رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


تجديد الخطاب الديني .. الإرادة الغائبة

22-7-2017 | 13:13


محمد الحمامصي

بداءة لنكن واضحين أن دعوة "تجديد الخطاب الديني" لم تخرج من بيئتها الطبيعية، أوساط الشيوخ والعلماء والفقهاء، من المؤسسة الدينية على اختلاف هيئاتها ولجانها، وهذا الأمر الطبيعي، ولأن هذه البيئة كانت قد دخلت إلى مرحلة الضموروالعقم تعليميا وفكريا وثقافيا منذ السبعينيات وحتى نهاية العشرية الأولى من الألفية الثالثة، خرجت "الدعوة"من النخب السياسية والثقافية والفكرية، وتوالت الصيحات والنداءات، خاصة مع تصاعد العوامل والمبررات والدوافع التي تشابكت معا لإزكاء تلك الدعوة – تجديد الخطاب الدينى- منها الفراغ السياسى عامة وعند الأجيال الجديدة خاصة، فى مقابل تصاعد حركات المد الأصولي والتطرف والعنف والإرهاب الذي اجتاح البلاد، مما لعب دوره فى تشكيل بيئة خصبة للعديد من الدعوات والافكار والاتجاهات  غير الملائمة وكلها تحت مظلة الخطاب  الدينى المحاط بالتحفظ والحذر من كلمة نقدية ما.

تلقفت البيئة المنوط بها القيام بالدعوة "الأمر"، بما هو أفضل وخير للناس فى دينهم ودنياهم، وحولته إلى مجرد خطب منبرية وبحوث ودراسات وتوجهات مدرسية جوفاء، أبرز ملامحها التناول بالصوت الجهورى الزاعق غير المتعقل، والتناول اللغوى المعتمد على المحسنات اللغوية والإبهار اللغوى أحيانا من سجع وجناس وغيره.. ثم الاستشهاد بالمتروك والغامض من أحكام السنة غير الموثقة.

يضاف إلى ذلك نشر كتب عبارة عن تجميع لمقالات نشرت هنا وهناك للاستهلاك اليومي، كتب لا تخرج عن كونها قراءات وتحليلات لكتابات مفكرين وشيوخ ومثقفين رواد، لا فكر ولا إبداع فيها، لندخل في أجواء الفترات التي أغلق فيها الفكر الإسلامي السني باب الاجتهاد، مما أدى إلى ضمور العقل الإسلامي، فبات يشرح المشروح ويعلق على المعلق عليه، ويعيد ويزيد مقلدا ومحاكيا دون أن يتجاوز أو يضيف.

هكذا الأمور الآن تخلو تماما من أية اجتهادات حقيقية تتماس وتتواجه مع إشكاليات الواقع المعاش ومصالح العباد. تخلومن أية رؤى وتجارب إبداعية تعتمد على إعمال العقل وتشتبك وتدافع عن الإنسان وتحميه من الأزمات الدينية والفكرية والاجتماعية التي تعترض وجوده الحياتي، وتقدم له تفسيرات وتأويلات مقنعة لما يستجد من إشكاليات، تفسيرات وتأويلات لا تقوم على التلفيق والتدليس والتزييف، ولكن على العقل والعلم والاجتهاد بما يؤكد احترام إيمان الناس بما أنزل إليهم من قرآن وما وصل إليهم من أحاديث نبوية وسنن الصحابة والتابعين وتاريخ وغيره، أو العمل وفقا لمقولة الإمام محمد عبده "العقل هو أساس معرفة الله عز وجل، فبالاستدلال والقياس المنطقي تستطيع أن ترى دلائل قدرة الله عز وجل في كل شيء حولك، فحق محاسبة العباد جميعًا هو حق من حقوق الله عز وجل لا سلطة لأحد فيه".

 

ساهم في تفاقم الأمر أن الموروث السني منقسم بشأن إعمال العقل، جله يرفض إعمال العقل، ويعتمد التقليد منهجا، وقد ألقى ذلك بظلال كثيفة على محاولات تجديد الخطاب الديني فلم تنطلق وفق إطار علمي واضح يضع الأسس الصحيحة لها، الأساس الذي يبنى عليه البناء ويعلو، لم تكن هناك شروط موضوعة بناء على توافق لجنة من نخبة العلماء الثقات في أمانتهم العلمية والأخلاقية، شروط ينبغي أن تتوفر لبدء عملية تجديد كأن يتم العمل فورا على خطط لتنقية التراث من الخرافات والخزعبلات والسموم المدسوسة وتطهيره وتقديمه للأمة في طبعات جديدة محققة، وما أيسر ذلك، خاصة مع كثرة المؤتمرات الإسلامية التي تجتمع فيها نخب العلماء والفقهاء والشيوخ وينفق عليها الملايين وتموت مناقشاتها وتوصياتها وآراؤها بختام فعالياتها. 

