الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ .. عودة لـ كتاب المؤرخ المصري السخاوى شمس الدين
يعود كتاب "الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ"، للسخاوى شمس الدين محمد بن عبد الرحمن، من أهم مؤرخى مصر فى القرن التاسع الهجرى - الخامس عشر الميلادى، إلى الظهور كرد على منتقصي قدر وقيمة الكتاب، ومع هذا العنوان النادر للكتاب، له دلالته على أهمية علم التاريخ، وحرص "السخاوى" على الدفاع عنه، إضافة إلى القيمة الأسلوبية لذلك العنوان المسجوع.
و"السَّخاوى" من المؤرخين الكبار، ومن أشهر مؤلفاته الموسوعية "الضوء اللامع لأهل القرن التاسع".
ومقدمة كتاب "الإعلان بالتوبيخ" نثر فنى قائم على السجع وغيره من فنون البديع، وكتابات "السخاوى"، مثال لكثير من التراث العربى فى العلوم والفنون المختلفة، التى اتسمت بهذا الطابع الأدبى.
يقول السخاوى من هذه المقدمة: " الحمد لله مُصِّرف الأيام والليالى، ومُعَرِّف العباد كثيرا مما سلف فى الأزمان الماضية والدهور الخوالى، ومُشَرِّف هذه الأمة فى سائر الأشهر والأعوام بالضبط التام المتوالى".
وتمضى المقامة على هذا النمط الأدبى متضمنة الإشادة بعلم التاريخ وحكمته عبرة لما يمر من الوقائع المتصلة بالإنسان والزمان.
ويجعل "السخاوى" الاشتغال بالتاريخ من "أَجَلِّ القربات، بل من العلوم الواجبات" إجلالا له.
ويهدف إلى إظهار فضائل التاريخ. "يشفى الغليل، ويزيل الكربات، بحيث تطرق للتنقيص ولأهله بعض أولى البليات".
ولعل هؤلاء الذين انتقصوا من قدر التاريخ وراء اختيار السخاوى لعنوان كتابه، "الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ"، لينتصف له، ويظهر "مافيه من الفوائد المأثورات". وقد أبان "السخاوى": من منهجه فى تأليف هذا الكتاب تعريف التاريخ لغة واصطلاحا، وموضوعه، وأهميته، وطرائق بحثه، وما ينبغى أن يكون من شروط الاشتغال به.
كذلك أشار "السخاوى" إلى تناوله لفنون التاريخ، ومقاصده عبر المصنفين له، مقيما لهم معايير نقدية.
وتعرض لمفهوم التاريخ، ذاكرا أنه، فى اللغة، الإعلام بالوقت.
ويذكر أنَّ بداية التاريخ الإسلامى بدأ من الهجرة، وكُتب فى خلافة "عمر" رضى الله عنه، راجعا فى ذلك إلى "الجواليقى" فى كتابه: "المُعرَّب من الكلام الأعجمى".
ويعرف السخاوى التاريخ، اصطلاحا، بأنه "التعريف بالوقت الذى تضبط به الأحوال". وهذه الأحوال هى ما يتعلق بوقائع الأحداث، وما يتصل بذلك "من ظهور ملمة،... وخليفة ووزير، وغزوة وملحمة وحرب... وانتقال دولة... وغير ذلك من أمور الأمم الماضية".
كذلك يتضمن التاريخ ما يتعلق ببناء المنشآت المهمة فى حياة الناس كالجوامع والمدارس. ويتسع مجال التاريخ لغير ذلك من موضوعات تتصل بالكون وظواهره الطبيعية.
ويجمل "السخاوى" تعريف التاريخ بأنه:
"فن يبحث فيه عن وقائع الزمان، من حيثية التعيين والتوقيت، بل عما كان فى العالم". وأما موضوع علم التاريخ "فالإنسان والزمان، ومسائله: أحوالهما المفصلة للجزئيات تحت دائرة الأحوال العارضة الموجودة للإنسان وفى الزمان".
