قراءة فى أغانى النكسة «الثالثة»:الرقابة ترفض "عدى النهار" وعبد الناصر يطلب إعادتها!
كتب : محمد دياب
كان عبد الحليم هو صوت ثورة يوليو ، كلف أيضا بأن يكون صوت المعركة في حرب الخامس من يونيه 1967 ، قام عبد الحليم بدوره على أكمل وجه ، ولم تكن الخسارة على الجبهة مسئوليته وإن حملوه إياها هو وغيره من المطربين ، هل كان مطلوبا منه أن ينسحب من المشهد ووطنه في حالة حرب ، وهل كان مطلوبا منه أن يقول في أغانيه قبل المعركة وخلالها، إننا سننهزم ، وهل كان هو وغيره من الفنانين على أضطلاع بما يدور على الجبهة ، الجواب بالتأكيد هو: لا.
لم يكتف عبد الحليم فقط بتقديم الاناشيد والاغاني الحماسية بل قدم بصوته رسائل موجهة إلى الجنود على الجبهة تشعل فيهم الحماس، من خلال إذاعة "صوت العرب" تحت عنوان "رسائل النصر" ، كانت الإذاعة تعيد بثها مع أغاني حليم والبيانات العسكرية ، كتب نص تلك الرسائل وعددها ثلاث ، الشاعر محمود إسماعيل جاد مؤلف ملحمة "أدهم الشرقاوي" التي غناها محمد رشدي.
تبدأ الرسائل بصوت الإذاعي أحمد سعيد وهو يقول في مقدمتها:"من صوت كل العرب الي جندي كل العرب ، عبد الحليم حافظ يقدم رسالة النصر"، ثم يدخل صوت حليم بمقطع من أغنية إنذار وهو يقول : "من كل عود غلة في مزارع الثوار إنذار إنذار من كل قارب صيد من كل عتبة دار" ، ثم يدخل صوت حليم يقول في رسالته الأولى :" لو شالكم صوتي النجوم وزرقة البحر البعيد وليونة النسمة ، لو شالكم صوتي القمر وغنوة الكروان من قلب الشجر ، إنتم قلوبكم شايلة فيها كل شئ الشمس والأزهار وراحة الشقيان وشايلة سفرة للفقير ونسمة للتعبان ايدكوا شايلة للي عمره بيندفن شباب بيرجع كر ، على جسر الزمن ، للي اندفن حلمه في اكوام الرمال ، حارة وسكن حقل ووطن ، سامعني يا اخواتي الجنود يارايات على أطراف الحدود ،لإديكم سلمنا الوطن" عبد الحليم حافظ " .
ظلت هذه الرسائل طي النسيان لعقود في مكتبة الإذاعة، حتى نفض عنها الغبار وأعادها الي الحياة الاذاعي والباحث إبراهيم حنفي من خلال برنامجه "منتهى الطرب" قبل أعوام قليلة عبر "إذاعة الأغاني" ، ونتمنى عليه أن يبعث من جديد رسائل مماثلة سجلتها ام كلثوم في الفترة نفسها موجهة الي الجنود على الجبهة من خلال إذاعة "الشرق الاوسط" ورسائل سجلت بأصوات مشاهير الفنانين وقتها. يقول حليم في رسالتة الثانية :" أكرههم اللي خلوني عليكوا بخاف وانتوا عالرمل أنا بكرههم ، قد مابكرههم بكره لو عدتم من غير أفرولكم مايتغرق بدماههم، بكرههم قد ما أحب الحب ، بكرههم قد ما أحب الغنوة اللي تعدي من شط لشط، ومن قلب لقب، بكرههم قد سلاحكم مابيكرههم، فجار العالم تجار الدم ديابة الغابة العصرية والقرن العشرين ، بكرههم قد ما أحب الخلق تعيش في سلام بكرههم قد ما أحب بلدنا والنيل والنسمة في الصيف والمواويل في الليل عشاق ، بكرههم قد ما أكره النار والموت والضلمة بكرههم قد ما أحب الفجر في ساعة الطرح ، وياريتني كنت في خندقكم بسلاح وأحس صحيح إن أنا بكرههم زي ما كارهين هما إن يطلع فلسطين الحقيقية صباح ".
