علماء مصريون عظماء.. وقصص نجاهم الملهمة (4)
د. حامد عيد,
محمد عبد المقصود النادي.. عالم الفيزياء النووية
ولد الدكتور محمد عبد المقصود النادى فى قرية منية سمنود بمحافظة الدقهلية، فى الـ24 من شهر يناير 1918، حيث تلقى تعليمه الأولى والابتدائى والثانوى فى مدارس محافظة الدقهلية حتى حصل على الشهادة الثانوية في 1936، ثم التحق بكلية العلوم بالجامعة المصرية (جامعة فؤاد الأول) وتخرج فيها عام 1940 بعد حصوله على درجة البكالوريوس فى الفيزياء بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف الأولى.
عُين معيدا وبدأت مسيرته البحثية المتألقة، حيث حصل على درجة الماجستير فى الفيزياء عام 1945، ثم رُشح الدكتور النادى لبعثة حكومية إلى جامعة لندن بإنجلترا حيث أنهى درجة الدكتوراه فى فلسفة العلوم عام 1948. وعُين بعد عودته مدرسا بقسم الفيزياء بكلية العلوم جامعة فؤاد الأول، وواصل بحوثه المتميزة فى مجال الفيزياء الذرية النظرية، حيث رقى إلى درجة أستاذ مساعد عام 1954 ثم أستاذ الفيزياء الذرية النظرية عام 1960، وفى 1968 حصل على درجة دكتوراه العلوم D.Sc من جامعة القاهرة.
تقلد د. النادي العديد من المناصب حيث تولى رئاسة قسم الفيزياء بهيئة الطاقة الذرية من عام 1960 لمدة 10 سنوات، ورئيس قسم الفيزياء بجامعة القاهرة (من 1964 إلى 1970 وقد جمع بين المنصبين فى آن واحد)، بالإضافة إلى عمادة كلية العلوم بجامعة القاهرة من عام 1971 حتى عام 1974 .وبعدها عُين نائبا لرئيس جامعة المنصورة عام 1978 حتى بلغ سن الستين وعين بعدها أستاذا متفرغا بكلية العلوم جامعة القاهرة.
استخدم د. النادى هذه المناصب لتأسيس مشروعه التربوي، فالدكتور محمد عبدالمقصود النادي يعتبر مدرسة علمية كاملة. بالإضافة إلى الإشراف على العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه (إشراف علمي دقيق ومثمر وليس مجرد إشراف سطحي أو على الورق لزيادة عدد الرسائل والتفاخر بهذا العدد)، إن الفيزياء النووية والنظرية تدين له بالانتشار في عدد من الجامعات المصرية (القاهرة- المنصورة- الزقازيق- جنوب الوادي).
ولقد أهلته أبحاثه العلمية التى تجاوزت 130 بحثا والمنشورة فى مجلات علمية مصرية ودولية مرموقة، من الحصول على درجة دكتوراه العلوم بجدارة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد شعرت بالفخر الشديد عندما بحثت في أرشيف مجلة نيتشر ومن ثم وجدت بحثا لسعادته في عدد أكتوبر 1949، وهو المؤلف الوحيد لهذه الورقة العلمية في هذه المجلة المرموقة! وقد سافر د. النادى الى الخارج فى مهمات علمية 8 مرات منها مهمة لجامعة بيل بأمريكا من 1959-1960، وإلى لندن حوالى 5 مرات حيث كان يحضر مؤتمرات الجمعية الفيزيائية أعوام 1957، 1959، 1961، 1969 . وفى مصر حيث شارك فى أكثر من 100 مؤتمر علمي كرئيس، أو رئيس جلسة أو مشاركا بأوراق علمية.
أشرف د.النادى خلال رحلته العلمية على أكثر من 100 رسالة لدرجتى الماجستير والدكتوراه فى مجال الفيزياء الذرية النظرية، وتطبيقاتها العملية، ومكنه ذلك من إنشاء مدرسة علمية متميزة والتى انطلقت من الجامعة الأم "جامعة القاهرة"، وانتشر تلاميذه فى كليات العلوم بالجامعات المصرية والعربية، حيث حملوا راية العلم فى جامعاتهم وأصبحوا أساتذة مشهود لهم بالكفاءة فى تخصصاتهم.
من الممتع وأنت تتكلم عن عالم كبير مثل د.محمد عبد المقصود النادى أن تكون فخورا عندما تعلم أنه ترجم كتابا مهما لألبرت أينشتاين وليبولد إنفلد بعنوان " The Evolution of Physics: From Early Concepts to Relativity and Quanta" أو"تطور علم الطبيعة، تحول الآراء من المبادئ الأولى إلى نظرية النسبية والكمات" وذلك فى بداية الخمسينيات من القرن العشرين وهو مدرس بكلية العلوم جامعة القاهرة وستدهش أكثر أن من شاركه فى الترجمة زميل له فى نفس الكلية وكان مدرسا للرياضيات وهو الدكتور عطية عبد السلام عاشور وراجعة أستاذ عظيم وهو د.محمد مرسى أحمد الذى ترأس جامعة القاهرة فى أيام المجد. هذا الأمر يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الاهتمام بتعريب أمهات الكتب كان سمة مهمة وكان يسارع إليها العلماء فى ذلك الوقت بتشجيع من رؤسائهم.
