رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


أنا وهي والدولة الإسلامية

20-7-2017 | 21:03


      قصة محمد بركة - قاص من القاهرة

عيناها واسعتان بلا مبرر وسوداوان على نحو فاتن ومحبط!

        عيناها ليل متوحش.

        لا أنكر أن "أسلحتها" الأخرى تعمل بكفاءة مدهشة، وسأعرف فيما بعد كيف هربت بمعجزة من حصار الهامبرجر والبطاطس المقلية حتى تحافظ على رشاقتها وتنجو من لعنة "جذوع الأشجار" التي تطارد أجساد النساء هنا، لكن تظل عيناها أخطر ما في الموضوع. بريقهما يهدد طمأنينتك، يهاجم وداعتك بشراسة. مالي أنا وهذه الرموش الطويلة التي تبدو وكأنها خلقت خصيصاً لاصطياد المشاعر الغضة؟ مالي وهذا الشعر الغجري المسافر حتى آخر ورقة سوليفان تخبئ فيها قلبك الصغير الأخضر؟

        وقالت ضحكتها: أين ستهرب؟ وقال قوامها الذي بدا رمحاً طويلاً يحارب به عبد حبشي في جزيرة العرب: سلم تسلم. وقلت لنفسي: لماذا نضحك على أنفسنا، أليس الرجل منا عينه بالفعل فارغة؟ إن عشرات النساء بمقدورهن أن يلفتن بدرجة أو بأخرى انتباهنا يومياً، لكنها مرة واحدة بالعمر، تلك التي نقابل فيها أنثى نتمنى بحرقة أن تكون لنا لليلة أو لساعة أو للحظات، ليس اشتهاءً ضارياً أو سقوطاً من النظرة الأولى فى بحر العسل، بل امتثالاً لسطوة يقين معذِب يخبرنا أنه إذا لم يحدث هذا الآن، فلن تروينا أنوثة الدنيا بعد ذلك!

        هل كانت "جيسكا" هي تلك المرأة الموعودة؟ ملامحها تحمل من الشرق أكثر مما تحمل من الغرب، توقعت أن تكون من أصل أوروبي متوسطي، ولكنها أكدت بفخر أنها أمريكية "أباً عن جد" وإن كانت أشارت إلى أنني ليس أول من يعتقد ذلك، هذا بالضبط ما يحبطني، فعقدة النقص الكامنة فينا تجاه الأجنبيات ،  الأمريكيات منهن خصوصاً ،  لا تستيقظ إلا بحضرة خصلات الشعر الذهبي والعيون الزرق إلى آخر المواصفات التقليدية لكتالوج الأنوثة الغربي، أما أن تبدو "جيسكا" جارية أوروبية خارجة لتوها من كتاب "ألف ليلة" فتلك قصة أخرى.

        جسدها بدا متخلصاً من التوتر في حضور أحد الغرباء، وهو يتمايل خفيفاً بإيقاع لا يخلو من بعض الاستعراض، وقالت البيضاء الجميلة شيئاً عن عملها السابق " جرسونة بار" وعن حلمها بالذهاب إلى روما لدراسة الموضة وكيف أصبح الأمر هاجساً ملحاً بعد انفصالها عن زوجها، وبطبيعة الحال رنت العبارة الأخيرة ـــــ التي حرصت هي أن تأتى بشكل عابر ـــــ في أذني مثل جرس إنذار رائع. كانت تحدق بعيني بتركيز غريب قبل أن يتحول فمها العذب الصغير فجأة إلى مدفع رشاش انطلق في وجهي مرة واحدة بأسئلة كثيرة لا تنتهي:

ــــــ  هل حقاً لديكم في مصر سيارات؟

ــــــ  هل الرجل عندكم يعيش مع أربع زوجات بخيمة واحدة وسط الصحراء؟

ــــــ  هل يعترف قرآنكم بأن المسيح هو المخلص؟

ــــــ  أين كنت و سياف تنظيم  " الدولة  الإسلامية " يطيح برقبة الصحفي الأمريكي أمام الكاميرا ، و ماذا كان شعورك الحقيقي حين انفصلت رأسه عن جسده ؟