وأما فائدة التاريخ "فمعرفة الأمور على وجهها". وعلى ذلك نجد فى بناء هذا الكتاب قدرة على التنظيم المنهجى العقلانى لفكر "السخاوى" المؤرخ وفق أسس علمية للتاريخ علما وفنا.
واستقصاء "السخاوى" للهدف من "معرفة الأمور على وجهها" من منهج دراسة التاريخ دليل على ما ذكرناه من شخصيته التاريخية المتميزة، قائمة على أسس هذا المنهج العلمى لدراسة التاريخ بناء على التحرى الدقيق لصحة الخبر، وصدق المؤرخ.
ويعرض "السخاوى" لبعض المعايير التى تساعد فى توثيق التاريخ بعيدا عن الغفلة والخطأ من خلال كثير من الأمثلة التاريخية الدالة على عمق معرفته وموسوعيته التاريخية.
وينقل "السخاوى" عن "سفيان الثورى" قوله: "لما استعمل الرواة الكذب، استعملنا لهم التاريخ".
ومن أمثلة الكذب فى التاريخ خبر عن لقاء الإمام الشافعى بالخليفة "المأمون" والتاريخ لا يثبت ذلك.
وتترى الروايات التى يفند "السخاوى" أخطاء المؤرخين من خلالها فى أسلوب قصصى يسبغ على تلك الروايات قيما فنية مضافة إلى قيمتها العلمية. وللتاريخ أهميته إلى ضبط الرواية متنا وسندا. وكذلك تكمن أهميته فى نفعه إخبارا عن حكمة الزمان "بحيث يكون مَن عرفه كمن عاش الدهر كله".
ومن فائدة التاريخ "ذكر ذوى المروءات والأجواد، والمتصفين بالوفاء ومحاسن الأخلاق، والمعروفين بالشجاعة والفروسية( ). ويؤدى ذلك إلى تقديم القدوة الحسنة مما ينفع الناس ويمكث فى الأرض.
وفى قوله تعالى : "وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة (الإسراء 12) الإرشاد للتوصل به إلى العلم بأوقات فروضهم".
ويورد السخاوى من الآيات الأخرى ما يعزز به فوائد التاريخ مثل الإخبار عن الأمم الغابرة، والأنبياء والاقتداء بهم، كمحمد – صلى الله عليه وسلم- وإظهار نبوته، والاستدلال بها على رسالته.
وفى قصص التاريخ عِبر وعظات نافعة، وهو "علم يستمتع به العالم والجاهل... ومكارم الأخلاق ومعاليها منه تُقتبس، وآداب سياسة الملوك وغيرها منه تُلتمس... وعليه مدار كثير من الأحكام، وبه يتزين فى كل محفل ومقام".
وتترى آراء العلماء والأدباء فى أهمية التاريخ، مما يشجع على التأليف فيه.
وذكر التاريخ لأحوال الأمم السابقة إحياء لها.
يتناول "السخاوى" علم الحديث "الذى هو أساس الإسلام، وأصل الأحكام، ويبين الحلال والحرام، ومقتدى الخاص والعام، وبيان مجمل الكتاب، ومركز الحقيقة والصواب".
ومن فوائد التاريخ التأسى بالسِّيَر، والاطلاع على عجائب الأمور، فالتواريخ وذكر السِّيَر "راحة للقلب، وجلاء للهم، وتنبيه للعقل".
كذلك تدل عجائب المخلوفات على عظمة الصانع، وتُعلِّم سيرة الحازم حسن التدبير، وتؤدى سيرة المفرِّط، إلى سوء المنقلب.
فلولا التاريخ "لضاعت مساعى أهل السياسات الفاضلة"، ولما عُرف بدء الدول ولا نهاياتها.
وتدور نصوص كثيرة فى "الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ" حول عِبَر التاريخ وعظاته وفوائده بأسلوب سردى جذاب. فتقلبات الأيام، وقيام دول وزوالها، وعواقب الظلم ومحاسن العدل، وغير ذلك تضيف إلى متلقى التاريخ خبرات وتجارب مثل التخلق "بالصبر والتأسى".
