«ناصـر» و«عزيــز».. فـــى حــب الوطــــن
بقلم: نجوان عبد اللطيف
«سمعت أنك عائد من الولايات المتحدة بعد حصولك على الدكتوراه ونحن نريد الاستفادة من دراستك وعلمك الحديث.
نريد أن نبنى قلاعا صناعية فى مصر.. وأريدك أن تؤسس هيكلا لوزارة الصناعة المصرية، وخصصت لك مكتبا وموظفا؛ ليكون سكرتيرا أو مديرا كما تحب أن تسميه ،،
حجرة واحدة جلس أمامها موظف شاب. هى كل ما تم توفيره لتأسيس وزارة الصناعة، وبالفعل انطلقنا من هذه الغرفة؛ لكى نقفز إلى عالم التصنيع وأنشأنا آلاف المصانع.
هكذا حكى الراحل د. عزيز صدقى أبو الصناعة المصرية فى أحد حواراته الصحفية كيف اختاره جمال عبد الناصر، ليكون أول وزير للصناعة المصرية وعمره لم يتجاوز الخامسة والثلاثين، فى عام ١٩٥٦ ولينشئ ١٢٠٠ مصنع مصرى فى الخطة الخمسية الأولى، وليشرع فى استكمالها لألفى مصنع فى الخطة الخمسية الثانية
ناصر اختار عزيز صدقى الذى حصل من جامعة هارفارد الأمريكية على الدكتوراه فى التخطيط الإقليمى والتصنيع عام ١٩٥٥، ليحقق معه حلم تحويل مصر من مجتمع زراعى إلى دولة صناعية واعدة، تسير فى خطى التنمية بسرعة وثقة, عبد الناصر كانت لديه رؤية واضحة لمصر التى يريدها، كان يدرك أن قطار التنمية لن تقوده إلا الصناعة، وأن الاستعمار لا يريد لها إلا أن تتقوقع فى مجال الزراعة، تقدم له ما يحتاجه من غذاء ومواد خام وتظل عالة عليه فى كل ماتستخدمه من تكنولوجيا.
عزيز صدقى هو أحد رجال ناصر الذين تركوا بصمة حقيقية فى تاريخ مصر، اختاره ناصر ليحقق أحلام يوليو، وعمل معه صدقى لأنه آمن به وبوطنيته وبمشروعه لمصر، ناصر وصدقى وجهان لعملة واحدة. رجال أحبوا الوطن وأخلصوا.
وضوح الرؤية لعبد الناصر كان وراء نهجه الاشتراكى بعد أن خذلته قوى الرأسمالية، فى تحقيق أحلامه فى التنمية، فكانت قرارات التأميم فى أوائل الستينيات، وإنشاء مصانع القطاع العام، كان الاقتصاد المصرى متخلفا وتابعا للاحتكارات الرأسمالية الأجنبية، كان هناك حوالى ألف شخص فقط يسيطرون على كل الوظائف الأساسية فى مجالس إدارات الشركات الصناعية، بينهم حوالى ٢٥٠ مصريا فقط.
كما تشير بعض الدراسات.
وكان بنك باركليز الإنجليزى يسيطر وحده على ٥٦ ٪ من الودائع، وكان بنك مصر قد تمت السيطرة عليه من جانب رؤوس الأموال الإنجليزية والأمريكية.
وكان الاقتصاد المصرى عاجزا بسبب ارتباطه بالمصالح الأجنبية عن طريق البنوك وشركات التأمين والتجارة الخارجية فى الصادرات والواردات، وكانت كل مرافق الاقتصاد المصرى بيد الأجانب، فكانت البداية بالتمصير.
ففى ١٩٦٠ أمم الرئيس عبد الناصر بنك مصر أكبر مصرف تجارى فى البلاد وكل الشركات الصناعية المرتبطة به وأهمها مصانع المحلة الكبرى، وفى يوليو ١٩٦١ صدرت القرارات الاشتراكية.