ــــــ  هل تشعر في داخلك بالحزن على هزيمة  التنظيم في العراق و سوريا ؟

        كان شعري يحمل ما تيسر من غبار، هائش يشبه الشعر الحديث الذي يكتبه أصدقائي في القاهرة، ذقني نابتة، وكان قد هدني التجوال في أسواق " نيو مكسيكو" ومللت التعرف على منتجات بقايا الهنود الحمر أو "الأمريكيين الأصليين" حسب اسم التدليل  الخاص بهم هنا. تسللت خلسة من زملاء الوفد عائداً إلى الفندق وأنا أحلم بحمام ساخن، أتوق للفراش ونحن بمنتصف النهار لا نزال. تهت فدخلت أول ما صادفني، محل ملابس رجالي يعرض بضاعة تذكرك ب "وكالة البلح"  ، قلعة الملابس المستعملة فى مصر. سألت البائعة التي كانت ترتدي رغم الحر قميصاً بكم و " جوب "  طويلة فدلتني بالتفصيل، ولكن الموقف لم ينته، فبينما أنا أستدير مغادراً فاجأتني بسؤالها:

ــــــ  معذرة، ولكن هل أنت هندي؟

        وتذكرت أنني لو كنت في أرض الوطن لكان من حقي أن أعتبر الأمر إهانة، فالهند بلد ديمقراطي ونووي، على العين والرأس، ولكن الواحد منا إذا أحس بأن الآخر يستغفله سأله مستنكراً:هل تظنني  هندي؟

        قلت بهدوء:

ـــــ     أنت تثيرين موضوعات مهمة لكنني الآن متعب، ما رأيك لو التقينا مساءً، أنا لا أعض، والفندق لا يبعد سوى دقائق، وقبل أن ترد، سارعت وأخرجت خطاباً يحمل مثله كل زميل بالوفد ونحرص عليه مثل تعويذة دبلوماسية.. أعطيتها الخطاب الذي يحمل شعار النسر الفارد جناحيه متوعداً فرائسه، لم تندهش أو تتساءل عن ماهية هذه الورقة ومضت تقرأ بالإنجليزية.

        إلى من يهمه الأمر:

        تؤكد وزارة الخارجية أن السيد/........... موجود داخل الولايات المتحدة للمشاركة ببرنامج الزائر الدولي الذي يستمر في الفترة من/.......... إلى/...... ومع تفهمنا الكامل ومساندتنا لكافة الإجراءات الأمنية الاستثنائية التي تتخذها حكومتنا بعد الهجوم الإرهابي في 11 سبتمبر، إلا أننا مع ذلك نتوقع أن يعامل السيد/........ المعاملة التي تليق بشخص يحل ضيفاً على وزارة الخارجية.

        حاجباها، العريضان كما أفضل دوماً، ارتفعا دهشة. قالت :

أنت شخص مهم إذن!

        لم أعلق، فضلت أن أكون جاداً للغاية ولاحقتها سريعاً بالباسبور وأنا أشير إلى صورتي واسمي حتى تتأكد أنني الشخص المذكور أعلاه. لم تبد مهتمة بهذا التأكيد.

قالت:

ـــــ     حسناً.. ولكن المشكلة أنني لدى خطط أخرى هذه الليلة.

ـــــ     أي خطط؟

ـــــ     سأخرج مع أصدقائي حسب اتفاقي المسبق معهم.

ــــ     لكن هذا ليس عدلاً، فهذه هي ليلتي الأخيرة في نيو مكسيكو وغداً سأطير

    إلى لوس أنجلس، أما أصدقاؤك فمُتاحون كل يوم.

        كان ما ذكرته حقيقياً.

وقالت عيناي: من فضلك قولي نعم، فقط قولي نعم!

        ظلت تحدق طويلاً كأنها تزن الموقف بأكمله قبل أن تهمس:

ـــــ     ولكن الحياة ليست عادلة، أليس كذلك؟

        وابتسمت أكثر ابتسامة محيرة رأيتها بحياتي.أعطيتها "الكارت" الذي يحمل عنوان الفندق وأرقام الهواتف. قلت:

ــــ     سأنتظرك.

اتسعت ابتسامتها، ومضيت أنا لا أعرف ما يأتي به الليل...