رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


عبدالناصر «وطاقيـــة» الفـــلاح

21-7-2017 | 14:58


 بقلم – مجدى سبلة

سمعت من أهالينا أن الرئيس عبدالناصر عندما جاء لزيارة دمياط سنة ٥٤ استقبلته الجماهير عند محطة القطار، وعندما هبط وركب سيارة مكشوفة للتجول فى المحافظة تدافع الفلاحون نحو سيارته، قاصدين مصافحته ولم يتمكنوا، فسقطت «طاقية» أحد الفلاحين المندفعين نحوه فى السيارة المكشوفة التى كان يركبها ناصر وبجواره صلاح سالم وعبدالحكيم عامر، فقرر الزعيم أن تتوقف السيارة وأمسك بالطاقية وأعطاها لصاحبها وقبل رأسه مصافحا إياه.

من هذا المشهد الذى لا ينساه الدمايطة عرف الفلاح المصرى قيمته عند الرئيس عبدالناصر وعرف أن ناصر واحد من هذا الشعب، أتى ليرفع كرامة الفلاح التى كانت مهمشة قبل ثورة ٢٣ يوليو، وتظل هذه الواقعة قصة مأثورة يحكيها الفلاحون الدمايطة حتى الآن، ليبقى عبدالناصر الغائب الحاضر فى ذاكرة الفلاح المصري، وليصبح الأمر عند شريحة كبرى من المصريين أنه كلما مر الزمن، تصدق مقولة الأستاذ هيكل بأن يكون الحكم لصالح عبدالناصر ومبادئه.

ورغم مرور ٦٥ عامًا على ثورة يوليو، إلا أن الفلاحين فى مصر مازالوا يعلقون صورة ناصر الزعيم فى منازلهم، لدرجة أنه أثناء ثورة يناير ٢٠١١ تم رفع صورة الزعيم عبدالناصر فى ميدان التحرير، وتجاورت صورته مع صورة الرئيس عبدالفتاح السيسى فى ثورة ٣٠ يونيه.

ولم ينس الشعب المصرى أبدا تلك الأسباب السياسية لثورة ٢٣ يوليو، والتى كان أولها فساد الحكم الذى امتص الشعب، وانتشار الفقر والجهل والمرض أيام الحكم الملكى والاحتلال البريطاني، خاصة بين الفلاحين، بعد القضاء على الإقطاع الذى استعبدهم، فجاء ناصر بتحديد الملكية الزراعية وتوزيع الأراضى على الفلاحين من خلال قانون الإصلاح الزراعي، بواقع ٥ أفدنة لكل فلاح.

وهناك شهادة للمثقفة الدمياطية المولد المنوفية الأب الدكتورة عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ) تقول فيها إنها - باعتبارها مفكرة إسلامية ورغم التحليلات العربية والأجنبية- كانت تميل لعبد الناصر، حيث وقفت بنت الشاطئ مع ناصر وفلاحى مصر باعتبارها فلاحة مصرية والدها من شبرا نجوم وأمها دمياطية المنشأ، حيث كتبت وهى بعد صبية لم تبلغ الـ ٢٠ عامًا عن الفلاح والريف المصرى قائلة «لقد نجح عبدالناصر فيما فشل فيه عرابى وسعد زغلول فى محاولة ثالثة مع الشعب المصري، مع قائد ولد من صلب هذا الشعب هو جمال عبدالناصر»، وهى شهادة صادقة فى إنصاف ناصر مع فلاحى مصر.

وهو الأمر الذى زاد من عداء الغرب لعبدالناصر الذى أثبت يوما بعد يوم أنه كان يسير على مبادئ وأهداف وطنية صحيحة وسليمة، تصب فى خانة الشعب، وأنه كان قائدًا نجح فى استرداد الكرامة لشعبه المصرى الذى حرم منها لسنوات، ولم يضع اعتباراً لأىبلاد معادية فى ذلك الوقت، ودفع بحماس الشعب معه إلى ثورة للتخلص من الاستعمار والعبودية والألقاب والفساد الذى كان يعمّ البلاد فى ذلك الوقت.

ورغم مبادئ الثورة التى نقلت مصر من الحكم الأجنبى الاستبدادى إلى حكم الشعب، إلا أننا لا بد أن نفرق بين الأفكار الحقيقية التى رسخ لها ناصر والتى كان يعمل عليها بنفسه، والأفكار التى تخرج من الممارسة السياسية للأحزاب التى تعبر عن الناصرية، بداية من الاتحاد الاشتراكى إلى باقى الأحزاب الناصرية التى لا تنقل الصورة الحقيقية لعبدالناصر.

ومازالت فكرة إيمان عبدالناصر بالمواطن المصرى وضرورة إعادة هذا الشعب إلى حقيقته، ورفع الظلم عنه راسخة لدى الشعب المصري، لدرجة أنها مسألة لا يمكن التشكيك فيها، وأكبر دليل على ذلك تدريس هذه الاستراتيجيات فى الكلية الحربية، مما يؤكد أنها عوامل ومظاهر تدل على أن ناصر كان لديه فكر متكامل ونظرة عميقة فى الوطنية والهوية المصرية.