 

جاءت الدعوة ولا خطة ولا رؤية ولا تأهيل، فدخل كل من سولت له نفسه العلم بالتفسير والتأويل رافعا لافتتها، ونبشوا المدسوس والمكذوب من الروايات والأحاديث والأحداث والوقائع، ومارسوا تفسير آيات التنزيل الحكيم بهوى عظيم وعماء بصيرة أعظم، ودون علم بشروط التفسير التي من بينها التمكن من علوم اللغة والفقه والحديث، ومعرفة دقيقة بالتراث التفسيري، والفقهي، والأصوليّ، والكلاميّ وملأوا الدنيا فتاوى تجاهلت أمور الناس ومصالحهم وحاجاتهم البسيطة وعملت إلى إرباك وتضليل قلوبهم وعقولهم في دينهم وحياتهم، إذ شككت وانتقصت من قدر بعض الصحابة والرواة الثقاة للحديث وعلماء المذاهب وغيره وداهنت ودلست من أجل فتات الشهرة والمال والمناصب، ولعل ظاهرة ما يطلق عليهم الدعاة الشباب وكثرتهم تفسر بعضاً من تلك السلبيات.

 

على الجانب الآخر من الأمر فإن قاعدة الشيوخ الموظفين من قبل وزارة الأوقاف المسئولين عن الخطابة على المنابر في بر مصر، وقائمة المعلمين في المدارس والمعاهد الأزهرية جميعهم الآن لا أستثني أحدا قد تخرجوا وفقا لمنظومة التقليد القائمة على الحفظ والتلقين والتكرار، ولا يرجى منهم شيئا في إعمال العقل والتفكير، وهؤلاء وأولئك هم المنوط بهم حمل الدعوة، وهؤلاء وأولئك لم يتم تأهيلهم لا أثناء وجودهم في فصول الدراسة ولا بعد تخرجهم في دورات علمية. وهذا ما جعلهم عند انطلاق الدعوة في الثمانينيات يهاجمونها ويعملون ضد أن تكون مشروعا قوميا أولا يساهم في تنوير الناس وتحريرهم وثانيا يحول دون ترديهم في التطرف والعنف.

 

انفصل الأزهر وشيوخه وانفصلت وزارة الأوقاف ومنابرها عن الجمهور المستهدف الذي ملّ وسئم خطابها الوظيفي الاستهلاكي التقليدي العقيم، خطاب آية من هنا وحديث نبوي من هناك وبينهما جمل إنشائية باردة، أو تلك المقالات والكتب التي لا تحمل أي جهد أو اجتهاد أو إبداع في التحليل أو التفسير يتماس مع واقع الناس.

 

إني لأشك في كون هذه الدعوة "تجديد الخطاب الديني" قد جلبت لنا المصائب والمآسي من حيث ندري ولا ندري، كون بيئتها الحقيقية الحاضنة غير مؤهلة علميا وفكريا للقيام بها، والمؤهل فيها غير معني بالأمر، بل إنها غير راغبة في التأهل ورافضة له، فقد استمرأت التقليد والخرافة والخزعبلات، وهنا لا يمكن تجاهل أن هذه البيئة فتحت الباب منذ السبعينيات أمام غزو أصولي متطرف ممنهج حملته جماعات الإسلام السياسي التي خاضت في عقول وأفئدة المصريين بطول البلاد وعرضها وجعلت منها مسرحا لها ولضيوفها من الهند وأفغانستان والسودان والجزيرة العربية وشمال إفريقيا، أضف إلى ذلك كتب بن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب وتفسيرات سيد قطب وأبو الأعلى المودودي وغيرها من الكتب التي طبعت نسخها بالملايين ووزعت بسعر بخس وأحيانا مجانا، حتى لا يكاد يخلو بيت في قرية أو نجع في شمال أو جنوب مصر من كتاب من هذه الكتب.

 

إن دعوة "تجديد الخطاب الديني" بحاجة إلى إرادة تجديد تدفع إلى تأهيل البيئات الحاضنة للخطاب التقليدي والممثلة في الأزهر مدارسه ومعاهده وجامعاته ومؤسساته ولجانه وكذلك وزارة الأوقاف ومؤسساتها، وكذلك البيئات الأخرى الشريكة في تشكيل العقل الجمعي للأمة المصرية، كوزارة التعليم التي لا تمتلك أي خطط واضحة لبناء منظومة تعليمية في المرحلتين الجامعية وما قبل الجامعية، تستهدف تنمية الوعي وتحترم التفكير وتمكن الإنسان ليكون شريكا في التحرر والتطهر ومواجهة التقليد والخرافة. أيضا مما يؤسف له أن وزارة الثقافة لم تملك خطة أو منظومة أو مشروعا ثقافيا يستهدف تنوير المواطن والنأي به عن عباءات التطرف والعنف والإرهاب، هذه العباءات التي هي في الأصل قائمة على التقليد.

الإرادة إرادة التجديد وحدها القادرة على تحقيق دعوة التجديد الديني، فمتى توفرت ستجد من يخطط ويسعى وينفذ، لكن مما يؤسف له أن هذه الإرادة غائبة، وكل ما يحدث هي مجرد دعوة في خطابات إخلاء طرف من المسئولية، يلقيها هذا المسئول أو ذلك تفاديا للمساءلة.

*رئيس تحرير الهلال للأولاد والبنات.