير من احتمالات الجدل والخلاف والصراع والتوتر أحيانًا ما بين المجتمع المدنى من ناحية، بما فى ذلك الإعلام وبين الأجهزة المعنية بالمعلومات بكل فروعها، سياسية واقتصادية ودفاعية وأمنية، كذلك يثير هذا المثلث المترابط (التوازن بين الشفافية والسرية والأمن القومى) صدامًا بين سلطات الدولة التشريعية، والتنفيذية والقضائية ويصبح فيها الاحتكام إلى الدستور والقانون هو المخرج من الإشكاليات ومن الإخفاق فى تحقيق التوازن الدقيق

فى الممارسات الديمقراطية القديمة والحديثة يعتمد ضمان الديمقراطية على إمكانية الوصول إلى المعلومات التى تحتفظ بها الدولة، بل الاطلاع عليها لتمكين العامة والمجتمع المدنى للاضطلاع بدور لو محدود فى تحديد ومراقبة السياسات التى تطبقها الحكومات والسلطات التنفيذية عمومًا فى المفاوضات والمباحثات والاتفاقيات أى فى مجال السياسة الخارجية على سبيل المثال

ولكنه فى المقابل فإن إدارة الدولة لدفة العمل الدبلوماسى، أى إدارة العلاقات الخارجية (خاصة مع دول معنية قد تثير المشاكل) أو قد تمثل إخطارًا وتهديدات مباشرة أو غير مباشرة، بل وحتى اضطلاع الدولة بتنفيد عمليات عسكرية (من خلال تحالفات إقليمية أو دولية) أو حتى على الصعيد الداخلى ضد شبكات الإرهاب والجريمة المنظمة، بل وقيام الدولة بأنشطة استخباراتية، كل ذلك فى مجمله يتطلب ويستوجب قدرًا كبيرًا من السرية والكتمان لتحقيق الفاعلية وصواب التنفيذ، لكن يظل الإمساك بميزان دقيق من الشفافية وضمان الحفاظ على ضرورات السرية، أو الالتزام القانونى بالإفصاح والعلنية والمكاشفة وفى نفس الوقت تحصين الأمن القومى من أكثر التحديات والإشكاليات ضراوة والتى يتعرض لها صانع القرار أو حتى من يضطلع بمهام التنفيذ

إلا أن معظم الدول والحكومات غالبًا ما تعطى الأولوية للأمن القومى وتلجأ إلى سن القوانين التى تفرض استثناءات كثيرة ومتعددة للحد من الشفافية والإفصاح، بل وأحيانًا ما تضطر إلى الإفراط فى الحديث عن المخاطر التى تهدد الأمن القومى والتى قد تزعزع كل الضمانات التشريعية والمؤسسية والحقوقية ضد الساسات الخاطئة، بل وربما ضد استقلال القضاء وسيادة القانون وتنال من الرقابة التشريعية وحرية الإعلام

لتحقيق هذا التوازن الدقيق فى الالتزام بين الشفافية، ومراعاة ضرورات ومتطلبات الأمن القومى، وضوابط (السرية)، لابد من تحديد الهدف، ومعنى ذلك أن كافة الأجهزة والهيئات التى تتعامل مع المعلومات المؤثرة فى الأمن القومى بما فى ذلك وزارات الخارجية، وأجهزة الاستخبارات، والقوات المسلحة لابد وأن تكون محمية، أى أن تتمتع بالحماية فيما يعرف فى القانون باسم مبدأ (الاحتياجات الحاكمة) أى تحديد الطرق والأساليب التى تتيح الاطلاع على المعلومات كما تحدد توقيت وأسلوب رفع أو إزالة غطاء السرية عن الوثائق والمستندات.