سجلت الرسائل الثلاث في الثاني من يونيه وأذيعت تباعا لمرات عديدة ، ويقول حليم في رسالته الثالثة والأخيرة من رسائل النصر: " أخواتي العسكر أخواتي الزراع العمال التجار، في كل مكان في الوطن العربي مش بس في مصر، دلوقت وكل بلادنا العربية في خط النار الماكينة خط نار، عود القطن في غيطه سلاح على خط النار ، المنجم البترول اللي بيغلي في قلب الآبار خط النار ، السوق المدرسة البيت الدكان كل مكان ميدان كله أيادي ، وكل الدنيا العربية دلوقتي سلاح ، إنت بسلاحك وانا بسلاحي إنت بسلاحك وانا بالكلمة ،كل الوطن العربي دلوقتي حدود، كل الشعب العربي جنود ، الحرب ماهيش بس سلاحها مدافع ، العلم الفن البترول سنابل القمح ثياب القطن، الحرب خنادق وعيون وسلاح وغيطان ومصانع، قدامكم أرض فلسطين ، ووراكم إنسانها المزروع في الريح بين الأرض وبين الانسان ، الحق الضايع والنصر لكم والمجد والشمس اللي هتضحك في جبين الغد".
انهيار عبد الحليم بعدما علمه بخبر الهزيمة
مساء يوم يوم السادس من يونيه وبينما كان حليم يسجل في الاستديو أغنية " إبنك يقولك يابطل هاتلي نهار/ ابنك يقولك يابطل هاتلي انتصار " من كلمات الابنودي وألحان الطويل دخل كل من مجدي العمروسي وعبد الرحمن الأبنودي ووجدي الحكيم مكتب الإذاعي أحمد سعيد فوجدوا وجهه مكفهرا وسألوه:" فيه إيه ؟ " فأشار لهم بيديه بأن الامور على الجبهة ليست على مايرام ، فذهبوا جميعا لحليم في الاستديو وقال له العمروسي :" ياعبد الحليم مافيش داعي تتعب نفسك خلاص مصر انهزمت كفاية وبطل تسجيل" ، صرخ فيهم حليم غير مصدق وطردهم خارج الاستديو ، وأغلق بابه واستمر في التسجيل " ابنك يقول أنا حواليا الميت مليون العربية / ولا مافيش مكان للأمريكان بين الديار" حتى سقط على ارض الاستديو مصابا بنزيف ، حسب رواية مجدي العمروسي في كتاب "أعز الناس" وعلى الارجح ان سقوط حليم كان بسبب الاجهاد والاعياء لا النزيف لانه لو كان اصيب بنزيف لكان نقل الي المستشفي ولما تمكن في اليوم التالي من تسجيل أغنية "بالدم" حسب ماهو مدون على الاشرطة الاذاعية .