وبالرغم من الواقع السياسى للأحزاب الناصرية سواء المصرية أو العربية، لا يمكن أن تكون هذه مسئولية عبدالناصر نفسه، والدفاع عن ناصر لا يمكن أن يكون من خلال هذه الأحزاب، وما يصدر عن هذه الأحزاب لا يمكن أن يلقى فى ملعب عبدالناصر، حتى من بعض الأحزاب القومية فى المنطقة العربية أو حتى من الأفراد الذين ينتمون لعبد الناصر فى الوطن العربي، حتى إن الناصرية من حيث العدد أصبحت موجات تقل بشكل ملحوظ، ولها انحسار واضح لأكثر من سبب.. أولها المزايدون الذين لم يعد يسمعهم أحد؛ علاوة على تراجع فكرة القومية بسبب الحالة التى تمر بها المنطقة العربية هذه الآونة، والدور الضعيف للجامعة العربية، فأصبحت كلها عوامل تقلص أعداد الممارسين للفكر الناصري.

أما الفكر الناصرى الحقيقى فيمكن أن ينتعش ويتجدد كفكر قومى مصرى عظيم، بدليل الرؤية التى كتبها الدكتور لويس عوض عن إشارات لفكرة القومية، واستناده لمقولة نابليون لمحمد على عندما قال «الحل الوحيد للعرب أن يكونوا وحدة واحدة»، الأمر الذى يؤكد أن فكر عبدالناصر كان يستند إلى عمق استراتيجى فى فكرة القومية التى سبقه إليها نابليون، وهو القائد العظيم صاحب الرؤية القومية العميقة.. كانت أسباب ٢٣ يوليو قادرة على تحريك الحجر، لذا خرج الشعب المصرى مؤيدًا ومساندًا للضباط الأحرار الذين رفضوا أن يتحمل المصريون الفقر والجهل والمرض تحت الاحتلال البريطانى، وفساد الحكم الذى كان يقصر السلطة على عدد من الفاسدين وأصحاب رءوس الأموال، وحرمان الفلاحين من تملك الأراضى الزراعية، علاوة على تدهور حالة الجيش وقتها، الأمر الذى لم يعد يتحمله ضباط الجيش، فكعادتهم دائمًا يختارون صف الشعب ويعلنون الشهادة والتضحية من أجله، وهو ما رأيناه جليا فى ٢٣ يوليو عام ١٩٥٢ وهو ما نراه الآن واضحًا فى تصدى الجيش المصرى لموجات الإرهاب التى تضرب مصر بدون توقف منذ ٧ سنوات، لم يمر خلالها يوم دون سقوط شهيد من صفوف الجيش المصرى العظيم.

والشهادة والموت والاعتقال كان هو مصير الضباط الأحرار فى ثورة ٢٣ يوليو، عندما طلب الملك فاروق عقد اجتماع عاجل للضباط فى قصر القبة قبل انطلاق ثورة ٢٣ يوليو بساعات، وكان الهدف هو اعتقالهم ورميهم بالرصاص.

كان سوء توزيع الثروات وغياب العدالة الاجتماعية أحد أسباب ثورة ٢٣ يوليو، بعد أن وصل الأمر إلى حد لم يعد يتحمله أى مصري، وحملت المبادئ التى رفعها عبدالناصر قيمًا تعبر عن الحالة المصرية وقتها، أولها القضاء على المستعمر وأعوانه وهو ما تحقق باتفاقية الجلاء بين مصر وبريطانيا سنة ١٩٥٤.

كما كان مبدأ القضاء على الإقطاع مطلبًا شعبيًا وقد تحقق أيضا مع قانون الإصلاح الزراعى والقضاء على سيطرة رأس المال على الحكم، وتأميم قناة السويس وتمصير البنوك والشركات، وإقامة عدالة اجتماعية، وإلغاء الرتب المدنية وتعظيم قوانين العمل احترامًا للعامل المصرى الذى لعب دورًا كبيرًا فى هذه الثورة المجيدة، مع البدء فى إقامة جيش وطنى قوي، وحياة ديمقراطية ممثلة فى الأحزاب السياسية، وإن كان هذا هو المبدأ الوحيد الذى لم يرَ النور وفشلت الثورة فى تحقيقه.

لم تقف ثورة يوليو عند هذه المبادئ، ونجحت بالفعل فى إصدار قوانين الإصلاح الزراعى وعقد اتفاقية الجلاء وإقامة وحدة مع سوريا وبناء السد العالى وتأميم القناة رغم أنف الغرب، ومساندة معظم حركات التحرر الوطنى فى البلدان العربية، بالإضافة إلى بناء عدد من الصناعات الثقيلة، لذا ستظل ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ واحدة من أهم الثورات فى تاريخ مصر، حيث غيّرت وجه الحياة فى مصر، ورسمت ملامح الحياة على وجه مصر والوطن العربى؛ معلنة انتهاء حكم المستعمر، كما خلقت بيئة ملائمة للإبداع والمبدعين، مكّنتهم من تجسيد نجاحات هذه الثورة بشكل كبير..

مازالت طفولتى تحمل مشاهد لقائد هذه الثورة عندما وجدت الفلاحين يحملون المذياع «الراديو» الخشبى الكبير ويضعونه فى أراضى القطن وسط «الأنفار» أو على جسور الغيطان، كى يسمعوا خطاب عبدالناصر أثناء جنى محصول القطن.

وكان يوما مشهودًا عندما ذاع نفس هذا المذياع خبر وفاة عبدالناصر لنشاهد رجالا كبارا يبكون ونحن أطفال، ولم تخرج هذه المشاهدات حتى الآن من ذاكرتنا رغم ما مر عليها من سنوات، عندما حمل الفلاحون «الراديو» وخرجوا من الأراضى ليتواروا فى ظل الأشجار؛ لنسمع عويلهم كأنهم فقدوا عزيزا لديهم.. هذا هو عبدالناصر فى حياة المصريين وفى ذاكرة الوطن.