دور البرلمانات، والسلطات التشريعية عمومًا هو أخطر الأدوار فى تحقيق ذلك التوازن بين الالتزام بمبدأ الشفافية، ثم الحفاظ القائم على السرية، ومتطلبات الأمن القومى، ودور البرلمانات على سبيل المثال فى المطالبة (بالشفافية)، خاصة بالنسبة للاتفاق الحكومى من الشروط اللازمة لتحقيق المشاركة الفعالة فى مسار العملية السياسية ذلك أن عدم الالتزام (بالشفافية) إذا كان الأمر يتصل بالميزانيات العسكرية قد ينطوى ليس فقط على الإضرار بالديمقراطية، بل بالأمن القومى ذاته ومن ثم يتعين على البرلمانات والسلطات التشريعية توخى أعلى درجات التوازن بين الدعوة للشفافية من ناحية والالتزام بضوابط الأمن القومى وضروراته وحساسياته، وهو ما يقتضى ويستوجب فى تحقيق (التوافق) السياسى والمجتمعى حول مبدأ الشفافية، ذلك أن القوات المسلحة فى كافة الدول هى الأداة الرئيسية فى تنفيذ السياسات الأمنية، ومن ثم لابد أن تحاط بأعلى درجات السرية فيما يتصل بالسياسات الدفاعية والإنفاق العسكرى والقدرات العسكرية، لكن الأمر فى نهاية المطاف يتطلب بناء الثقة، وتعميق المصداقية مع الحفاظ على درجة معقولة من الرقابة الديمقراطية ومبدأ المحاسبة وضمانًا للشرعية الدستورية. وعمومًا فإن كثيرًا من الحكومات تعلى مبدأ السرية فى أمورها العسكرية وميزانياتها وتسليحها، لكن التقديرات السائدة اليوم كما يحلل معهد بحوث السلام فى السويد (Sipri) أن الحفاظ على السرية يكاد يكون فى حكم المستحيل على المستوى الدولى من حيث المعلومات المتاحة عن تجارة السلاح التى يجمعها المعهد من مصادر علنية رسمية وغير رسمية، وهى أى تلك المعلومات من المصادر العلنية تتسم بالدقة والشمولية، ومن ثم فليس أمام الدول كما تخلص تقديرات معهد بحوث السلام فى السويد إلى أن تكتفى (بالسرية الجزئية) دون السرية المطلقة وإزاء ذلك تظل الشفافية ضرورة حيوية، لأنها تعزز مبدأ (المسئولية) إذ ليس بمقدور أى برلمان أو أى إعلام أو مجتمع مدنى أن يضطلع بدوره السياسى المرسوم فى الدستور والقانون إلا بإتاحة قدر محدود من المعلومات وبما لا يخل بضوابط الأمن القومى أو يمس متطلباته (والشفافية) ليست هدفًا فى حد ذاته، بل هى ترتبط سلبًا وإيجابًا (بضمان السرية) والحفاظ على الأمن القومى فى دولة ومجتمع يتعرض لتهديدات فى الداخل والخارج مثلما يتعرض له المجتمع المصرى اليوم فى دوائره الإقليمية والدولية.

