الثقافة هبة ربانية، خلقها الله لتكون جسر تواصل بين البشر، ولإعمال العقول، للوصول إلى الحقائق، الثقافة محيط لا نهائي تتشعب منه بحار وبحيرات وشرايين تأخذ طريقها دومًا إلى كل ربوع اليابسة، كل ثقافة تصتبغ بهوية وبيئة ومكان وزمان له مقوماته الخاصة، ولكن بالنهاية هي ثقافة من مصب واحد، مهما تفرعت وارتدت ثياب الخصوصية، هناك سمات توافق بين كل الثقافات، حوارنا هذه المرة مع الكاتب والمفكر اللبناني (محمد إقبال حرب).
- إذا أردنا إزاحة الستار عن هويتك الانسانية والإبداعية، ماذا سنتصفح؟
لا يوجد ستارة بيني وبين هويتي الإنسانية لأنهما واحد، أحيا في عالم يضج بالبشر، بعضها تجلّى بإنسانيته والبعض الآخر يبحث عنها، استقى من هذا وذاك كينونة وجودي، استمد هويتي، أقطف ثمار الإنسانية لأصنع منها مداد كلماتٍ أخط بها لوحات التجلي والمعاناة، بريشة الفرح والألم، مزيج القبح والجمال بين دفتي سجل حياتي علّ أحد من البشر يتصفحها ويدرك من أنا.
- ما تأثير النشأة الأولى على تكوينك الثقافي؟
النشأة الأولى هي اللبنة الأساسية في بناء الإنسان والسبب الرئيسي في تشكيل الوعي والإدراك عبر سنوات العمر، وجودي في بيت والدي العامل المكافح الذي لم يدخل مدرسة قط، ذاك الذي أصرّ على الوعي والمعرفة حتى وجد سبيلًا لتعلم القراءة والكتابة فأدمن القراءة بعمق الرؤيا والتحليل حتى أصبح راية معرفة، كان الكتاب ملازمًا لوالدي طيلة الوقت حتى ظننتهما واحدًا فتعلقت بهما معًا حيث كان والدي يناولني أحد كتب الأدب والبلاغة منذ نعومة أظافري ويحثني على اكتشاف حرف ما تحت ارشاده. كانت وسيلة مبتكرة للتعلم فتعلمت القراءة في سن مبكرة جدًا لسببين، أولهما اعتبار القراءة لعبة ذكية تشغل وقتي كطفل، وثانيهما شعوري بالتميز عن أقراني. أدمنت بعد ذلك سحر الحرف حتى أصبح كالماء والهواء بالنسبة لي.
- حكايات الطفولة والصبا وتطورات المراحل العمرية، ما تأثيرها على كتاباتك؟
بالتأكيد أن الطفولة والنشأة الأولى إلى سني المراهقة والشباب هو المكوّن الرئيسي لشخصية وتفكير أي منّا. البعض يكتم ماضيه خجلًا، أو اهمالًا، لكنني أعشق طفولتي وما تلاها بآلامها وأفراحها، بفقرها وعذاباتها لأنني اكتشفت أسرار الحياة وطعم مشاعرها ومكوناتها من خلالها. تلك الفترة علمتني معنى المشاعر وكيفية التعبير عنها. لم يكن فك رموز المشاعر البشرية أمرًا سهلًا مع تنوع مشارب أحاسيسهم واختلاف وسائل ولغة التعبير وهم يصفون أفراحهم وأتراحهم، أحيانًا ببساطة التعبير ونقاوته وأحيانًا أخرى بصعوبة بالغة. معرفة اللغة وثراء المفردات التي تكونت لدي ساهمت في صقل ما أسمع واحالته مداد تعبير على صفحة بوحي. ما أجمل ذاك الطفل في ذاتي وهو يخرج إلى حاضري يرشده سبيل الحب والسّلام والاعتزاز بوجودي كإنسان.
- متى انتفض بداخلك وهج الكتابة؟
فعلًا لا أتذكر، فقد كنت أخربش أفكاري، طموحاتي وأفكار غريبة لا تمت إلى عمري بصلة منذ أن تعلمت القراءة والكتابة. في سني المراهقة كتبت مقالات ونثريات كثيرة، نشر بعضها وذاب الأكثر في دروب النسيان. بعد شهادة البروفيه "المتوسطة" تابعت دراساتي وعملي باللغة الإنكليزية خاصة عندما هاجرت إلى الغرب مما أبعدني عن اللغة العربية قصرًا لعقود. لذلك تعمدت على أن أعيد قراءة بعض الكتب مرة بعد مرة، تلك التي ظننت أنها ستثريني بقاموس اللغة ومفرداتها (العقد الفريد، الأغاني، مقامات بديع الزمان، البيان والتبيين ومجموعة جبران خليل جبران). في العقد الخامس وبعد هدوء أعاصير الحياة بدأ وهج الكتابة يغريني من جديد لكنني لم أفكر قط في النشر إلا بعد الدفعات الإيجابية من أصدقائي المخلصين، ولم أتوقف بعد الإصدار الأول عن البوح بأنماط الكتابة المختلفة.
