لعلكم تتفكرون .. لنا فقه علينا أن نفهمه
د. يس العيوطي - أستاذ القانون بنيويورك والمستشار القانوني.
حينما اتجهت القوات الأمريكية لغزو العراق عام 2003 ارتكبت قياداتها أكبر خطأ في تثقيف ضباط تلك الحملة المسعورة.. حملة لا علاقة لها بالإرهاب الذي أدي إلي تدمير برجى التجارة العالمية في أحداث 11/9 بل كانت حملة استهدفت بترول العراق، وذلك بشهادة نائب الرئيس تشيني.
تحصن ضباط تلك الحرب التي أنتجت التفسخات الطائفية ودمرت العراق كما شهدت نيلس في 2006،2007 ، تحصنوا بكتاب عنوانه «ماهو الخطأ في الإسلام؟» مؤلفه برنارد لويس الأستاذ بجامعة برنستون بأمريكا الذي غدا القبلة الزائفة في أمريكا لكل من يطلب معرفة الإسلام.
وليس بالإسلام خطأ، ولكن اعترت برنارد لويس أخطاء فهم الإسلام الذى كان قد درسه من أسوأ مصادره، وهو الإسلام العثمانى الذى دعا إلى السيف، وإلى تجنب علوم الغرب مثلما تفعله الحركة الإرهابية «بوكو حرام» فى نيجيريا اليوم، وهو اسم معناه (علم الغرب غير إسلامى) واستنتج برنارد لويس الذى يدين باليهودية، ولا غبار فى ذلك، وإنما الغبار يكتنف مقولته «بأن على الإسلام أن يجتاز حركة إصلاحية، كما حدث فى المسيحية فى القرنين السادس عشر والسابع عشر بزعامة مارتن لوثر كينج الألمانى الذى أنتج البروتستانتية فى الدين (أى المعارضة) ضد القيادة الدينية للإمبراطورية الرومانية ومعقلها روما..
وشتان بين حركة الإصلاح اللوثرية ومطالبات برنارد لويس بالإصلاح فى الإسلام، ذلك لأن الكاثوليكية فى عصر مارتن لوثر جعلت من بيع صكوك الغفران تجارة فى (البورصة الدينية لإثراء الكنيسة) بينما نادى الإسلام منذ بدئه بمبدأ التوحيد الذى مازال حتى يومنا هذا هو عمود الخيمة الإسلامية.
ــ لماذا؟
فى الفقه الإسلامى الذى أدرسه منذ عشر سنوات بكليات الحقوق الأمريكية، يقف التوحيد على أساسين من الفرضيات أولهما علاقة الفرد بالخالق هى علاقة مباشرة لا وسيط فيها،هى خط تليفونى ساخن ليل نهار بين المخلوق وخالقه، وثانيهما يجمع التوحيد بين كل الأديان والمعتقدات على أساس من المساواة.
أعلن الإمام الأكبر شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب الذى مثل مؤسسة الأزهر التاريخية فى كل من أمريكا وكندا، أعلن فى خطابه التاريخى أمام البرلمان الأوروبى فى برلين فى مبنى البوندستاج، فى 15 مارس 2016، ما يلى:
"هذا الدين كما تعلمون حضراتكم دين مرتبط بالأديان السماوية برباط عضوى لا ينفصم، فنحن المسلمون نؤمن بأن كلاً من التوراة والإنجيل والقرآن هدى ونور للناس، وأن اللاحق منها مصدق للسابق.
ولا يتم إيماننا بالقرآن ولا بمحمد إلا إذا آمنا بهذه الكتب السماوية وبموسى وعيسى وبمن قبلهم من الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم”.
ثم أتبع الدكتور الطيب خريج جامعة السوربون فى باريس تلك الأقوال باقتباسه من آى الذكر الحكيم حيث قرأ “إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون” (البقرة الآية 62) هذا عن مبدأ التوحيد الذى بزغ فى صعيد مصر منذ آلاف السنين حينما نادى به إخناتون والد توت عنخ آمون، حينما استبدل الشمس بتعددية الآلهة فى مصر الفرعونية.
وماذا عن الشق الأول المتقدم الذكر فيما يتعلق بعلاقة الفرد بخالقه علاقة مباشرة؟
إنه أحد عمد الثورة الإسلامية الدينية الجديدة التى دعا إليها الرئيس عبدالفتاح السيسى ويضطلع الأزهر الشريف منذ عام 2014 بنشرها تصحيحا للمفاهيم الخاطئة عن الإسلام، وسحباً للسجادة الأيديولوجية المغشوشة التى تستند إليها الجماعات الإرهابية التى أسميها فى كتابى القادم بـ «الجهادية» وهى أبعد ما تكون عن معنى الجهاد فى الفقه الإسلامى. ذلك لأن دعاية داعش والقاعدة والشباب وبوكو حرام والعناصر المتطرفة من الإخوان المسلمين تستند إلى التكفير، وليس بالفقه الإسلامى تكفير إذ أن العلاقة المباشرة بين الخالق والمخلوق تجعل الله العلى المقتدر هو صاحب السلطة يوم الحساب، إذا ليس لمخلوق مثلى ومثلك – إلا أن يكون جهادياً أو سلفياً أو وهابياً- أن ينزع تلك السلطة الإلهية من يد الذى خلقنا وسوانا جميعا فى منظومة الأسرة البشرية الواحدة.
