د. صلاح سلام,
تابعت ليلة العيد على إحدى القنوات الفضائية فيلم الرسالة للمخرج العبقري مصطفى العقاد الذي اغتاله الإرهاب الأسود في تفجير انتحاري في حفل في أحد الفنادق في عمان بالأردن، وشاهدت حجم الجموع التي كان يحركها في معركة بدر في تماثل مدهش في وسط الصحراء بين جيش المسلمين بعدته وعتاده وجيش كفار قريش بزيه وعتاده وسيوفه ورماحه وأقواسه وفرسانه وكم الإبل الذي كان يهدر في أرض المعركة والمبارزات وتمثيل حالات القتل والإصابات.
ويعيد نفس المشهد بجيش أكبر من الطرفين في مشهد معركة أُحد، ما هذا الإبداع وكم من المشاهد التي تم تصويرها لتخرج المعارك وكأنك تعيش السنوات الأولى من الهجرة النبوية؟ وما حدث في صلح الحديبية يدرس للتاريخ وكيف رفض سهيل ابن عمرو والذي كان يمثل قريش أن يكتب في وثيقة الهدنة أن الاتفاق قد تم بينه وبين محمد رسول الله وأن يكتب فقط محمد ابن عبدالله مدعيا أننا لم نؤمن بك كرسول ويأمر الرسول علي ابن أبي طالب وهو الذي كان يكتب الوثيقة "امحها يا علي" برغم ضجر المسلمين من ذلك ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان بعيد النظر وينظر إلى المستقبل وكيف سيكون الإسلام والمسلمين بعد عشر سنوات وهي مدة الهدنة، وبالفعل تحقق له ما أراد ودخل مكة آمنا مطمئنا.
أتأمل كل ذلك وكم نحن نحتاج أن نمحوا من معاملتنا أشياء بنفس المنطق لتمر الحياة ونستشرف المستقبل ومع هذا الزخم من الممثلين الذين اجتمعوا في هذا الفيلم حمدي وعبدالله غيث فرسان الشاشة في ذلك الوقت والشاب الأسمر أحمد مرعي بطل الفيلم التاريخي "المومياء" لشادي عبد السلام ومعهم منى واصف ومحمد توفيق ومحمد وفيق وطابور من نجوم ذاك الزمن في الوقت الذي كانت أجورهم جميعا لا تساوي نصف أجر واحد من ممثلي هذا الزمن والذين يصورون كل فيلمهم في فيلا وشاليه وشاطئ.
وقد سطر العقاد تاريخا في السينما العالمية بالفيلم الأسطورة لأنتوني كوين "عمر المختار" والذي استطاع فيه أن يحاكي المقاومة الليبية ضد الاحتلال الإيطالي وصناعة مشاهد تاريخية لنسف جسور ومعارك وتحريك جماعات المقاومة في وسط الصحراء وينقل المشاهد إلى قلب الحدث حتى مشهد الإعدام الذي أخرجه بعبقرية يحسد عليها كم كانت حسرتي على فن السينما وما أصابه بعد أن أشاهد هذه الدرر التاريخية ولو أضفت للمشهد فيلم الناصر صلاح الدين والذي ربما لم يكن فيه إدارة معارك كما في فيلم الرسالة ولكنه كان محطة هامة في السينما المصرية التي أنجبت حسن الإمام مخرج الروائع والذي وثق ثورة ١٩١٩ في فيلم بين القصرين لنجيب محفوظ فمشهد خروج المظاهرات من المدارس والجامعات في الزمن الذي كان طالب الثانوي يرتدي بدلة وطربوش وفتيات المدارس الثانوية بتصميم ملابس هي محاكاة للعصر والقسيس الذي يخطب في المسجد والشيخ الذي يوعظ في الكنيسة وتتحرك الجموع احتجاجا على نفي سعد زغلول تارة وتارة لتحتفل بعودته ويتصدى جنود الاحتلال الإنجليزي لجحافل الجماهير التي خرجت تطالب بالاستقلال ويسقط الشهداء من خيرة شباب وفتيات مصر وهم يهتفون نموت نموت وتحيا مصر ونظرا لان ذلك الزمن لم يكن يحمل تكنولوجيا التصوير الحي الناطق فلا توجد أفلام حقيقية لهذه الثورة وتتويجا لحجم الصدق في الأداء والإخراج الذكي للمبدع حسن الإمام ظن البعض أن هذه المشاهد بالفعل لثورة ١٩١٩ وأنه ركب عليها بعض المشاهد لعزت العلايلي وصلاح قابيل وزيزي البدراوي والحقيقة أنها مجرد تخيل استقاه من كتب التاريخ وممن عاصروا تلك الأحداث ومن وحي القصة وكتابة السيناريو فاستطاع أن يشعرنا أنه يوثق لأحداث حصلت بالفعل بل أصبحت مرجعا تاريخيا للسينما.
هذه هي السينما التي استطاعت أن تغزو العالم حيث الفكرة والصدق والإبداع والابتكار والحركة الناطقة.
ما يحزنني أننا منذ أكثر من ربع قرن لم ننتج أفلاما نستطيع أن ننافس بها على مستوى العالم برغم كل هذا التقدم الهائل في التصوير والخداع السينمائي والإمكانيات الضخمة، وأنتجنا ونافسنا وانتشرنا في زمن الشح المالي والتكنولوجي، وما يحزنني اكثر أن الدولة الأفريقية الأولى في عالم السينما اليوم هي نيجيريا برغم كل ما فيها وأصبحت تنافس بوليود ومن يراجع أفضل ١٠٠ فيلم في تاريخ السينما المصرية لا أعتقد أنه سيجد واحدا منهم تم إنتاجه في الألفية الثالثة التي نعيشها الآن.