- مولودك الأول إبداعيا، كيف كان صداه عندك، وعند الوسط الثقافى ؟
أرى أن هذا السؤال امتداد لما سبقه، كان اصداري الأول رواية الحقيقة التي فازت بجائزة الإبداع من مؤسسة ناجي نعمان للثقافة بالمجان. لاقت الرواية استحسانًا كبيرًا لدى النقّاد كما ورد في الدراسات النقدية. وقد أعيد طبعها مرة أخرى، وستصدر باللغة الإنكليزية عما قريب عن دار AEEH في الولايات المتحدة حيث اعتُبرت رواية ذات طابع فلسفي. أما عن صداه في الوسط الثقافي أرى يوجّه السؤال للمعنيين إذ من غير المناسب أن أبدي رأيي فيما أكتب.
- قبل أن تخط بقلمك كتابة العمل، هل ترسم الشخصيات، أم تجعلها تتولد من سياق السرد؟
لا يوجد قاعدة محددة، بالطبع لا أبدأ الكتابة قبل أن يكون الموضوع، أيًا كان مختمرًا واضحًا في ذهني واضح الملامح حول الشخصيات والأماكن التي تكوّن الرواية أو العمل المنشود. لكن رسم صورة الشخصية الكاملة لا يتم إلا مع نهاية آخر كلمة. فقد يكون هناك حدث ما، أو تطور ما في أحداث الرواية أو القصة يضطرني إلى تعديل الشخصية اخلاصًا للعمل والشخصية وفلسفة الرسالة التي أنشد.
- مؤكد هناك شخوص كان لها التاثير الأقوى بمسيرتك الإبداعية، حدثنا عنهم وعن مدى تاثيرهم عليك؟
سؤال صعب جدًا، لأنني أتأثر بكثير من البشر، حتى الأطفال. فموقف واحد من طفل أو أحد البسطاء يساوي كنز من المعرفة، بل لغزًا محيرًا لمعرفة سرّ تلك الحكمة. أما الشخصيات التي كان لها التأثير الدائم والتي أستطيع القول إنها سبب انطلاقي للعمل على معرفة نفسي أولًا من خلال السعي إلى مراتب أعلى من الوعي والمعرفة يعود إلى شخصين، هما والدي الذي أنشاني على القراءة والتساؤل من دون أي عراقيل أو محرّمات في التفكير أو المواد التي أقرأ. على سبيل المثال كان في مكتبة والدي أمهات الكتب الأدبية والتاريخية والفلسفية، وكان القرآن يجاور الإنجيل والكتب البوذية والزرادشتية وغيرها من كتب المعتقدات. لم يكن يمنعني من قراءة أي منها حتى وأنا في سن العاشرة. عندما سأله أحدهم "ألا تخاف أن يغير دينه؟" أجاب بحكمة: "المؤمن الجاهل أشدّ ضررًا على نفسه والمجتمع ممن يصبأ عن دينه قناعة". أما الشخص الثاني فهو الأستاذ رامز دهام الذي اكتشف ملكة الكتابة لديّ في السنة الخامسة الابتدائية، فهذبها، ووجهني إلى نوعية الكتب التي تثريني وطنيًا وانسانيا واجتماعيًا.
أحكى لنا ماهى طقوس الكتابة لديك؟
ببساطة لا يوجد لدي طقوس معينة، لكنني أحب السكون والوحدة إن توفرا.
- ما رأيك بمسألة المجايلة الأدبية؟
المجايلة مصطلح جديد غير واضح التعريف والمعالم. فمن ناحية يُقال انه نقل المعرفة من جيل إلى آخر ومن ناحية أخرى يتم تقييمها حسب استنادًا إلى العمر الزمني وليس المقومات الفكرية والابداعية. تعريفات أشبه بالحداثة لكنها غير جلية.
التصنيف الفكري هو الأصح لأن العمر أو الحقبة الزمنية لا يحملا أي دلالة فكرية أو ثقافية ذات نفس التأثير على البشر، فكثير من كبار السن يفكرون ويكتبون بمستقبلية مذهلة فيما نرى شبابًا من نفس الحقبة يعيشون عصور غابرة.
لو ارتبط الفكر والابداع بالفئات العمرية أو الحقبات الزمنية لما كان هناك فلسفات ورؤى مستقبلية، ولما تفتق الفكر الإنساني عن تجلياته ولم رأينا الفرق الشاسع من النظريات والكتابات في نفس الحقبة من شريحة أعمار شاسعة الفروق.
