بإذن الله تعالى لا زلت وسأظل معكم فى حضرة رحلة إنقاذ ما يمكن إنقاذه مما تبقى من حرف يدوية تقليدية اشتهرت بها نقادة وجراجوس ونجع الشيخ علي بمحافظة قنا.

نستكمل سويًا حكايات المعاناة والبؤس التى صارت عنوان حياة ومعيشة أصحاب هذه الحرف التي اشتهرت بها تلك المنطقة، إن لم يكن المحافظة بأكملها، وأذكركم بأنها حرف صناعات الشال الحرير المعروف باسم "الفركة" بنقادة وخزف جراجوس وفخار نجع الشيخ علي.

أمر غريب لم أتوقعه، فبمجرد مرور سيارة الرحلة بمدينة قوص، تذكرت فجأة طريق "عيذاب" الذى يطلق عليه طريق الحج القديم وداهمتني الأسئلة المعتادة، يا ترى هل ما زال هذا الطريق موجودًا وناله من حب مبادرة حياة كريمة نصيب، أم أنه اندثر وتم إغلاقه، والخوف كل الخوف أن تلحق به الحرف اليدوية وتندثر أيضا.

كان أحد الفقهاء بإذاعة القرآن الكريم يتحدث عن تكلفة تأدية فريضة الحج التي صارت باهظة للغاية ولم تعد فى استطاعة الكثيرين إلا قليلا، تنبهت أنه لم يعد باقي من الزمن إلا حوالى ثلاثة أسابيع ويصعد حجاج بيت الله الحرام على عرفات لطلب المغفرة والعفو ومناجاة رب السموات والأرض "لبيك اللهم لبيك .. لا شريك لك لبيك .. إن الحمد والنعمة لك والملك .. لا شريك لك ". رددت سبحان الله، نعم سيرة الأماكن العطرة لا تخطر على البال ولا تأتى إلا فى المناسبات العطرة .

من هنا مر حجاج المسلمين المصريين والمغاربة والأفارقة ملبين ومكبرين في طريقهم للأراضي الحجازية .

علي طول مسار هذا الطريق  تناثرت أضرحة أولياء الله الصالحين والصوفية ولا تزال آثار ميناء عيذاب بسفاجا على ساحل البحر الأحمر (الذي يعد أقرب نقطة لنقل الحجاج إلى مكة، ويعد من المناطق الهامة على البحر الأحمر في أقصى جنوب الصحراء الشرقية).

قد يسأل البعض ولماذا اسم عيذاب، هل لأن رحلة الحج كانت شاقة مليئة بعذاب السفر، ولكن المفاجأة أن اسم عيذاب ليس على الإطلاق  هذا المعنى الذي تبادر أو يتبادر إلى ذهنك أو ذهن أي شخص يسمعه أو يقرؤه. عيذاب هو اسم نوع من الأعشاب الصحراوية التي عرفت بها جبال عيذاب المنتشرة  فى  مثلث حلايب القريب جدا من هذا الميناء على بعد 24 كيلومترا شمالى مدينة حلايب ذاتها.

وطبقا لما أكده المقريزى، كان أهم ميناء يربط مصر بموانئ اليمن مع الهد والبحر المتوسط، وظل أهم موانىء الحجاج إلى مكة لمدة أربعة قرون من القرن العاشر إلى القرن الرابع عشر، خاصة بعد أن أغلق الصليبيون طريق الشام.

عند سرد حكايات عن رحلات الحجاج الذين مروا بهذا الطريق والميناء، تلاحظ أن العشرات بل المئات من الذين مروا بهذا الطريق وسافروا من ذلك الميناء، كانوا من أئمة ورجال الصوفية الذين جاءوا إلى مصر من الأندلس والمغرب عن طريق البحر المتوسط  ونزلوا بالإسكندرية ومنهم من عاش واستقر بها، ومنهم من أكمل رحلته إلى القاهرة وباقى المحافظات وعايشوا المصريين  وفتحوا كتاتيب لتعليم القرآن وحفظه .

العديد من هؤلاء بعد أداء فريضة الحج عندما عاد من رحلته المقدسة لم يرجع إلى بلاده، وإنما بقى في مصر وعاش بين المصريين حتى مماته.

قد تستغرب إذا عرفت أن الغالبية من أولياء الله الصالحين الذين نحتفل بهم فى ذكرى مولدهم تقريبا مغاربة، سيدى أحمد البدوى بطنطا  المعروف بـ السطوحى لعشقه التسبيح والنوم على السطوح، سيدي عبد الرحيم القنائى شيخ المتقين وإمام الزاهدين.

أما سيدى المرسى أبو العباس بالإسكندرية، الذى تتلمذ فى مسقط رأسه قرية غمار بالمغرب على يد القطب الأكبر والعالم الصوفي المغربي الأشهر الزاهد عبد السلام بن مشيش، عاش بال|إسكندرية وتزوج ابنة معلمه وأستاذه سيدى أبوالحسن الشاذلى الذى وافته المنية على قمة جبل حميثرة ، حين صعد به سيدى المرسى أبو العباس إلى قمة الجبل تلبية لوصيته التي أوصاه بها بأن يدفنه فى هذا المكان.

من يومها، وفى وقفة عرفات يتوافد تلاميذ الشيخ ومحبوه إلى وادى حميثرة لإحياء ذكرى مولده، يصعدون إلى الجبل، اعتقادا لدى البعض أن من يصعد إلى جبل حميثرة فقد صعد إلى جبل عرفات وكتبت له حجة.

لا يمكن أن انسى أبدا مشهد إحدى السيدات وهي تتمسك وتصر إصرارا شديدا على صعود جبل حميثرة، على الرغم من مشقة الصعود الشديدة عليها وقد بدا أنها تجاوزت الستين من عمرها، إلا أنها كانت تواصل صعودها و تقول لمن يحاولون إقناعها بالتوقف وهى تكاد تلتقط أنفاسها بصعوبة "مقدرش أرجع بيتى وأنا ما أخدتش بركة الشيخ وفزت بالحجة". 

المعروف أن رحلة صعود جبل حميثرة الذي يبعد 150 كيلومتر تقريبا غرب مرسى علم ليست يسيرة، فهو جبل مليء بمدقات وعرة مخصصة للصعود لا يقوى عليها إلا الشباب، لكن يبقى الإيمان لدى كل من جاء إلى هذا المكان أنه جاء ليقضى أجمل لحظات عمره فى حضرة عرس كونى تظلله النجوم المتنهدة بالرحمة بين نفوس تتوحد بالصفاء والنقاء والرضا، فلا مكان هنا للغضب والحزن مهما بلغ القحط  والفقر والجفاف  …  وللحديث بقية إذا كان فى العمر بقية.