أما إذا احتكمنا إلى ما يصفونه حقًا أو باطلًا، «بقلعة الديمقراطية» فى عالم اليوم وفى إطاره علاقاته الدولية لنتبين الخط الرفيع بين الالتزام بمبدأ الشفافية وضرورة الحفاظ على السرية وضمان متطلبات الأمن القومى، فالأولى أن نرجع إلى ممارسات الكونجرس الأمريكى والحكومة الفيدرالية منذ بدايات النظام الفيدرالى وتطبيقات الدستور الأمريكى القائم على الحريات السياسية والضمانات الصارمة. بتعبير اليوم أن النظام الفيدرالى فى الولايات المتحدة أتاح للكونجرس (أى للسلطة التشريعية ولممثلى الشعب) وهو فى ذلك يمثل نموذجًا لمن أراد أن يبحث عن الممارسات الديمقراطية فى الدول الكبرى) أتاح للكونجرس أن يطالب السلطة التنفيذية (الإدارة أو الحكومة بالمصطلح المتبع فى مثل بلادنا وبكافة مستوياتها إما أن تعلن وإما أن تتيح من المعلومات ما هو متصل بشئون الحكم وما يتعلق بها من سجلات وملفات (الأرشيف القومى) بيد أن أحد الرؤساء الأميريكيين (جيمس ماديسون الرئيس الرابع فى التاريخ الرئاسى الأمريكى) كان يرى أن الاطلاع على المعلومات والوصول إلى الوثائق ودقائق المعلومات وتفاصيلها، أى ما نسميه اليوم بالالتزام (بالشفافية) يمثل ركيزة من أهم ركائز الديمقراطية، لكن الحكم اليوم فى الولايات المتحدة خاصة بعد الأحداث الإرهابية كنقطة تحول فى تهديد الأمن القومى الأمريكى فى ١١-٩-٢٠٠١ منع الإدارة الأميريكية (السلطة التنفيذية)، لأن تسعى لتحقيق درجات أدق وأعلى من التوازن بين حق الوصول أو حق الاطلاع على المعلومات وبين ضرورات ضمان الحماية لمعلومات معنية بما فى ذلك المعلومات المتصلة بالأمن القومى وأسراره ومصادره وطرق الحصول عليها، ومن ثم يتعين القول أنه فى النظام الفيدرالى الأمريكى، وبموجب الدستور وصلاحيات الكونجرس، فإن الاطلاع على المعلومات يجب أن يتوازن بدقة مع الضمانات الكفيلة بحماية الأمن القومى، لذلك فإن الكونجرس أى السلطة التشريعية لها حق تحديد نوع المعلومات التى يمكن أن تكون متاحة للعامة والكونجرس لها صلاحيات التشريع، وعقد جلسات الاستماع، واستدعاء المسئولين، وصلاحيات الرقابة على الميزانية لكن السلطات التنفيذية أى الإدارة والحكم والأجهزة الأمنية والدفاعية المعنية بالمعلومات دائما ما تتحصن ضد الإفراط أو المبالغة فى المطالبة بمبدأ الشفافية، وذلك بأن تصنف درجات السرية أو مستويات السرية لحماية المعلومات وهو ما يجعلها خاضعة للتعليمات الحكومية الرسمية إما بإتاحة أو حظر بعض الملفات والسجلات والملفات والحيلولة دون الإعلان عنها، لكن من الضرورى تبرير هذا الحظر أو الحجب لارتباطه مباشرة بالأمن القومى أو لأسباب تتعلق بحرية الحياة الشخصية (الخصوصية).

(جيمس ماديسون) الرئيس الرابع للولايات المتحدة يقول فى ١٨٢٢ إن حكومة الشعب التى لا يتوفر لها معلومات عامة أو دون أن تتوفر لها السبل للحصول على تلك المعلومات لا تعدو أن تكون مجرد تمهيدًا أو مدخلًا لرواية هزلية أو تراجيدية أو ربما للاثنين معًا أى (لمأساة هزلية)، إذ إن المعرفة دائمًا تعلو على الجهل كما أن الشعب الذى ينوى أن يحكم نفسه بنفسه، لا بد وأن يتسلح بقوة المعرفة.

بل نزيد على ذلك فى تأكيد المنظور الأمريكى لمبدأ التوازن بين الشفافية والسرية والحفاظ على الأمن القومى بالرجوع إلى الرئيس الأول أو المؤسس للنظام الأمريكى الفيدرالى جورج واشنطن الذى قال عام ١٧٩٦ أى منذ ما يزيد على مائتى عام فى خطاب له أمام مجلس النواب إنه يرفض أن يتيح للمجلس نسخة من تعليماته للوزير الأمريكى المفوض أو المكلف بعقد اتفاقية مع ملك بريطانيا العظمى، بل إن جورج واشنطن بعث برسالة إلى مجلس النواب يقول فيها «إن طبيعة المفاوضات الأجنبية تقتضى الحذر، بل إنه غالبًا ما يعتمد نجاح المفاوضات على السرية، بل إنه عند نهاية المفاوضات فإن الإفصاح الكامل عن كافة التدابير والمطالب والتنازلات التى انطوت عليها تلك المفاوضات والتى كانت موضوعًا للتداول والاقتراح ربما يكون منافيًا للحكمة السياسية وصواب الرأى، بل قد يلحق الضرر البالغ بالمفاوضات المقبلة، وتترتب عليه أضرار مباشرة ومخاطر وعواقب وخيمة فى العلاقات مع الدول الأخرى»

ولعل فى رسالة «جورج واشنطن» إلى مجلس النواب لأمريكى منذ أكثر من مائتى عام إجابات كثيرة على التساؤلات التى تلح فى الإفصاح والكشف عن خلفيات المفاوضات وسير المباحثات التى تمس جوانب الأمن القومى فى دولة وفى بلد مثل مصر يجتاز أدق الظروف الداخلية والإقليمية التى يتعرض فيها أمنه القومى لتحديات ومخاطر وعدائيات غير مسبوقة.