ويستشهد "السخاوى" على حكمة ما ورد من القصص فى القرآن الكريم بقوله تعالى : "إن فى ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد" (سورة ق: 37)
ويورد كثيرا من النقول عن الكتب التاريخية المختلفة التى تعدد مناقب التاريخ ومزاياه، ودروسه وأعلامه وقضاياه، ونفعه لقارئيه.
والتاريخ مصدر مهم، لمعرفة سير الصالحين والعلماء وسيلة للاقتداء بهم. والجهل بتواريخ العلماء إهدار لقيمتهم.
"الإعلان بالتوبيخ" مصدر ثراء لكثير من المصادر التراثية التى طاف بها "السخاوى" المؤلف الموسوعى باقتداء، وأطلعنا على كثير من مكنوناتها العلمية القيِّمة. كما أن "السخاوى" خص كتابه هذا بكثير مما ورد فى فضل العلماء والصالحين مما يجب الاهتمام به فى وقت عز فيه تبجيلهم.
ويطلعنا "الإعلان بالتوبيخ على قصص علماء ماتوا حسرة على تطاول الجهلاء عليهم".
وأجمل بالعلماء التدبر فى سِيَر الأنبياء، وهنا يلتحم التاريخ بطرائق العلم، وتراجم العلماء والأدباء والساسة، ويطرد وصفه بالأهمية فى معارض كثيرة بكتاب "الإعلان بالتوبيخ"، ومن ذلك قول أحد المؤرخين : "فالتاريخ من المهمات العظام، مقبول عند الأنام، مشتمل على فكر وعِبَر... خزانة أخبار الناس والرجال، معدن العجائب والغرائب والروايات والأمثال".
ويشير "السخاوى" إلى ضرورة الاطلاع على التاريخ عمدة للثقافة الواجبة التى يحتاج إليها الصغير والكبير فى اكتساب الخبرات والتجارب فى الميادين المختلفة. كما أنه يجعل التاريخ لونا من ألوان المسامرة التى تمتع المتلقى وتسليه إلى جانب ما يقدمه من علم نافع.
ويرى "السخاوى" أن علم التاريخ فن من فنون الحديث النبوى ، ويفصِّل ما يتعلق بنفع التاريخ فى علم الحديث، خاصة علم الجرح والتعديل كما يشير إلى كثير من اتصال التاريخ بالعلوم والفنون الأخرى، خاصة الأدب والسياسة.
وبعد عرضه لمفهوم التاريخ وأهميته، يعمد إلى توجيه النقد لمن انتقد التاريخ اتساقا مع هدف كتاب "الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ".
ويؤكد "السخاوى" فى تفنيده لآراء خصوم التاريخ ما ذكره من أهمية التاريخ مما عرضنا له، وهو الجزء الأكبر فى كتاب "الإعلان بالتوبيخ".
ويدعو المنتقصين لعلم التاريخ إلى مراجعة آرائهم، دون ميل أو زيغ أو تعرف إلى آليات التاريخ، وشروط الاشتغال به من تحرٍ للحقائق واحتكام إلى الضمير العلمى.
وقد رأى أن غاية التاريخ رضا الله، وأن الأمانة التاريخية واجب لإقامة الحق والصدق، وكشف الزيف والكذب، اتساقا مع رسالة العلم الأخلاقية.
ويرى "السخاوى" أنَّ منتقدى التاريخ استثناء من الإجماع الذى انعقد على الاعتناء به( )، ولكنه – منصفا- ذكر أن علم التاريخ لا يخلو من قصور مع فائدته، فالخطأ وارد، والكمال لله وحده.
ومما يضبط علم التاريخ – معياريا- الشروط التى يجب توافرها فى المؤرخ، وأهمها العدالة "مع الضبط التام الناشئ عنه مزيد الإتقان والتحرى"( ). ويجب على المؤرخ أن يكون منصفا بعيدا عن الهوى، عكس قول الشاعر:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدى المساويا
فلا يقر المؤرخ ما يشين، ولا يسيئ إلى ما يزين، متبعا هواه، بل عليه أن يكون موضوعيا فى حكمه على الوقائع والأشخاص.
