الإبداع التشكيلى المصرى في أكثر من قرن .. مع التمرد .. مع الوطن
محمد كمال
أظل دائماً على يقين راسخ لايشوبه ريب أن هناك رباطاً عتيداً بين الإبداع المصرى وسياقه الوطنى على الأصعدة السياسية والإجتماعية والثقافية ، حيث تبقى تلك الكيانات المتصلة فى حالة تعاشق طوال الوقت .. ومن يدقق فى نسيجنا التاريخى سيجد أن ثمة علاقة طردية تجمعها بتوافق لاينفك فى حالتى الصعود والهبوط على الخط البيانى للإرادة المصرية بين الإرتقاء والإنبطاح .. فإذا نظرنا إلى القرن العشرين كعينة تطبيقية للتقييم ، سنجد أنفسنا أمام مطالع العقد الثانى منه وقتما تخرجت أول دفعة من مدرسة الفنون الجميلة عام 1911م ، وهو الكيان الذى أسسه الأمير يوسف كمال عام 1908م ، وكان من أبرز هؤلاء محمود مختار وراغب عياد ومحمد حسن وغيرهم ممن دشنوا تاريخ الحركة التشكيلية المصرية المعاصرة ، ساعين إلى ربطها بالفعل الوطنى الموازى .. ورغم أن الدراسة الأكاديمية آنذاك تولاها مجموعة من الأوروبيين مثل " باولو فورشيلا " فى التصوير ، و " لابلان " فى النحت ، و " كولون " فى الزخرفة ، و " بيرون " فى العمارة " ، إلا أن التراث المصرى كان يلح على بعض طلبة هذه الدفعة وماتلاها على المستويين الإبداعى والثورى كضفيرة واحدة .. وبعد فرض الحماية البريطانية على مصر عام 1914م إزداد حماس المصريين واشتعلت إرادتهم حتى اندلعت ثورة 1919م بعد خمس سنوات من الوصاية .. ولم يكن الفعل التشكيلى بمنأى عن هذه النيران الداخلية والخارجية ، حيث انطلقت درر محمود مختار ( 1891م _ 1934م ) النحتية فى سياقها الثورى ، وعلى رأسها تمثال " نهضة مصر " الذى فاز بالميدالية الذهبية فى صالون باريس عام 1920م ، قبل أن يكتتب لتأسيسه ميدانياً على المستوى الشعبى من العامل والفلاح والطفل ، ليفتتحه الملك فؤاد الأول فى العشرين من مايو عام 1928م ، معلناً عن إحدى جواهر الفن التشكيلى المصرى المعاصر التى مازالت راسخة وفاعلة فى الوجدان الشعبى حتى الآن ، إنطلاقاً من حقبة زمنية كان سيدها الإرتقاء الإنسانى فى مواجهة الإنبطاح .. وفى نفس السياق التاريخى يبدأ الفنان محمد ناجى ( 1888م _ 1956م ) جداريته " موكب إيزيس " أو " نهضة مصر " _ لاحظ تشابه الإسم مع تمثال محمود مختار _ عام 1919م ، والتى اقتناها مجلس الشيوخ عام 1922م بعد أن أتمها قبل هذا التاريخ بعام ، وفيها حشد رموزاً من التركيبة الشعبية المصرية بين عمال وفلاحين تغلفهم روح الثورة التى كانت سائدة آنذاك كما أسلفنا ، كرباط عتيد بين الإبداع وسياقه الوطنى والبيئى ، الأمر الذى يمنحه الإنتماء والخلود والبقاء فى سوق الفن ، حيث يتلهف المقتنون على شراء كل ماهو أصيل ينبت فى أزمنة الإرتقاء ، وإقصاء المزيف المتسلق فى أوقات الإنبطاح .
وإن كنا قد أشرنا هنا لنموذجين فى تلك الفترة ، إنما للتدليل فقط على مناخ عام تميز بروح العزيمة والإرادة الوطنية والإبداعية الخالصة ، وهو ماشهد إنجازات مهمة لمبدعين آخرين ، مثل يوسف كامل وراغب عياد ومحمود سعيد وغيرهم ممن تشبعوا بالرغبة فى نحت ملمح فنى يحمل السمات المصرية المنتمية لتاريخ وجغرافيا وعقيدة شديدة التفرد .
