صفحات من كتاب عبدالحليم حافظ (5) .. اتفق مع متعهد الحفلات علي الغناء مقابل 5 جنيهات في الليلة الواحدة
أعد الكتاب للنشر : محمد المكاوي
اختار عبدالحليم لبدايته طريقين .. كمال الطويل ومحمد الموجي .. الطويل متمرد والموجي مجدد..
وطرق الفتي الأسمر باب النجاح مع الطويل فانفتحت له الأعماق الفنية واحتك بالموجي ففتحت من احتكاكيهما شرارة أضاءت للجماهير الطريق إلي صوته وفي الإذاعة اقتنع به حافظ عبدالوهاب لكن نصف اللجنة الرباعية رفضت انجاح صوت عبدالحليم إلا إذا خضع النصف الآخر «حافظ عبدالوهاب وكمال الطويل» ووقعوا علي نجاح صوت جديد اسمه «فوزي جمال» وخرج قرار اللجنة بنجاح الاثنين.
وانطلق العندليب بسرعة الضوء مع أغنيات «ظالم ولقاء وصافيني مرة وعلي قد الشوق» وركب فوزي جمال الطائرة إلي الكويت ليشتري سيارة مرسيدس وثلاجة ويستينج هاوس ليصبح واحدا من ألمع أعضاء فرقة كورال الكويت.
وغاب الطويل فترة وغاب الموجي فترات ولكن عبدالحليم استمر لأنه مطرب والمطرب الناجح كالمحارب الناجح يتخذ دائما لبداية زحفه أكثر من طريق..
ألو .. ألوه ... واحد .. اتنين .. تلاتة .. أربعة .. خمسة .. ستة محلات «محمود كاكا» الكهربائي مستعدة لتقديم خدماتها في تأجير مكبرات الصوت للأفراح والمآتم تجري بعد التجارب... ألوا ألوه واحد اتنين تلاتة!
الجدعان: عان!
المعلم توتو الفسخاني: انى!
الحاج مدبولي: أولي!
الجزماتية:تية!
وأنا وأنت: أنت!
رقصني ياجدع!
كانت كل هذه الأصوات تنبعث من فوق سطح بيت المعلم توتو الفسخاني ببولاق الذي يجلس يصافح الحاج مدبولي الجن تاجر الأحذية بمناسبة زواج نجل الأول من كريمة الثاني!
وفجأة أمسك مقدم الحفل «بتلابيب» الميكروفون ليعلن عن «الفرقة الماسية» وعلي رأسها فص الألماظ قانونجي الإذاعة الصييت الأسطي: أحمد فؤاد حسن وهو يقدم مقطوعة موسيقية بعنوان:
بوهيمية!!
وعندما انتهي أحمد فؤاد حسن وفرقته بعازفيها الاثني عشر لم يصفق أحد من المعازيم بل بدأوا في صياح منتظم منغم:
سا...نيه..سا...نيه
سا...نيه..سا...نيه
مطالبين بوصلة ثالثة للراقصة المبدعة «سنية لف ووريني» ولكن مقدم الحفل أمسك مرة أخري بتلابيب الميكروفون ليقدم مطرب العاطفة الجريح بلبل الوجه القبلي والبحري الأستاذ عبدالحليم حافظ!
وظهر عبدالحليم.. يتبعه محمد الموجي حاملا في يده عوده وعزفت الموسيقي ليغرد بإحساسه:
ظالم...
وكمان رايح تشكي
طب دانت كان حقك تبكي!
وعندما انتهي من أغنيته بدأ المعازيم تصفيقهم الإيقاعي:
سا...نيه..سا...نيه
سا...نيه..سا...نيه
ولكن عبدالحليم كان مرتبطا بالبروجرام الذي وضعه متعهد الحفلات أحمد صديق بأن يغني أغنيتين نظير خمسة جنيهات منصوص عليها في الكونتراتو فأشار حليم إلي الموجي ليدندن بلحنه الثاني:
صافيني مرة
وجافيني مرة
ولا تنسنيش كده بالمرة
وهنا قام المعلم «توتو الفسخاني» ليجذب الفنانة سنية لف ووريني ويخلع عن كتفها الشال- وهي تتمنع بدلال- ويدفع بها إلي المسرح يتابعها التصفيق لترقص علي أنغام وغناء المطرب
وصمت عبدالحليم:
وأضربت الفرقة الماسية عن العزف...
