رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


شرعية الثورة

23-7-2017 | 17:49


بقلم –  د. جمال شقرة

يكاد ينعقد الإجماع على أن المجتمع المصرى فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، عانى من أزمات طاحنة على كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وأن هذه الأزمة جاءت كنتيجة حتمية للتناقضات، التى تولدت من إدماج مصر - كمجتمع تابع - فى إطار النظام الرأسمالى العالمى، وأن هذه الأزمة وصلت إلى ذروتها مع مطلع الخمسينيات من القرن العشرين، حيث ظل هيكل الاقتصاد المصرى هيكلًا متخلفا يغلب عليه الطابع الزراعى ذو المحصول الواحد «القطن» وظل النمو الرأسمالى سواء فى الريف أو فى المدينة.. نموا مشوهًا.. بسبب استمرار سيطرة كبار الملاك على علاقات الإنتاج وإصرارهم على عدم تغييرها.. ونتيجة للتدخل العضوى بينهم وبين كبار الرأسماليين الأجانب والمصريين، فضلًا عن قيامهم بإهدار جزء كبير من الفائض الاقتصادى فى الاستهلاك الترفى.

والمتتبع للأزمات التى تعرض لها المجتمع المصرى عشية ٢٣ يوليو، يلاحظ الأمر لم يعد أمر مشكلة تواجه حكومة بعينها، بل إن تعاقب الأزمات وتعاقب فشل الحكومات المتتالية فى علاجها، دل على أن الأزمة آخذة برقاب النظام السياسى والاجتماعى جميعه.. وإن أطر هذا النظام لم تعد قادرة على استيعاب ما يواجهه من أزمات ولا على تجاوز ما يحيط به منها.. لقد واجه المسألة الوطنية بالمفاوضات ففشل، وواجهها بالتحكيم الدولى ففشل أيضًا، فانصرف عنها ملتفتا إلى مشاكل الاقتصاد والتنمية، ففشل أيضًا، وعجز عن المواجهة، ولم يستطع تقديم حلول للأزمة الاقتصادية، التى كانت تفتك بالملايين من شعب مصر.. وأتت حرب فلسطين ١٩٤٨ فهزم، وانطلقت حركة الكفاح المسلح فى القناة، والتى كانت بمثابة محك اختبار حقيقى للأحزاب السياسية، فكشفت عن عجزها جميعًا وعجز النظام برمته عن قيادة النضال الشعبى ضد المحتل، وأخيرًا كان إحراق القاهرة فى ٢٦ يناير ١٩٥٢ أوضح دليل على تفسخ عرى النظام واهتراء كل مؤسساته..

وبعد إحراق القاهرة، بدأت مصر كلها، تشعر برجفات الزلزال، وبدأ الكل يتوقع شروعه فى هز أديم مصر واقتلاع النظام الملكى من جذوره..

كان جيش الملك وأداته التى كان يستخدمها فى السيطرة على الجماهير، مركز الزلزال، وكانت البداية عندما شعرت القوى السياسية المعارضة للنظام بضعفها فى مواجهة الملك والمستعمر معًا، واكشفت هذه القوى أن «جيش الأمة» قوة منظمة ومسلحة يمكن الاعتماد عليه، ومن هنا اتجهت هذه القوى صوب الجيش تحاول تسييس ضباطه واستقطابه لتلوح به أو لتستخدمه فى مواجهة خصومها وينطبق هذا على حزب الوفد، كما ينطبق على جماعة الإخوان المسلمين، وعلى المنظمات الشيوعية، وأيضًا على جماعة مصر الفتاة، الكل سعى نحو الجيش، والكل نسى أو تناسى - تحت ضغط الأزمة - أن الجيش يمكن أن يغرى بأخذ مقاليد الأمور بيده، ويمكنه أن يلعب دورًا ثوريًا لإنقاذ مصر من براثن الفساد وإقرار القانون وتحقيق حلم مصر فى التحرر والاستقلال والتنمية والتحديث..

والملاحظ أن الجيش المصري، شهد نشأة العديد من جماعات العمل الوطنى مع بداية الأربعينيات، وأن هذه الجماعات بدأت تطلق سهامها ضد النظام، أيا كان نوع هذه السهام.. وبعدما أسس جمال عبدالناصر تنظيم الضباط الأحرار سنة ١٩٤٥، نجح فى ضم معظم الضباط الذين لحقتهم يد السياسة، كما نجح فى الانفصال والاستقلال بتنظيمه عن القوى السياسية، التى كانت تعارض النظام أيضًا، سواء العلنية أو تلك التى كانت تعمل مثله تحت الأرض، وظل تنظيم الضباط الأحرار يمارس نشاطه السرى إلى أن كان قرار حل مجلس إدارة نادى الضباط فى ٢٦ يوليو ١٩٥٢، وكان الضباط الأحرار قد أدركوا خلال الفترة الواقعة بين انتخابات النادى فى أكتوبر ١٩٥١، وحل مجلس إدارته فى يوليو ١٩٥٢ أنهم وصلوا فى صراعهم مع الملك إلى طريق مسدود وانه لابد من القيام بعمل إيجابي، وبعد تردد استقر رأيهم على ضرورة التفكير فى قلب نظام الحكم..