ويشير "السخاوى" إلى قول الإمام الشافعى : "ما رفعت أحدا فوق مقداره إلا واتضع من قدرى عنده بقدر ما رفعته به أو أزيد"( ).
وهذا من عواقب المبالغة التى لا تصح عامة، ناهيك عن أن تكون من آفات العلم.
وننتقل مع "السخاوى" إلى المؤلفات التاريخية، وهى تستغرق النصف الثانى من الكتاب تقريبا، ولا تدخل هذه المؤلفات تحت حصر لأنها كثيرا جدا( ).
وما ذكره السخاوى من المؤلفات التاريخية يعد عملا موسوعيا ربما لأكبر مكتبة تاريخية إلى عصره.
وقد ذكر "السخاوى" أهم المؤرخين، وطرائق تاريخهم، مما يعد وثيقة علمية فى "التاريخ" علما وفنا. ويذكر "السخاوى" أن الأمويين كانوا لايستوزرون، بل يتخذون أديبا من وجوه العرب، ممن يرجع إليه فى الرأى والتدبير".
وقد رصد "السخاوى" المؤلفات التاريخية فى "سيرة الرسول" صلى الله عليه وسلم، وقصص الأنبياء، وتاريخ الصحابة، وتواريخ الخلفاء، وتاريخ ملوك الإسلام، وتواريخ الوزراء.
وفى تاريخ "الكُتَّاب" ذكر كتابا واحدا لابن الأبَّار( ). ثم أسهب فى تاريخ الفقهاء بعد تاريخ الأسراء، وذكر من تاريخ الأدباء كتابا واحدا هو :"معجم الأدباء" لياقوت( ).
وكذلك اشتملت المؤلفات التاريخية فى "الإعلان بالتوبيخ" على تاريخ القُراء، وتاريخ الحُفَّاظ، وتاريخ المحدثين، والنحاة، واللغويين، والشعراء، والعُبَّاد، والصوفية، والقضاة، والمغنين.
ومن هذه الكتب وغيرها ما يقع فى مجلدات طوال كثيرة، ومنها ما يتصل بموضوعات طريفة مثل تاريخ البخلاء.
ويبرع "السخاوى" فى عرض المؤلفات التاريخية، خاصة الموسوعية منها.
وقد هذب ونقح وأكمل كثيرا من هذه المؤلفات، لعلمه الغزير علما من علماء التاريخ. ومن طرائف الكتب التى ذكرها السخاوى تلك التى تعلقت باسم خاص، مثل كتاب عنوانه: "عوض شفاء المرض فيمن سمى بعوض".
وفى تاريخ المدن يذكر كتابا عن الإسكندرية لأبى المظفر منصور بن سليم فى أربعة مجلدات.
ويفرد "السخاوى" حيزا كبيرا لكتب تواريخ المدن فى مصر والشام وغيرها، خاصة مكة المكرمة والمدينة المنورة.
ويختم كتابه بقائمة لأسماء المؤرخين مرتبة أبجديا.
والمؤلفات العربية التراثية الموسوعية مؤكدة لعبقرية منهجية فذة، وحضارة إسلامية عظيمة.
ودرس "السخاوى" ، هنا، عظيم فى منهجه النقدى الذى تناول به علم التاريخ بشخصية علمية فذة تجرى على سنن العلم فى الدأب على تحصيله وتبويبه ومساءلته وتحرى الدقة فى وسائله وغاياته دون ادعاء بأنه حسم الأمر فى مسائله، فالباب مفتوح للاجتهاد بين الإصابة والخطأ، والضمير العلمى الصادق نبراس العلماء العاملين بقول الشاعر:
فلا تكتب بخطك غير شئ يسرك فى القيامة أن تراه.