وبالطبع قرار تأميم قناة السويس عام ١٩٥٦ أول وأهم قرارات التأميم التى اتخذها عبد الناصر ردا على سحب البنك الدولى لعرض تمويل بناء السد العالى، المشروع القومى الذى كان يراه عبد الناصر طريقا للتنمية، لتوفير المياه لزراعة المحاصيل الزراعية وتحقيق الاكتفاء الذاتى من الغذاء والمحاصيل اللازمة لقيام صناعات مهمة كالقطن لصناعة الغزل والنسيج، ولتوفير الكهرباء اللازمة لتشغيل المصانع.
وكان الاهتمام بالصناعة واضحًا منذ الأيام الأولى لثورة يوليو حيث أنشئ المجلس الدائم لتنمية الإنتاج القومى عام ١٩٥٣، وعقب نجاح مصر فى دحر العدوان الثلاثى الذى وقع عليها بسبب قرار تأميم قناة السويس أنشأت المؤسسة الاقتصادية عام ١٩٥٧ نواة القطاع العام، حيث اتجه النظام وبشكل واضح نحو نوع من الاقتصاد المخطط تحت إشراف الدولة وبقيادة القطاع العام..
واتجهت الدولة بقيادة أبو الصناعة عزيز صدقى لإنشاء المشروعات الصناعية العملاقة مثل الحديد والصلب، كما تم إنشاء شركة كيما للأسمدة، ومصانع إطارات السيارات الكاوتشوك، ومصانع عربات السكك الحديدية سيماف، ومصانع الكابلات الكهربائية، ومصانع إيديال للأجهزة المنزلية، ومجمع الألمونيوم فى نجع حمادى ومصانع النصر للسيارات ومصانع الأدوية وغيرها، كما تم حفر المناجم فى أسوان والواحات البحرية، واعتمدت سياسة عبد الناصر فى إنشاء هذه المشروعات على التمويل الذاتى دون الحصول على قروض أجنبية أو معونات. وفى تقرير للبنك الدولى عن الاقتصاد المصرى أشار إلى أن مصر حققت معدل تنمية (٧٪) خلال السنوات العشر سنوات من ١٩٥٧ إلى ١٩٦٧ بما يفوق كثيرا من الدول المتقدمة.
ورغم هزيمة ١٩٦٧ إلا أن ركب التنمية لم يتوقف حتى وإن تباطأ فى خطاه.
يحكى عزيز صدقى « كان عبدالناصر رجلا وطنيا وله رؤية بعيدة النظر، وأذكر ونحن فى افتتاح أحد المصانع جلس على سلم المصنع الخلفى وقال: مسئوليتنا هى البناء فقط.. وبناء أكبر عدد من المصانع لخلق فرص عمل للشباب، وهناك سبب آخر وهو لا نعرف من الذى سيأتى بعدنا ماذا سيفعل؟ لهذا علينا ألا نتوقف عن البناء!
يكمل صدقى: كان ذلك بعد نكسة ٦٧ التى كادت تطيح بمصر تماما لولا ثقة الشعب فى قيادة جمال عبد الناصر، بعدها كانت سنين من أعظم الفترات فى تاريخ مصر الحديث، نحارب العدو الصهيونى على الجبهة فى حرب استنزاف شرسة، نحقق فيها كل يوم انتصارات مدوية، وفى نفس الوقت نواصل طريق البناء، نحن لم نتوقف عن بناء المصانع، واستكملنا بناء السد العالى قبل رحيل جمال عبدالناصر.
ربما من الضرورى أن نستعيد أقوال د. عزيز صدقى لنعى ما حدث فى الستينيات وما أدراك ما الستينيات !
يقول أبو الصناعة «عملت قانون تنظيم الصناعة باعتبارى أول وزير للصناعة فى مصر.. وكان يهدف إلى حماية المستهلك من المحتكرين وأعطيت للدولة حق التسعير، بمعنى أن أحسب تكاليف المنتج وأحدد سعر بيعه حتى لا يستغل صاحب المصنع احتياج السوق لمنتجه فيرفع السلعة.