- هل ترى أن الواقع الثقافى، لبنانيا، عربيا، عالميا، بحاجة ماسة إلى تصحيح مسار، وكيف يكون هذا من وجهه نظركم؟
لا نستطيع مقارنة الوضع العربي بالعالمي ولا يمكن النظر إلى الواقع اللبناني بنفس المنظار العربي. بالطبع الواقع الإقليمي متشابه لكن هناك خصوصيات لكل دولة.
كذلك لا يمكن مقارنة الدول المتخلفة، التي يسمونها نامية احترامًا بالدول المتقدمة. ففي حين تكون ميزانية وزارات الثقافة والتعليم في الدول المتقدمة مرتفعة جدًا ويكون لها اليد العليا في التوجيه والتعليم من خلال استراتيجيات لا يتدخل بها رجال السياسة، نرى أن هذه الوزارات في بلادنا تخضع كليًا للرأي السياسي بدءًا من تعيين وزراء لا يملكون صلاحية التغيير إضافة إلى أن كثير منهم لا علاقة لهم بالشان الثقافي.
لتصحيح المسار يجب أن يتولى الشأن الثقافي أصحاب الفكر والاختصاص من دون أي تدخل سياسي. أن يبدأ العمل على استراتيجية ثقافية حضارية واضحة تأخذ في الاعتبار وسائل التعليم العصرية من دون نسخ تجارب الآخرين، أو سرقة برامج تعليم الدول الأخرى. لكل دولة لغتها وتاريخها وخصوصياتها التي يجب أن تكون هي الركيزة لبناء مستقبل يليق بنا كمهد حضارة للإنسانية. يجب الحد من تعليم اللغات الأجنبية في سنوات الدراسة الابتدائية، أو منعها حتى يتمكن الطالب من لغته ويربطها بمشاعره وأحاسيسه مما يشكل رابط انتماء وفخر. كذلك يجدر بنظم التعليم أن تزخر بالنصوص الأدبية العربية المعاصرة بعيدًا عن العنصرية بأشكالها. والبلدان الأكثر نجاحًا ورقيًا في عصرنا تلك التي استثمرت في العلم والثقافة علمًا أن كثير منها لا يمتلك الثروات الطبيعية مثل "سنغافورة واليابان".
- النقد بوضعه الراهن، هل يؤدى دوره بجدية وحيادية؟
النقد جزء من دورة الحياة، وحيث أن الحياة عامة في بلادنا في أزمة خطيرة فإن النقد كذلك في وضع لا يُحسد عليه. هناك عدد قليل جدًا من النقاد الجادين الذين يتعاملون مع المادة بجدية أو حيادية ويعملون بجد ونشاط. لكن أعدادهم القليلة لا تتناسب مع حجم الأمة. وهناك كثير من النقاد، أو الذين يدّعون النقد يتعاملون مع المادة الأدبية بصفة شخصية فيمدحون من لا يستحق ويهجون من لا يروق لهم. هذا الوضع ناجم عن التردي العام للمنظومة الأدبية والثقافية مع عدم وجود رقابة حازمة من قبل الوزارات المختصة. كذلك سهولة الطبع التي لم تعد تخضع للتنقيح والبحث عن العمل الجيد أعطى حرية النشر لأي كان دون أخذ رأي النقاد في الاعتبار. فرأي الناقد كان الميزان الذي يكترث له الكاتب ويحسب له ألف حساب، كما كان القارئ يعتمد على رأي النقاد في اختيار كتبه.
- ما الأهداف التي تكون أمام عينيك حال الكتابة؟
شيء واحد يهمني عندما أكتب، ألا وهو إيصال الرسالة المرجوة بأفضل السبل وأسلسها للقارئ.
- مؤكد بداخلك حلم لمشروع إبداعي تتمنى أن تراه واقعا، ما هو، وهل بدأت خطوطه الأولى؟
معرفة الهدف وتحديده أساس النجاح لأي مشروع، والأهم من ذلك هو استمرارية تطوير الهدف إلى هدف أسمى، إذ كلما اقترب الإنسان من تحقيق هدفه يراه ضئيلًا أمام الرؤى التي تفجرت أمامه فيسعى إلى هدف أسمى.
يحملني مداد القلم إلى صفحات بيضاء، وأخرى مزدحمة الألوان والخربشات في عالم متلاطم المشاعر، متفاعل الأحداث المكثفة. كلما ظننت انني وصلت إلى حيّز ما وجدته متضائلًا أمام عالم من جبال المعرفة ووديان الأحلام، ناهيك عن السماء الفسيحة لعالم الابداع.
