د. حسين علي ,
كنت جالسًا بمكتبى بالجامعة حين دخل عليَّ أحد الزملاء، وكان على درجة «أستاذ»، كان حزينًا عابس الوجه، لأنه فى صباح ذلك اليوم (كما حكى لي) ذهب إلى الملحقية الثقافية لإحدى الدول الخليجية بغرض السفر للعمل فى تلك الدولة، غير أن طلبه للسفر رُفِضَ. سألته عن سبب الرفض، وظننت أنه سوف يجيبنى بأن طلبه للسفر قد رُفِضَ، لأنهم يطلبون مؤهلًا مختلفًا عن مؤهله، أو تخصصًا غير تخصصه، أو أنه لم يكن موفقًا فى رده على الأسئلة التى طرحها عليه أعضاء اللجنة التى كانت موجودة فى الملحقية لاستقبال الراغبين فى السفر واختبارهم!
الحقيقة إن الأستاذ الدكتور لم يذكر شيئًا من هذا، بل فاجأنى برد ذكره لى وهو متجهم ومبتئس، قائلًا:
- أنا عارف أنا لم أوفق النهارده ليه!!
سألته بلهفة وحب استطلاع شديدين:
- ليه.. ؟!
أجاب بكل جدية:
- لأن أنا النهارده الصبح.. وأنا رايح الملحقية الثقافية قابلت فلان.. وفلان ده وش فقـر.. وشه يقطع الخميرة من البيت.
قال هذه العبارة بجدية تامة، وليس على سبيل المرح أو الفكاهة.
هذه واقعة حقيقية حدثت بالفعل، وهى تعبر بدقة عن التفكير الخرافى، الذى يربط بين شيئين لا رابطة بينهما. وهذه الواقعة بطلها دكتور جامعي، حاصل على درجة الأستاذية وهذا معناه أن كثيرًا من الناس يمارسون التفكير الخرافى؛ الجاهل والمتعلم، من لم يتحصل على شهادة محو الأمية، ومن حصل على «الأستاذية».. العقلية عند الطرفين - رغم الاختلاف الظاهرى - واحدة، عقلية عم عبد التواب بواب العمارة التى أقطن بها، وعقلية معالى السيد الأستاذ الدكتور الذى يتشدق دومًا بأنه حاصل على الأستاذية منذ أكثر من ثلاثين سنة، عقلية واحدة قطعية مغلقة لا يعرف التفكير النقدى إليها سبيلًا. عقلية تقدس كل قديم دون فحص أو تمحيص، تقدسه لمجرد أنه قديم، وتعادى كل مستحدث، دون تأمل أو إعمال عقل، تعاديه فقط لأنه لم يرد ذكره فى كتب القدماء. عقلية متحجرة كانت وما زالت سببًا لتخلفنا.
نخلص من ذلك إلى القول بأن التفكير العلمى شىء وتكريس المعلومات شىء آخر، ولكى نميز بين إنسان يفكر بطريقة علمية وآخر يعتمد فى تفكيره على الخرافات، لا بد لنا أن نحدد ما نقصده بالخرافة. إن الخرافة تختلف عن العلم، لأن الخرافة تعتمد على «رابطة عرضية» بين شيئين، فإذا زارنا شخص ما نعتقد أنه من النوع «الحسود» ثم حدثت لنا مصيبة أثناء أو بعد زيارته لنا، فإننا غالبًا ما نربط بين زيارته لنا وما أصابنا من كوارث، ونتوهم ـ خطأ ـ أن الرابطة بينهما رابطة دائمة وضرورية على الرغم من أنه لا صلة بين هاتين الظاهرتين، قد يكون اقتران وقوعهما قد حدث ـ بمحض المصادفة ـ مرة أو مرتين أو أكثر، ولكن هذا لا يعنى أن نربط بينهما ربطًا دائمًا. ولتوضيح معنى «الرابطة العرضية» نأخذ المثال الآتي:
لنفترض أن هناك معسكرًا أو مصنعًا حربيًا أقيم حديثًا على مقربة من منزلك، يقوم أفراده بإجراء تجارب على أنواع معينة من المتفجرات، وأنت لا تعلم شيئًا عن هذا المعسكر، ولا تعرف أصلًا أنه موجود، ولا يعلم أحد من الأهل أو الجيران شيئًا عن وجود هذا المصنع الذى أُنشئ حديثًا ـ بسبب أنه مصنع سري.