باختصار الدولة أيام عبدالناصر كانت تتدخل لصالح المواطن.. وآليات الرقابة فيها كانت فعالة. النظام الرأسمالى ليس مبررا لغياب الدور الرقابى للدولة، فحتى الرأسمالية فهموها خطأ وعلى هواهم.
جانب آخر من الصناعة كان على رأس أولويات عبد الناصر وهو صناعة السلاح، وهى إحدى أهم الصناعات الثقيلة، وكان ناصر يرى أن تصنيع السلاح فى مصر ضرورة، فالاعتماد الكامل على الخارج يجعل مصر رهينة له.
قال عزيز صدقي:» التسليح يبدأ من الطلقة إلى الصاروخ، إحنا عملنا الذخيرة كلها صنعناها فى مصر، البنادق والحاجات دى صنعناها فى مصر، أيضا أنا أقول لك بقى جالى فى وقت من الأوقات قال لى يا عزيز دى قصة أنا أرجو أن العالم العربى يعرف أن إذا أردنا يمكننا أن نصنع المستحيل وطلب صناعة دبابة برمائية، وبالفعل صنعناها وجربناها فى النيل لكننا لم نكمل. «
مصر دخلت أيضًا المجال النووى مع الهند، وكان مفاعل أنشاص هو البداية ولكنها للأسف لم تكمل المشوار بعد رحيل عبد الناصر.
وصنعت الصواريخ واستطاعت توفير الذخيرة والكثير من مستلزمات الجيش فى حرب أكتوبر ١٩٧٣ وكما كان عزيز صدقى له دور مهم فى إنشاء الصناعة المصرية، كان وراء صلابة الجبهة الداخلية فى حرب ١٩٧٣ حيث اختاره السادات رئيسا لوزراء مصر، واستطاع توفير كل مستلزمات الجيش والمواطنين طوال فترة الحرب وما بعدها حيث ترك المسئولية عام ١٩٧٤
عزيز صدقى الذى رفض تولى أى مناصب بعد ذلك، والذى عرض عليه مبارك رئاسة الوزارة عام ١٩٨٢ لكنه رفض وفضل أن يكون مستقلا، ظل مدافعًا عن القطاع العام مهاجمًا لسياسة الخصخصة ولرموزها، وهاجم بيع المراجل البخارية بثمن بخس « انا اللى بنيت المصنع ده مبنى على ٣٣ فدان على نيل الحوامدية الأرض تساوى فوق الـ٨٠ مليون جنيه واتباع بـ١٧ مليون فقط. ومصنع الألمونيوم كسبان ٨٠٠ مليون جنيه وبيصدر بـ٢٠٠ مليون دولار ومكفى البلد من الألمونيوم، بيبعوه ليه.
صدقى كان لا يخاف لومة لائم، شجاع فى قول الحق، هاجم سياسة مبارك نحو توريث ابنه جمال الحكم ورأس الجبهة الوطنية المعارضة لذلك.
وظل يدافع عن الصناعة المصرية التى كان يراها عبد الناصر كما قال صدقى أمل التنمية فى مصر وضمان العمل لأبنائها، وأمانا لهم من البطالة ومن خلالها يمكن تحقيق العدالة الاجتماعية بتحقيق مكاسب للعمال.
« سياستنا أن نعتمد على نفسنا وننتج احتياجاتنا ونشغل عمالنا ونصدر الفائض».
عندما ذهبت لإجراء تحقيق عن مصنع الحديد والصلب العملاق منذ ٣ سنوات، لاحظت فى عيون العمال كسرة النفس، فلم يعد مصنعهم الذى يتباهون به كما كان، وهم يشاهدون عملية إفقاره وتخسيره المتعمدة، هؤلاء العمال الذى غنى لهم عبد الحليم حافظ:
نور عينى وحبايبى وعزاز قوى على قلبى
ياللى على الجرار وقصاد لهاليب الصلب
رحم الله ناصر وصدقى ومازالت الصناعة المصرية هى الأمل.