حصل د.النادى على وسام الجمهورية من الدرجة الثانية عام 1962، ومن الدرجة الأولى عام 1971 ثم جائزة الدولة التشجيعية في الفيزياء ثلاث مرات، ثم جائزة الدولة التقديرية في العلوم الأساسية عام 1978، بالإضافة إلى وسام الاستحقاق من الدفعة الأولى عام 1979 وجائزة مبارك (النيل حاليا) في العلوم عام 1998. شارك الدكتور النادي في تأسيس مؤسسة الطاقة الذرية وأنشأ العديد من المعامل في كلية العلوم بالاشتراك مع دول مثل الاتحاد السوفيتي السابق وألمانيا. لقد عمل ولا يزال يعمل هناك العديد من طلابه والباحثين حتى الآن. كما شارك في تأسيس جامعة المنصورة وعمل فيها نائبا لرئيس الجامعة.
ألف د. النادي العديد من كتب الفيزياء الجامعية باللغة العربية، وألقى العديد من المحاضرات في الفيزياء النووية والنظرية. لقد كان عالما بارزا، ومعروفا على الصعيدين العربي والدولي، وعضوا في العديد من المعاهد والجمعيات والمنظمات العلمية الوطنية والدولية. وفى فبراير 1967 ترأس الدكتور محمد عبد المقصود النادى الوفد المصرى فى اجتماعات الوكالة الدولية للطاقة الذرية فى الدورة العادية العاشرة للمؤتمر العام للوكالة فى جنيف مع العديد من الوفود العالمية وكان من ضمن الوفود المشاركة الدكتور إسرائيل دوستروفسكى رئيس البرنامج النووى الإسرائيلى.
كتب الصحفى الكبير محمد حسانين هيكل فى أحد كتبه المهمة "الانفجار" عن الدكتور النادى فقرتين تبين إلى أى مدى كان الرجل معروفا لدى الكثيرين بقوة علمه وتفرد تخصصه، فقد جاء على لسان محمد حسنين هيكل عندما تحدث عن البرنامج النووى المصرى قائلا: "كان الرئيس جمال عبد الناضر شديد الاهتمام ببرنامج إسرائيل النووى وكان يتابع بنفسه البرنامج المصرى النووى، ولكنه كان يدرك أن المشروع الإسرائيلى متقدم فى ذلك الوقت بثلاث سنوات عن المشروع المصرى، وكان يتفهم أسباب ذلك ويقبلها عن معرفة بأن إسرائيل لها ميزة استقبال لاجئين من العلماء اليهود المقيمين فى أوربا، فضلا عن آخرين-يهودا وغير يهود-من الجامعات الأوربية والأمريكية تطوعوا بجهودهم لمعهد "وايزمان" الذى كلف باستضافة المشروع الإسرائيلى فى أيامه الأولى". "ومن المفارقات الغريبة أن العالم المرموق فى البرنامج الإسرائيلى، وهو الدكتور "إسرائيل دوستروفسكى، والعالم المرموق فى البرنامج المصرى هو الدكتور "محمد النادى" كانا معا فى نفس الوقت يدرسان بلندن، ولبعض الوقت كان معهما فى معامل الجامعة الدكتور "بهابها" العالم الهندى المرموق فى البرنامج النووى الهندى. وبشكل ما فإن الدكتور محمد النادى" كان يعتقد أن التفكير المصرى والتفكير الإسرائيلى يسيران فى نفس "طرق الاقتراب" من تنفيذ مشروعيهما، ثم بدأت المسافة تتسع بين المشروعين حيث تقدمت فرنسا لمساعدة إسرائيل ببناء مفاعل "ديمونة" فى قلب صحراء النقب بقوة 24 ألف كيلووات، ثم لحقت الولايات المتحدة لمساعدة إسرائيل ببناء مفاعل أصغر فى منطقة "سوريك" على شاطئ البحر المتوسط بقوة 5 ألاف كيلو وات".(محمد حسنين هيكل، كتاب "الانفجار"، 3، صفحة 148).
وبالمناسبة أحكى عن الأستاذ سمير محمود وهو معد ومقدم برامج فى التليفزيون المصرى أنه في عام ١٩٩٨ عندما كان يعد ويقدم برنامجا تليفزيونيًا "علماء مصر" عن العالم الكبير د. محمد عبد المقصود النادى بعد حصوله على جائزة مبارك في العلوم،- أرفع جائزة في ذلك الوقت، فقد أكملها بالكاد 30 دقيقة من أصل 60 دقيقة نظرا للظروف الصحية التى كان يمر بها عالمنا الكبير وعندما أذيعت الحلقة أعجب بها العالم الجليل رحمة الله عليه وكذلك ابنه وعرف منهما أن هذا كان اللقاء التلفزيوني الوحيد في حياته كلها....!
رحم الله الدكتور محمد عبدالمقصود النادي وأسكنه فسيح جناته، وجزاه خير الجزاء لما قدمه للعلم وللوطن. هذا وقد وافته المنية عام 2001 عن عمر 83 عاما.