•••

وفى ٢٣ يوليو ١٩٥٢، نجح الضباط الأحرار فى الانقلاب على النظام، وطردوا الملك فاروق فى السادس والعشرين من نفس الشهر، وأخذوا السلطة كاملة فى أيديهم..

وكان عليهم فى هذه المرحلة المبكرة من تاريخ ثورة يوليو، أن يواجهوا مشاكل عديدة منها علاج الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة، وإيجاد حل للقضية الوطنية، وللمسألة السودانية، كما كان عليهم أن يحددوا موقفهم من المعسكرين المتصارعين، ومن الحرب الباردة، فضلًا عن مواجهة الأحزاب والقوى السياسية الداخلية المعارضة لهم، ولقد استغرقت هذه المهام بالفعل السنتين الأوليين من عمر الثورة ١٩٥٢ - ١٩٥٤..

حيث شهدت الشهور الأولى بعد طرد الملك إجراءات عديدة استهدفت تحقيق شيء من الاستقرار والعدالة الاجتماعية، من هذه الإجراءات، إصدار القانون رقم ١٧٨ لسنة ١٩٥٢ فى شأن الإصلاح الزراعى فى التاسع من سبتمبر ١٩٥٢، الذى استهدف علاج سوء توزيع الثروة ورفع مستوى معيشة الفلاحين فى الريف المصرى بتوزيع «الفدادين الخمسة» والاستيلاء على ما يزيد عن المائتى فدان من كبار الملاك، والعمل على نشر التعاون الزراعى فى الريف، كما استهدف أيضًا دفع كبار ملاك الأراضى الزراعية إلى الكف عن المضاربات على الأرض واستثمار أموالهم فى مشروعات التنمية الصناعية، ومع أن هذا القانون جاء مليئًا بالنواقص والعيوب، فإنه اعتبر خطوة هامة وأولية على طريق حل المسألة الزراعية، كما أنه كان إيذانًا ببدء التغييرات الاجتماعية التى ستشهدها القرية المصرية بعد ١٩٥٢..

إلا أنه يجب ملاحظة أن الضباط لم يقوموا - بهذا القانون - وطوال الفترة ١٩٥٢ - ١٩٥٤، على إجراء تغيير جذرى لطابع التطور الاقتصادى والاجتماعي، حيث ظلت استثمارات كبار الملاك غير كافية لتنمية القطاع الصناعي، بل إن كبار الملاك وقعوا برءوس أموالهم إلى مجال الإسكان الفاخر والسمسرة، ولم يكن التشجيع الحكومى والاعفإءات الضريبية وغيرها من التسهيلات التى قدمتها ثورة يوليو آنذاك بكافية لدفع رأس المال المصرى والأجنبى إلى المساهمة فى المشروعات التى تبنتها الدولة بناء على الدراسات التى قام بها «المجلس الدائم لتنمية الإنتاج»..

ولقد صاحب هذا القانون صدور مجموعة من القرارات والإجراءات ذات الدلالة عند رصد التوجهات الاجتماعية للضباط فى هذه المرحلة المبكرة، فبعد صدور قانون الإصلاح الزراعى بخمسة أيام، صدر المرسوم بقانون رقم ١٨٠ لسنة ١٩٥٢ فى ١٤ سبتمبر ١٩٥٢ بإلغاء نظام الوقف إلا على الخيرات، كما صدر قرار بمصادرة أموال أسرة محمد علي، وكذلك الأموال والممتلكات التى آلت عنهم إلى غيرهم عن طريق الوراثة أو المصاهرة أو القرابة، وذلك فى الثامن من نوفمبر١٩٥٢..