في التاسع من يونيه وبعد خطاب التنحي الذي اعترف خلاله الزعيم بالهزيمة ، كان حليم في بيته يشاهد الخطاب في التليفزيون بصحبة كمال الطويل والابنودي وبليغ حمدي ومجدي العمروسي وآخرين ، وبعد انتهاء الخطاب نزل الجميع واستقلوا سيارة حليم متوجهين الي منزل ناصر في منشية البكري كما ملايين الجموع مطالبين الزعيم بالعدول عن قراره بالتنحي ، وكاد حليم ورفاقه يهلكوا بسبب زحام الجموع، لولا مهارة سائق حليم وتمكنه من الدخول في شوارع جانبية بالقرب من جامعة عين شمس ، وفي اليوم التالي كان حليم واقفا في الاستديو يسجل أغنية جديدة يطالب فيها الزعيم بالعدول عن قرار التنحي ، أغنية كتبت ولحنت في أقل من اربع وعشرين ساعة كما كل أغاني المعركة ، وضع اللحن كمال الطويل لكن هذه المرة كتبها الشاعر صلاح جاهين ، وغنى حليم : "ناصر ياحرية ناصر ياوطنية/ ياروح الأمة العربية ياناصر"، مطالبا ناصر بالعدول عن قرار التنحي قوله :" الشعب يريدك يا حياته / ياموصل موكبه لغاياته / وحياة المصحف وآياته /اسمك في قلوبنا أغنية" .وكانت هذه آخر أغنية يكتبها جاهين لحليم ،وآخر تعاون يجمع الثلاثي حليم والطويل وجاهين ، اعتزل بعدها الطويل التلحين لستة أعوام وعاد مجددا لصوت حليم مع انتصار أكتوبر 1973.
موال النهار أيقونة النكسة !
بعد أسابيع وفي الشهر التالي يوليو حلت الذكرى الخامسة عشرة لثورة يوليو وطلب حليم من الأبنودي كتابة أغنية وطنية للمناسبة واشترط الابنودي على حليم أن تتضمن الاغنية الجديدة اعترافا بالهزيمة ، والا سيقول الناس إننا خدعناهم بما قدمنا من أغنيات خلال المعركة التى كنا نؤكد فيها على أننا سننتصر لا محالة ،وكانت الصحف وقتها شنت هجوما ضاريا على الأغاني التي قدمت خلال المعركة ، وافق عبد الحليم على الفكرة ،غير أن الابنودي أكد له " الجماعة دول مش هيسيبونا نقول اننا اتهزمنا" ،
وهكذا خرجت للنور الأغنية التي أصبحت أيقونة لنكسة يونيه أغنية "موال النهار" التي اعترف الأبنودي في حوار تليفزيوني أنه كتبها قبل النكسة بأربعة أعوام وقدمها بصوته ضمن برنامج إذاعي حمل عنوان "مايطلبه العمال" كان يقدمه كامل البيطار، وأن القصائد التي قدمها خلال البرنامج جمعها وضمها فيما بعد في ديوان "عماليات" .
دهش حليم عندما اخبره الابنودي بالامر وطلب منه إخفاءه خوفا عليه من الحسد ،وشرع بليغ في تلحينها ، ظل حليم لثلاث ليال يحلم أنه يرتدى جلباب أبيض والشباب يحملونه على أكتافهم في ميدان التحرير وهو يغني "عدى النهار" ، وظل حليم يحث بليغ على إكمال تلحين الاغنية والاخير يتوقف عند شطرة " ياهل ترى الليل الحزين أبو النجوم الدبلانين يقدر ينسيها الصباح ابو شمس بترش الحنين" ، ويطلب بليغ من الابنودي اضافة شطرة جديدة بعد "أبو النجوم الدبلانين" والابنودي يفكر وحليم يتدخل ويضع الشطرة بفطرة وذكاء من فنان كبير ويقول "أبو الغناوي المجروحين" مش ده كلامك ياعبد الرحمن ، وبليغ يقفز فرحا بالشطرة الجديدة التي ستزن اللحن كما وضعه ،وفوجئ الثلاثة بعد الانتهاء من الاغنية بلجنة النصوص في الاذاعة ترفضها ،وتستهجن عبارات وردت فيها مثل "وبلدنا عالترعة بتغسل شعرها" ، ليس هذا وحسب بل أبدوا تخوفهم من غضب عبد الناصر من جملة "جانا نهار ماقدرشي يدفع مهرها" ، و تدخل المدير الجديد لاذاعة صوت العرب الاذاعي محمد عروق الذي حل مكان أحمد سعيد حسب رواية الشاعر عبد الرحمن الابنودي في سهرة تليفزيونية - وطلب عروق أن تسجل الاغنية على مسئوليته الخاصة ، وسجلت بالفعل في الثاني والعشرين من يوليو، بعد أن قام بتوزيعها موسيقيا الموسيقار عبد الحليم نويرة ، وأذيعت للمرة الاولى في اليوم التالي، الثالث والعشرين من يوليو عيد الثورة الخامس عشر وبعد ساعتين من إذاعتها فوجئ محمد عروق بالرئيس جمال عبد الناصر يتصل به في مكتبه ويطلب منه أعادة أذاعة الأغنية مرة أخرى!.