ومع حلول عام 1936م كانت تلك المعاهدة الإستسلامية مع الإنجليز ، والتى أصابت الروح الوطنية بالإحباط ، علاوة على الأزمة الإقتصادية الطاحنة وقتذاك ، وهو ماأثر سلباً على حالة الرباط بين الإبداع وسياقه ؛ فظهرت توجهات إنفعالية معاكسة تمثلت فى ظهور جماعة " الفن والحرية " التى تبنت مبادىء القطيعة مع التراث والماضى بشكل عام ، عبر رموزها جورج حنين ورمسيس يونان وكامل التلمسانى وفؤاد كامل وغيرهم ، إرتكاناً منهم إلى أن الإبداع لحظات منفصلة بذاتها ، وأن الواقع المرئى يخفى وراءه عالماً سوريالياً مغايراً ، رغم معاداة أعضاء الجماعة للطبقات الأرستقراطية والقيادة السياسية المتمثلة آنذاك فى إسماعيل صدقى وحكومته ، وأيضاً الفن الراسخ بضوابطه المعهودة ، الأمر الذى تجسد داخل بيانهم الشهير فى ديسمبر عام 1938م .. والمدهش هنا أن الجماعة لم تقم سوى خمسة معارض حتى عام 1945م عندما تشتتوا لأنهم من وجهة نظرى كانوا يسبحون ضد تيار الإبداع المصري القائم على الرباط المتين بين الإبداع ومحيطه البيئى بكل روافده ، بما يشكل حالة من الإنبطاح الثقافى الذى ينأى بأصحابة عن سلم الإرتقاء والإلتحاف بالجماهير ، لذا فإن البوصلة الفطرية عدّلت من إتجاه حركة الفن ثانية مع ازدياد موجات المد الثورى ضد الإنجليز والقصر الملكى ، وهو ماتجسد على سبيل المثال فى أحداث كوبرى عباس وتمهيداتها وتوابعها خلال شهر فبراير عام 1946م ، وهو نفس العام الذى تأسست فيه جماعة " الفن المعاصر " بقيادة الفنان حسين يوسف أمين لتلاميذه حامد ندا وعبد الهادى الجزار وسمير رافع وماهر رائف وإبراهيم مسعودة ، والذين وجهوا بوصلتهم الإبداعية صوب الطبقات الشعبية المصرية ، عبر رغبة فى الكشف عن كوامنها وتصديرها إلى منجزهم الفنى بغلاف من الوعى التراثى ، وهو ضد ماذهبت إليه جماعة " الفن والحرية " كما أشرنا سالفاً ، رغم وجود التمرد على المألوف كقاسم مشترك بين الجماعتين .. وفى نفس العام تبرز جماعة " الفن الحديث " بفرسانها محمد حامد عويس وعز الدين حمودة وزينب عبد الحميد وجاذبية سرى وغيرهم ممن وجهوا جل طاقتهم الإبداعية نحو دفء الأرض وأحلام البشر وتراث الوطن ، لذا فقد استمرت جماعتا " الفن المعاصر " و " الفن الحديث " لما بعد قيام ثورة يوليو 1952م ، بل كان لأعضائهما دور كبير فى صياغة المشهد الثورى بفلاحينه وعماله وشبابه وأطفاله ونسائه إبان عبور مصر إلى سياق شعبى جديد تتسيده العدالة والثورية فى القول والعمل ، علاوة على فنانين آخرين مثل إنجى أفلاطون ويوسف سيدة وجمال السجينى ؛ فلمعت أعمال لهؤلاء الفنانين بعد أن انصهرت فى بنيانها مع الصانع والزارع بكل تجلياتهما الإنسانية والوطنية التى كانت بمثابة إشارة الخلود فى الوجدان الشعبى والذاكرة التاريخية للحركة التشكيلية المصرية .. وهنا نجد أنفسنا أمام حتمية فلسفية مفادها أن العمل الإبداعى يرتوى دائماً من مثلث البقاء المكون من الزمان والمكان والعقيدة ، وماهو خارج ذلك يكون معرضاً للفناء السريع مهما ارتفعت درجة تمكنه التقنى .
وحتى مع أزمة الهزيمة القاسية عام 1967م كان طوق النجاه للإبداع التشكيلى المصرى هو حفاظه على الرباط مع ظرفه الوطنى الذى تمثل فى أعمال أحمد نوار وحازم فتح الله ومصطفى عبد المعطى وعبد الرحمن النشار وغيرهم ممن اشتعل حماسهم ولهفتهم على وطن ينزف من جرح عميق .. ومع نصر أكتوبر 1973م يتقدم المشهد فنانون هيأ الظرف أعمالهم للخلود مثل محمود عفيفى ويوسف سيدة وحسن حشمت ، إضافة لعويس وندا والسجينى .. واللافت هنا أنه فى حالتى الهزيمة والنصر كان المنجز الإبداعى لفنانى مصر ساكناً فى رحم الخلود لاحتفاظه بالحبل السرى مع تراثه وسياقه البيئى والوطنى .