- ما رأيكم بالجوائز الأدبية، وهل فعلا تكون على معايير منطقية موضوعية فتذهب لمستحقيها؟
للأسف لا يوجد معايير واضحة في معظم الجهات التي تقدم الجوائز الأدبية ومعظمها يخلو من الشفافية. أعرف عن ثقة أن معظم الجوائز تخضع لمقاييس وأجندات سياسية وشخصية كما أن معظمهم يخضع لإرادة صاحب المشروع القادم من خلفية لا تؤهله لقيادة هكذا مشروع. رأيت أعمالًا مميزة تمّ استبعادها لأسباب سياسية أو دينية أو جغرافية. دائمًا ما أتساءل عن المعجزة التي تمكن إدارة هذه الجوائز من تحكيم مئات من الكتب خلال أيام من خلال مجموعة حكّام لا يتجاوزن عدد أصابع اليد؟
- دور النشر، هل تؤدى دورا فعال وتتحمل أمانة النشر لأعمال ابداعية تخاطب العقول لا الجيوب؟
لا أعتقد أنه لدينا في العالم العربي دور نشر بالمفهوم العصري المنتشر في الغرب. أولًا لم تعد دور النشر تتبنى أي كاتب إلا نادرًا جدًا. على الكاتب أن يدفع التكاليف، وبعد ذلك لا يتم توفير دراسات نقدية، أو حملات إعلامية مفيدة. وهذا ما يحمل الكتّاب على نشر أعمالهم على حسابهم الشخصي والترويج لها من خلال مواقع التواصل الاجتماعي لعجزهم عن سلوك الدرب السليم. الكاتب ليس تاجرًا ليعرف سبل تسويق أفكاره ونشر ابداعاته ولا يحظى الكاتب الشاب بالتوجيه والرعاية اللازمين لإخراج مؤلفه بطريقة سليمة.
تكمن المشكلة في عدم وجود قوانين واضحة صارمة توازن بين الكسب المادي والرسالة الفكرية، كما لا توجد سياسة ثقافية توجيهية تعمل على بناء مجتمع مثقف قارئ يحاسب الناشر والكاتب والناقد.
- لمن توجه رسائلك من خلال الكتابة؟
إلى شريكي في الإنسانية على كوكب الأرض.
- عند ارتيادك المعارض الدولية للكتاب، عن ماذا تبحث من إصدارات، وعن أسماء لها نداءات لك؟
لم أعد أتسوق كتبًا إلا للضرورة مع أنني أذهب إلى المعارض بصورة دائمة. تصلني عشرات الكتب للمراجعة والقراءة فلا أجد الوقت الكافي لتسوق كتاب جديد.
- إذا أردنا أن نلخص رحلتك الإبداعية، في كلمة تكون عنوانا لك، ماهى؟
مستمرة حتى الفناء.
- هل الأحداث الساخنة بالشارع العربى عامة، وبلبنان خاصة، نداء دائم لك بالكتابة لتكن أحد شهود الحدث؟
ما دمنا جزء من هذا المجتمع، بل هذا الكوكب، نجد في كل دمعة ظلم يستغيث مستنجدًا. عند كل شفة يابسة نداء لإنسانيتنا، عند كل مظلمة صفحة موت تستنجد حياة. من يدرك هذا الآلام لا بد أن يبوح لتغيير الحاضر وتأريخ هذه الحقبة العفنة من تاريخنا.
- أين (محمد إقبال حرب) من عالم الكتابة، هل وصلت لحلمك، ام ما زلت على عتباته الأولى؟
ما زلت أحبو في فضاء الأحلام باحثًا عن حلم يحلم بي.
- عمل إبداعي لآخر وجدت أنه بعبر عنك؟
قرأت وأعجبت بكثير من الأعمال، لكن لم أجد ما يعبر عن محمد إقبال حرب.
- ماذا تريد أن توجهه لـ:
- الكتاب الجدد
اقرأ، ثم اقرأ ثم اقرأ، قبل أن تكتب. وما خرج من مدادك أصبح ملك الآخرين، فاعمل على أن يكون نتاجك الأدبي فخر لا ندم بعده.
- الصحافة الأدبية
اكتشفوا المواهب الفكرية المغمورة واطلقوا لها شراع المنافسة الفكرية بعيدًا عن أي نوع من التمييز أو العنصرية.
- مسؤولي الثقافة في أوطاننا العربية
اتقوا الله في ثقافتنا ولغتنا وانقذوا الجيل الجديد من الضياع حتى نظفر بمستقبل زاهر.
- لجان القراءة إن وجدت
اختاروا الكتب التي تنقل المجتمع إلى المستقبل ولتكن الحوافز معنوية ورمزية لا مادية حتى نحافظ على قدسية الفكر والكلمة.
- ما حلم الأمس واليوم والغد لديكم؟
أحلم بسيمفونية إنسانية يشارك فيها كل ذي روح بعيدًا عن الكراهية والحقد والعنف.