وعمومًا فالسلطة التشريعية لا شك تلعب دورًا إيجابيًا فى تحديد وضبط التوازن بين ضرورة (الشفافية) وضرورة السرية فى ظل النظام الديمقراطى القائم على توازن السلطات واستقلالها فى نفس الوقت، والمعيار فى ذلك أنه إذا كان الانفتاح أو الإفصاح شرطًا ضروريًا لتفعيل الديمقراطية والاستجابة لحق المجتمع فى المعرفة والمعلومات، فإن «ضمان السرية» إنما يكفل الحماية للمجتمع كله من الأخطار التى تهدد أمنه كمجتمع وكوطن وكأفراد، بل والحيلولة دون وقوع أضرار بالاقتصاد القومى، فى ظل التهديدات المادية ومع اتساع نطاق استخدام التكنولوجيا العالية الحديثة.

وليس أدل على المخاطر الداهمة فى الكشف والإفصاح عن أسرار تمس صميم الأمن القومى لبلد ما مثل ما لمسناه فى تسريب الوثائق السرية للخارجية الأميريكية وتقارير المخابرات المركزية فيما عرف بموقع تسريبات Weakileaks ويكيليكس فقد كان مثل هذا التسريب كما وصفته هلارى كلنتون وزيرة الخارجية عندئذ (٢٠١٠) ليس مجرد اعتداء على مصالح الولايات المتحدة وسياستها الخارجية، بل اعتداء على المجتمع الدولى، بتحالفاته وشراكاته ومفاوضاته، بل إن وزير الدفاع عندئذ روبرت جيتس حتى وإن قلل من تأثيرها فقد قال إن الحكومة الأميريكية ترى أن الإعلان عن بعض تلك المعلومات سوف يلحق الضرر بالأمن القومى وينتهك الخصوصية الشخصية، وهو نفس ما كان الرئيس الرابع للولايات المتحدة قد تنبأ به من حيث ضرورة توفير الحماية لأسرار الدولة ووثائقها، ولذلك فإنه من واجب الجمهورية الأميريكية أن توازن بين إتاحة الاطلاع على معلومات الدولة وبين حماية مصالح الأمن القومى.

وقد يكون فى هذه الكلمات لرئيس أكبر ديمقراطيات العالم منذ قرنين من الزمن، ما يرسم خريطة طريق أمام أضلاع السلطات الثلاثة، التشريعية والتنفيذية والقضائية وأمام أركان المجتمع المدنى بكافة تشكيلاته وعناصره وأدوات الإعلام وقنوات الاتصال الجماهيرى، بل وجماعات الضغط والمصالح، ودوائر العمل والأعمال والمالى والنفوذ بأن الالتزام بالشفافية وممارسة الإفصاح الإيجابى عن المعلومات احترامًا لحق المجتمع فى المعرفة والمشاركة الإيجابية فى صنع القرار ورسم السياسة وتحقيقًا لمبدأ المساءلة والمحاسبة لمحاربة الفساد والانحراف وخلايا الإرهاب النشطة والنائمة، وسيناريوهات حرب الجيل الرابع، وحروب الدعاية السوداء، لعل فى التجربة التاريخية لرؤساء الولايات المتحدة «جورج واشنطن»، وجيمس ماديسون» فى الماضى، وتجارب الرؤساء فى الغرب منذ عهد قريب فى الحادى عشر من سبتمبر ٢٠٠١ إبان ولاية جور بوش، وتجارب بريطانيا فى عهد (تونى بلير) فى عدم الإفصاح عن الإعداد المبكر للمشاركة فى غزو العراق، والإعداد لغزو الناتو لليبيا ٢٠١١ بل ومشاركة القوى الغربية فى توظيف الربيع العربى لخدمة أهدافها الاستراتيجية، ليس أبلغ من هذا كله دليلًا على أن التوازن بين الحق فى المعلومات وضرورات الأمن الوطنى هو مسئولية المجتمع كله مثلما هو مسئولية نظام الحكم حكامًا ومحكومين.