ومن ناحية أخري، عمد مجلس قيادة الثورة فى أعقاب صدور فتوى مجلس الدولة، بعدم شرعية عودة البرلمان الوفدى المنحل فى ٢ أغسطس ١٩٥٢، إلى تدعيم سلطته خاصة بعد المعارك، التى شهدتها الصحف بين أنصار عودة البرلمان وأنصار الشرعية الثورية، فبدأ عملية تطهير وهدم كان لها أثر كبير فى مستقبل الحركة السياسية المصرية.. وتواكبت عمليات الهدم والتطهير مع محاولات الإحلال والتجديد اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا، والملاحظ أن عملية إقرار القانون وبناء النظام السياسى الجديد، وتشريح الجسد السياسى الداخلى، قد اكتسبت نتيجة للظروف الموضوعية كل اهتمام الضباط فى هذه الفترة، ففى العاشر من ديسمبر ١٩٥٢ أعلن الضباط سقوط دستور ١٩٢٣ .. وشكلت لجنة مهمتها وضع «دستور جديد» فى ١٣ يناير ١٩٥٣ (١) .. وبعد خمسة أ يام، أى فى ١٨ يناير ١٩٥٣، عدل المرسوم بقانون رقم ٢٧٧ لسنة ١٩٥٢ فى شأن التدابير المتخذة لحماية «حركة الجيش» والنظام القائم عليها، لتصبح مدة سريان هذه التدابير سنة من تاريخ ١٨ـ يناير ١٩٥٣، بعد أن كان ستة أشهر من تاريخ صدور المرسوم الأول فى ١٣ نوفمبر ١٩٥٢ وفى العاشر من فبراير ١٩٥٣ صدر الإعلان الدستورى بتحديد سلطات الدولة وقواعد الحكم، وبتنظيم الحقوق والواجبات خلال فترة الدانتقال، ولقد اعتبر هذا الإعلان أول وثيقة رسمية ذكرت اسم مجلس قيادة الثورة، وأضفت عليه الشرعية الدستورية، وحددت اختصاصاته، ليصبح هذا المجلس، خلال فترة الانتقال أعلى سلطة فى مصر، والملاحظ أنه كان كذلك قبل صدور هذا الإعلان، وفى ١٨ يونيه ١٩٥٣ أعلن الضباط إلغاء النظام الملكى وسقوط أسرة محمد على وتحويل مصر إلى النظام الجمهورى..

ولقد واكب هذه التغيرات السريعة المهمة، سعى الضباط سعيا حثيثا نحو الجمع بين القوة والسلطة والشرعية، فإذا كانت القرارات التى اتخذت طوال هذه الفترة قد أومأت باتجاهات ذات مغزى، وسمحت بقدر من الشرعية للضباط، وببقائهم فى السلطة فإن عملية تحول السلطة إلى شرعية، وتوقيع صك لعقد اجتماعى وسياسى، كانت بغير شك أمرا يؤرق الضباط خاصة عبدالناصر، الذى سعى - بوعى - منذ اللحظة الأولى وهو فى قلب السلطة إلى تحقيق قدر من الشرعية، أو نوع من الرضا الطوعى والقبول للنظام الجديد، وهو الأمر الذى تأخر حتى انتصاره فى السويس ١٩٥٦..

وقبل الحصول على هذه الشرعية، نجح الضباط فى تعديل صيغة التوازن فى العلاقات القائمة التى كان يرتكز عليها النظام القديم ومؤسساته، ولقد سهل نجاح الضباط فى هذه المهمة المصيرية ما كان لهم من يد عليا فى إدارة الصراع، حيث نجحوا من اللحظة الأولى فى السيطرة على سلطة إصدار القرار، وطهروا جهاز الدولة القديم هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ساعدهم القبول الذى لاقته المبادئ الستة العامة التى طرحوها، التى كانت بمثابة نقطة التقاء التفت حولها كل القوى الوطنية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار رغم الخلافات الأيديولوجية العميقة..

على أية حال، كان القضاء على الاستعمار والإقطاع والاحتكار الرأسمالى، مقدما فى مبادئ الثورة على بناء أسس المجتمع الجديد، ومعنى هذا - كما يذكر لويس عوض: أن الضباط رأوا أنه لا سبيل إلى بناء أسس المجتمع الجديد، إلا بعد تصفية الاستعمار والإقطاع الزراعى والإقطاع الرأسمالى الاحتكارى، وأى برنامج يقوم على التحطيم إنما هو برنامج ثورة، ولما كانت القضية المصيرية لأية ثورة هى قضية السلطة، ولذا فإن ثوار يوليو وعلى رأسهم عبدالناصر قد نجحوا فى الاستيلاء على سلطة الدولة، وتحكموا بعد أن طردوا الملك فاروق مباشرة فى مفاتيح القوة فى المجتمع المصرى، بدءًا بالمؤسسة العسكرية، ومرورا بالمخابرات وأجهزة الأمن السياسى، عسكرية كانت أم مدنية، وانتهاء بالنقابات والجامعات ووسائل الإعلام والأجهزة الإدارية، بالإضافة إلى التنظيم السياسى..