واعتبر الفسخاني ذلك إهانة بالغة له فأمسك عبدالحليم من كرافتة عنقه وفقعه «روسية» في أم رأسه وتولي باقي المعازيم أمر الفرقة الماسية وقائدها القانونجي الصييت!
ومضي أكثر من أربع وعشرين ساعة قبل أن يفيق عبدالحليم من سرير مستشفي الهلال الأحمر وقبل أن ينطق الكلمة الفلكلورية أنا فين؟!
واضطر متعهد الحفلات «محمد صديق» أن يوقف تعامله مع عبدالحليم حافظ وأن يجدد عقده من ابن خالته المطرب المحنك «عبده بونابرت» فبرغم شروطه المادية القاسية كان هو الوحيد في ذلك الوقت القادر علي إسعاد الجماهير والاندماج معها ففي معظم الأفراح التي يحيها تتطور أغانيه إلي جدل لطيف يلتحم به مع الساهرين يقول - لأحدهم- فيه المطرب العاطفي أمك تخاف من الجوافة!
ويستمر التراشق بالألفاظ ويزداد الحوار سخونة وتقوية كلمة «اشمعني» وتدخل فيه الألفاظ البذيئة فتندفع الأطراف المعنية لإنهاء المسألة في محضر صلح أمام ضابط نوباتجي قسم بولاق والقافية تعذر!
وسيبك من التوابل الصحفية التي أضفتها - أنا- علي هذه القصة الحقيقية محكوما بأصول الصنعة - واستجابة لمتطلبات المهنة في محاولتي الدائمة لجذب انتباه الناس!
وأغسل هذه السطور من تلك المبالغات التي تصيب قلبي دائما ولا أقدر علي علاجها - أو لا أريد -!
يكفينا منها أن تعزف الفرقة الماسية مقطوعة عنوانها «بوهيمية» وأن يغني عبدالحليم لحن «ظالم» في فرح فوق سطح منزل بصرف النظر عن نوعية المستمعين والنتائج الجنائية المترتبة!
تعطيك هذه الخلاصة المغسولة فكرة كبيرة عن عقلية هذا المطرب الجديد عن عناده وإصراره عن إخلاصه لفنه .. لطريق رسمه.. لفكر جديد أتي به الناس.. أراد أن يفرضه عليهم لا أن يجري وراء إرضاء شهواتهم الموسيقية.. خطته هنا.. أن يرضي نفسه... وأن يرضي ضميره الفني أن يطوع النجاح ليتبعه لا أن يجري وراء النجاح!
لقد كان عليه أن يختار بين الصدق والتفاهة بين القبلات والصفعات بين الفلوس والجوع بين القريب والبعيد فاختار الصدق والصفعات والجوع .. اختار الطريق الصعب لو كنت - أنت- مكانه في سنة 53 لكان من السهل أن يخدعك النفاق والقبلات والفلوس فالمنطق البشري يقول أنها - تلك النقود اللعينة- هي التي تحدد قيمة المطرب علي تقاطع منحني العرض مع الطلب!
ولكنه رفض النجاح السريع...
لأنه رأي أن تلك الفلوس والقبلات هي مسكنات ومخدرات جماهيرية فبعد عن النجاح الفني الأصيل وتركهم يتهمونه بأنه يقدم الغناء «الخواجاتي» بأنه يقف بعيداً عن أحاسيس الناس واحتياجاتها الموسيقية!
لقد كان عبدالحليم حافظ هو الواجهة - أو الفاترينة - التي يقف خلفها جيل كامل من الموسيقيين أحمد فؤاد حسن.. كمال الطويل.. الموجي.. علي إسماعيل.
أحمد فؤاد حسن.. اختار شكل المقطوعة الموسيقية ليقدم فيها خلاصة دراسته ومشاعره رغم أن إمكانياته الموسيقية تتيح له أن يكون أحد ملحني «الدائرة العليا» من ذوي الأرباح المجنونة ورغم أن التأليف للموسيقي البحتة أصعب من التكوين اللحني للأغنية لأنه فيها يعبر عن أفكاره بغير كلمات شارحة!