لقد نالت الاغنية إعجاب عبد الناصر عكس المتوقع رغم كونها تقريبا الوحيدة التي اعترفت بالهزيمة والنكسة ، في صورة شاعرية بديعة لكنها في نصفها الثاني ترفض الهزيمة في جملة اعتراضية :" أبدا بلدنا للنهار بتحب موال النهار/ لما يعدي في الدروب ويغني قدام كل دار" . ويكمل الانبودي في ختامها :" تحلم بلدنا بالسنابل والكيزان تحلم ببكرة واللى ح يجيبه معاه / تنده عليه فى الظلمة وبتسمع نداه تصحى له من قبل الادان / تروح تقابله فى الغيطان في المتاجر فى المصانع / فى المدارس و الساحات طالعة صحبة صفوف جنود/طالعة له رجال اطفال بنات / كل الدروب واخدة بلدنا للنهار".
الطريف هو أن هذه الاغنية الاستثنائية شارك فيها عبد الحليم ليس غناء وحسب بل وشارك عازفا على آلة الأوبوا ، تلك الآلة التي درسها في المعهد العالي للموسيقى المسرحية وعمل لسنوات في فرقة الاذاعة عازفا لها قبل أن يتحول من عازف أوبوا الي مطرب شهير ، وكانت هذه آخر مرة يشارك فيها حليم بالعزف على تلك الآلة في تسجيل عمل فني .
وهكذا خرجت للنور الاغنية التي ستصبح فيما بعد عنوانا للنكسة ، وأيقونة تجب كل ما قدم من أغنيات خلال المعركة ، نختصرها في كلمتين فقط هما "عدى النهار" .
في خريف عام 1967 أحيا عبد الحليم حفلات في الكويت وفي لندن مسرح ألبرت هول ، غنى فيها "عدى النهار " وسط إستقبال جماهيري حافل ، وغنى في لندن للمرة الأولى أنشودة "المسيح" لعبد الرحمن الأبنودي وبليغ حمدى ، والحفلات هذه أقيمت لصالح اللاجئين الفلسطينيين المتضررين من عدوان 1967 .
وفي نوفمبر من العام نفسه وبعد صدور قرار مجلس الأمن رقم 242 القاضي بانسحاب إسرائيل من الاراضي التي احتلتها خلال حرب 1967 ، والاعتراف بكل دول المنطقة واحترام السيدة والحدود الاقليمية والاستقلال السياسي لكل دول المنطقة ، وهو القرار الذي قبلته مصر والأردن ، ورفضته سوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية لأنه لم يتعرض لحل المشكلة الفلسطينية .
سجل عبد الحليم وقتها نشيد "خلي السلاح صاحي" من كلمات الشاعر أحمد شفيق كامل وألحان كمال الطويل ، ولم يخرج هذا النشيد إلى النور لأسباب مجهولة ، إلا في عام 1973 وبعد عبور قواتنا لخط بارليف ، عندما نقل وقتها الي شريط إذاعي ، واحتسب على أغاني إنتصار أكتوبر ، في حين أنه ينتمى الي حرب عام 1967 ، شكلا وقالبا فهو نشيد على إيقاع المارش مكون من مقطع واحد ومدته لاتتجاوز الدقيقتين كما كل أغاني المعركة .