أعود الآن إلى عنوان هذا المقال الذى اخترته «لعلكم تتفكرون» فالفقه الإسلامى أو الشريعة تتجدد بصورة مستمرة إذ تحمل فى ثناياها بطارية الإصلاح التى لا تنضب وهى «الاجتهاد» فللإسلام قاعدتان وصفهما المرحوم جمال البنا فى كتبه العديدة المسماة بـ «دفاتر الأحياء» ب «الأصلان العظيمان» والمقصود بهما القرآن الكريم والسنة المأثورة عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وتتلخص العلاقة بين العقيدة والفكر فى أن الفقه، ومعناه اللغوى هو «حسن الإدراك» يجعل من الفكر دينامو الإصلاح المتجدد.. وليس من الغريب أن يأتى ذكر الفكر والتفكير فى محكم كتابه فى 18 آية، أولها «كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون» (البقرة الآية 219) وتتجلى العلاقة العضوية بين القرآن والسنة من جانب والفكر (وهو لفظ يعنى الحكمة «ويعلمه الكتاب والحكمة» فى الفقه المسمى (بفقه فيما لا نص فيه) أى أنه حينما لا يوجد النص تأتى الحكمة من باب الاجتهاد لتملأ ذلك الفراغ، وهذه هى الحجة الدامغة على المقولة الإسلامية “الشريعة صالحة لكل مكان وزمان”.
إذ أن فى التفسير والتأويل والإجماع والقياس، خير الوسائل على دحض زيف أمثال برنارد لويس على أن الشريعة لا تتجدد ولن تتجدد – إلا بإصلاح يرى المفكرون الغربيون الحثالة خاصة من لا يعرف اللغة العربية أن الإسلام بحاجة إليه.
ما يعوز الإسلام اليوم هم المسلمون الذين لا يقرءون ، أليس من المدهش والمحزن ألا يعمل المسلمون بأول كلمة فى القرآن الكريم وهى «اقرأ» ومعناها «تعلم» وبما جاء فى الأثر«اطلبوا العلم ولو فى الصين» إذاً «الفقه هو التبحر فى المعرفة» والحكمة هى الأخذ بالاجتهاد فيما لا نص فيه.
وصدق الرحمن حين أورد فى كتابه ذكر «الفقه» وصور كلامه متعددة التى أبرزها «يتفقهون» و”يفقهون” «فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا» (78 النساء).
بداية معنى كلمة «الأثر» هى الدليل، ورداً على الجهاديين الآثمين نقول أن كلمة «السيف» لم ترد قط فى كتاب الله، وأن من يرسم السيف على علمه أو رايته مثل الإخوان المسلمين والوهابين لا يفقهون. «وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفى آذانهم وقراً» (الانعام 25، الاسراء 46، الكهف 57).
لقد لخص عباس محمود العقاد الرد على ما قام به الجهاديون من تلطيخ للإسلام، وهو الذى تبناه الغرب وكأنه شريعة الإسلام حين قال”وحين لم يصب الإسلام خطر على أيدى الاستعمار - أصيب علي أيدى أبنائه الجهلاء”
وهذا ما حدا بشيخ الأزهر الإمام الدكتور أحمد الطيب فى دعوته بالثورة أن يقول فى أبوجا عاصمة نيجيريا، بحضور الرئيس بوهارى فى مايو 2016 “ما كان يجول بخاطر المسلمين علمائهم وخاصتهم وعامتهم أن يجيء عليهم يوم يضطرون فيه للتجوال فى الآفاق دفاعا عن قضيتهم وكشفا عن جوهره وحقيقته بعد أن وضعه فى أقفاص الاتهام ظلماً وزوراً طائفة من المنتسبين إليه شوهوا معناه الجميل ولطخوا صورته النقية بألوان الدماء وصور الأشلاء وحرصوا على أن يبثوا مناظر قطع الرؤوس على شاشات الفضائيات العالمية، فى إصرار لافت للنظر وفى وحشية لم يعرف التاريخ لها مثيلاً.”
ختاما نقول إن الاختلاف فى شئون الدين لا يعنى أن الطرف الآخر على باطل.
وفى فصل من فصول كتابه الرائع «مختارات من أدب الحوار فى الإسلام للصف الثالث الثانوى بمصر (2014/2015) كتب الدكتور محمد سيد طنطاوى رحمه الله، شيخ الأزهر «اختلاف الناس وأسبابه» عنوانا لذلك الفصل، ثم أورد الآية الكريمة "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين» (هود الآية 118).
لقد استلهم واضعو الدستور المصرى عام 2014 الذى ألغى بالتعديل الدستور الإسلامى الذى أعلن فى ديسمبر 2012 بعد أن انتخب محمد مرسى رئيسا (أى وضعوا العربة أمام الحصان) استلهم فى أحكامه وثيقة الأزهر المسماة بوثيقة مستقبل مصر (19 مايو 2011) وأول مبادئها دعم تأسيس الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة.. وهذا هو الرد على أمثال الجهاديين الجاهلين بالشريعة الإسلامية أمثال برنارد لويس وهو ما أكتب فيه الآن كتابا بالإنجليزية، تحت عنوان الثورة الإسلامية الدينية الجديدة - أصول الإسلام كمبادئ ومعاملات.. وصدق من قال «إن الدين المعاملة» - وصدق عمر حين قال مقتبساً من على بن أبى طالب رضى الله عنه «البينة على من ادعى» وهذا هو ما ندعيه، وما لن تكلفون بالدفاع عنه بالحجة الدامغة.