ورغم انشغال مصر بتطهير سيناء من الدنس الصهيونى الذى انتهى بنصر مبين ، إلا أن المشروع القومى كان بعافيته حتى مابعد انتهاء الحرب ، ليبدأ ظهور فنانين من أجيال تالية بقوة الدفع الذاتى ، وكان منهم لأول مرة عدد من أقاليم مصر خارج سطوة العاصمة ، وبدت أعمالهم مرتبطة بالأرض وتاريخها وعقيدتها ، مثل بدوى سعفان وشاكر المعداوى وعصمت داوستاشى ومحمد شاكر ومصطفى عبد الوهاب وسعد زغلول ومصطفى مشعل ومصطفى بط والسيد عبده سليم وحسن غنيم وصلاح عنانى وغيرهم ممن سقوا مشاريعهم الإبداعية من النهر الفيّاض للمرحلة السابقة التى تميزت بالإرتقاء ومخاصمة الإنبطاح .
وظل الحال بنفس الوتيرة حتى أواخر الثمانينيات التى شهدت تطورات سياسية غريبة على الشعب المصرى مثل تعاظم قوة التيار الدينى المتطرف بعد اغتياله للرئيس أنور السادات فى السادس من أكتوبر عام 1981م ، وهو نفس يوم انتصاره مع جيشه فى حرب أكتوبر 1973م .. ولاننسى معاهدة السلام مع العدو الصهيونى التى خلقت نكوصاً ولغطاً كبيراً بين جموع الشعب ، سيما المثقين والمبدعين .. وفى المقابل تسلم فاروق حسنى حقيبة وزارة الثقافة عام 1987م ، لينطلق عهد جديد للحركة التشكيلية المصرية ، كان أبرز مافيه آنذاك هو تأسيس ماسمى ب " صالون الشباب " عام 1989م الذى فتح لشباب الفنانين حتى سن 35 سنة ، وفيه تم الإغداق بالجوائز السخية دون سند معرفى كاف لتكوين مشروع إبداعى مبنى بتدرج مثل الفنانين الذين أشرنا إليهم سلفاً ؛ فتصاعدت التجاوزات باسم حرية الفكر والإبداع ، ووصلت إلى حد جلب الجثث من المقابر ، مروراً بلملمة النفايات من الشوارع ، ونهاية بجمع حجارة الطرق تحت مسمى النحت ، وكله تحت مظلة التجريب والإطاحة بكل مقومات الإبداع الرصين المنتمى المهيأ للخلود ، وذلك بتحريض من قيادات رسمية كانت على قمة العمل الوزارى الرسمى ، مع الأخذ فى الإعتبار وجود بعض التجارب الجادة التى استمرت فى بناء مشروعها حتى الآن ، لكنها قليلة بالنسبة لتجارب أخرى شابها النبض المتقطع .
وتستمر المسيرة على هذا النحو ، مع استثناءات مبشرة مثل سمبوزيوم النحت الدولى بأسوان الذى تأسس عام 1997م ، وسمبوزيوم الأقصر الدولى لفن التصوير بالأقصر الذى دشن عام 2008م ، وهو ماأعلن عن بشرى الرجوع إلى حضن الجذور الحضارية المصرية مرة أخرى ، علاوة على عودة بعض المهرجانات النوعية مثل مهرجان الجرافيك القومى الثالث عام 2005م .. واستمر هذا الفعل الترددى حتى قيام ثورة 25 يناير 2011م التى كانت بمثابة زلزال رجرج معمار النظام السياسى وقتذاك ، قبل أن يعاود التيار الدينى المتطرف إطلالته من جحوره كالثعابين السامة ثانية ، طمعاً فى سرقة مصر بكل تاريخها وجغرافيتها وثقافتها ، وهو مااستنفر الوجدان الشعبى فى ثورة 30 يونيو 2013م ليدافع عن تراثه العريق فى مواجهة التتار الجدد ، لذا فإن ظنى هنا أن الحركة التشكيلية المصرية تحاول الآن لملمة عزيمتها وإرادتها مرة أخرى من أجل العودة إلى حالة المشروع الإبداعى الفردى الذى يصب فى مثيله الجمعى .. ورغم الأزمات الإقتصادية والإجتماعية المتتابعة التى يمر بها الوطن الآن ، إلا أننى أرى أن العافية الوجدانية والروحية فى طريقها للإنتعاش والإرتباط مجدداً بالأرض والتاريخ ولغة المعتقد النقية المفتوحة على براءة المصريين الذين يقررون كل حين من الدهر أن يصدحوا بالموال الباعث على الإرتقاء فى مواجهة الإنبطاح .