الموجي سحب أغنية «ظالم» من المطربة فاطمة علي وسحب أغنية «صافيني مرة» من الكروانة زينب عبده لكثرة ارتجالها في كلمات اللحن.. وبالرغم من أن إحداهما كانت تستقبله «بيوز» إغراء وأن الأخري كانت تعزمه علي فتة كوارع ولحمة رأس.
واختار علي إسماعيل موسيقي المسرح فبدأ جولة طويلة ليجرب فيها كافة نوعيات الموسيقي التي تدخل الإذاعة المطرية من أول موسيقي حسب الله النحاسية.. حتي ربابة بحري وسمسمية بورسعيد وجاز كباريهات الأزبكية إنه نفس الرجل الذي لحن منولوجات صفية حلمي وهو الذي قدم موسيقي مسرحية النار والزيتون!
لقد كان عبدالحليم هو أستاذ هذا الجيل .. أستاذهم في «العند»!
üüüüüüü
طبعا.. أنت عندما تسمع موسيقي أغنية دون أن يقدم لها مذيع الراديو.. يمكنك أن تتوقع اسم صاحبها... الشيخ زكريا أو السنباطي أو عبدالوهاب أو فريد أو الطويل أو الموجي أو بليغ!
الشيخ زكريا يعطيك.. موسيقي طويلة التيلة .. مريحة إلي درجة الكسل تترك فواصلها فرصة واسعة لامكانيات الصوت أن تتلاعب وتستعرض وتتدلع تخفت وتعلو .. تضيف ويرتجل.. فلا تملك حيالها إلا أن تضبط إيقاعها بحذائك وأن تصبح لها بلسانك آه ياعيني!
عبدالوهاب... اهتمامه باللحن الموسيقي أضعاف أضعاف اهتمامه بلحن الكلمة.
- وربما هذه أنانية فيه- إنه يقدم موسيقي شديدة التماسك والامتلاء يحفر فيها مساحات ضيقة للكلمات .. ويغلغلها بحملة موسيقية هي خلاصة تجربته وتجارب الآخرين! جملة تسلب عن الطرب حرية التصرف فيها جبرا وكأنه ترزي يفصل رداء محزقا .. شديد الأناقة ولكنه يجعل التنفس صعباً!
الطويل.. موسيقاه حادة عنيفة.. مباشرة وصريحة .. تصويرية يستمدها من معني الكلمة ذاتها.
تدور حولها وتلف معها.. ولكنها تخرج بعد الكثير من المعاناة والمراجعة والتكلف وبعد أن تستنزف منه كل ما لديه من إمكانيات التزويق والتزيين ورغم أن كل أغنية عنده تختلف عن الأخري تمام الاختلاف إلا أنها تحمل ملامحها لأنها بنت حلال .. لها أب واحد!
موسيقي كل هؤلاء.. يضاف إليها شيء مهم حتي لو لم تمس حروفها الموسيقية بأي تعديل أو تحريف أو إضافة أو حذف .. فإنك تضبط علي زوايا الإحساس شيئاً ما يجعلك عندما تسمع مقدمة موسيقية لأي منهم يجعلك تستطيع أن تعرف لونها موسيقي أغنية لعبدالحليم حافظ.. وعبدالحليم حافظ بالذات!
فعبدالحليم هو الوحيد.. الذي يقوم بدور المخرج للأغنية!
مخرج السينما: ليس هو صاحب القصة وليس هو صاحب الحوار.. وليس هو صاحب الموسيقي.. وليس هو المصور.. وليس هو الممثل.. ولكنه يحتوي جهود كل هؤلاء في نفسه ثم يقدمها للجمهور بإحساسه فيصبح هو صاحب الفيلم!
عبدالحليم أيضا ليس هو الشاعر.. وليس هو صاحب اللحن.. وليس هو صاحب التوزيع .. وليس هو صاحب الفرقة الموسيقية .. ولكنه يختزن في قلبه مشاعر كل هؤلاء ثم يوصلها للناس بحساسية بالغة.. فيصبح هو صاحب الأغنية!
إنه يضيف لكل عمل.. بعضا منه.. يضيف شيئا لا لون ولا طعم ولا حجم ولا رائحة ولا ملمس، يضيف شيئا لا يمكن أن تراه أو تصفه أو تعرفه لأنه شئ لا يعرفه عبدالحليم شخصياً!
إنه شخصية.. عبدالحليم!!
الأسبوع المقبل.. الفصل السادس