ولنفترض أيضًا أنك حين عودتك من الجامعة أو من عملك، أردت تشغيل جهاز التليفزيون فى منزلك لمشاهدة مبارة كرة قدم مثلًا. ولكن بمجرد أن ضغطت بإصبعك على مفتاح تشغيل التليفزيون سمعت صوت انفجار شديد ارتجت له جنبات المنزل، (لأنه تصادف فى تلك اللحظة أن المصنع السرى كان يختبر إحدى القنابل) حاولت أنت وجميع أهل المنزل معرفة مصدر الانفجار، لكنكم فشلتم فى معرفة شيء. ويتصادف فى كل مرة تحاول فيها تشغيل جهاز التليفزيون أنه بمجرد أن يضغط إصبعك مفتاح التشغيل، تسمع صوت انفجار شديد ترتج له جنبات المنزل، ولنفترض أن هذا تكرر حدوثه أكثر من مرة على فترات متقاربة أو متباعدة.
مما لا شك فيه أنه سوف تأتى عليك لحظة ترتجف فيها رعبًا من مجرد التفكير فى تشغيل جهاز التليفزيون، لأنك سوف تعتقد اعتقادًا راسخًا أن ضغط إصبعك على مفتاح تشغيل جهاز التليفزيون هو سبب أو علة حدوث الانفجار، ومهما حاول المرء إقناعك بأنه لا توجد أية علاقة بين تشغيل جهاز التليفزيون وسماع صوت الانفجار، وأن العلاقة بينهما تمت عن طريق المصادفة، أى أنها مجرد علاقة عرضية ـ أى نشأت عن طريق الصدفة البحتة ـ ومع ذلك فإنك لن تقبل هذا الرأي، وستظل متشبثًا باعتقادك أن هناك علاقة ضرورية ودائمة بين تشغيل جهاز التليفزيون وسماع صوت الانفجار رغم خطأ هذا الاعتقاد وابتعاده عن الحقيقة والواقع.
هذا المثال يوضح طبيعة «الرابطة العرضية» التى تستند إليها معظم الخرافات، فالخرافة تستند ـ كما سبق أن ذكرنا ـ إلى علاقة وهمية بين شيئين كالتشاؤم مثلًا من رؤية قطة سوداء، أو التشاؤم حين سماع نعيق الغراب عند السفر. فى مثل هذه الحالات يتوهم صاحب المعرفة الخرافية أن هناك رابطة دائمة بين نعيق الغراب أو رؤية القطة السوداء، وبين حدوث المصائب والكوارث. مع أنها فى حقيقة الأمر «رابطة عرضية» قد تكون حدثت مرة أو مرتين فظن أنها رابطة دائمة، هذه ومثيلاتها علاقة وهمية خرافية، يحارب العلم التسليم بها، لأنها لا تحتوى على شرط العلاقة السببية الثابتة التى يحرص العلم على الكشف عنها. والعلاقة السببية الثابتة تخضع لشرطين:
الشرط الأول: أن يشهد بصدقها الواقع.
الشرط الثانى: أن يكون وقوعها مطردًا، بحيث لا يحتمل شذوذًا أو استثناءً.
وتوضيحًا لذلك نقول: إنه إذا حدث أن سمع إنسان نعيق الغراب ولم يلحقه ـ ولو مرة واحدة ـ أى أذى، كان ذلك دليلًا مقنعًا فى نظر العلم على خطأ الاعتقاد بأن نعيق الغراب هو سبب نزول الكوارث، حتى ولو ثبت أن كثيرين قد لاحظوا أنه كلما سمعوا هذا النعيق أصابهم الأذى.