أحمد العراف: الثقافة والفكر في المغرب والعالم العربي تعيش أزمة عميقة مقارنة ببقية العالم (حوار)
أحمد العراف العياشي كاتب مغربي، أخلص لعمله كمدير مدرسة ابتدائية متقاعد، يكتب القصة القصيرة والشعر والرواية، من عائلة تعشق التصوف مشاغب مشاكس منحاز لطبقته الشعبية، عندما تصفحت مجموعته القصصية (دم الخفاش) وروايته (كنزة تغلق الأقواس) وأعمال أخرى، أشعرني بأني أرى مشاهد ولوحات حياتية عايشتها، وعشت معها وغصت بها، عشت معه أجواء البادية المفتون بها دومًا والتي تجدها دوما معلمًا أساسيًا بكتاباته، بكل تفاعلاتها الإنسانية السيكولوجية، تصادقت معها، شخصيات تلبس ثياب الواقع دون اللجوء لأي رتوش تجميلية، لأنها جميلة بطبيعتها، شخصيات نابضة، نبض صادق غير مفتعل أو مزيف ومصانع، لا تكلف برسمها وكتاباتها.
- متى كان النداء الأول للكتابة؟.. وكيف كانت خطواتك الأولى للكتابة؟
كانت الإرهاصات الأولى للكتابة منذ أن كنت في السلك الإعدادي، كنت أكتب خواطر وقصائد شعرية في الغرام وفي القضايا الاجتماعية، لكن انخراطي في العمل السياسي الذي كان يلازمني في الحل والترحال كان عائقا دون الاستمرار في الكتابة، فالسياسة اللعوبة تمكنت مني إلى حد أني قلت في أحد اللقاءات: «السياسة اغتصبتني في سن مبكرة مما جعل بصماتها تحضر بشكل أو بآخر في مجمل إبداعاتي».
بدأت الكتابة والنشر على صفحات الجرائد الوطنية: على صفحة جريدة الاتحاد الاشتراكي "على الطريق"، جريدة الصباح، الجريدة الأمازيغية " تيفراز"، وملاحق ثقافية لجرائد أخرى، وقد جمعتها لتتحول إلى مخطوطات مرتبة على رفوف مكتبتي التي أصبحت تتطلب مزيدا من الكتب، وتحولت هذه المخطوطات إلى ثلاثة مجموعات قصصية.
- من كان قارئك الأول؟.. وكيف كان يرى كتاباتك؟
قارئي الأول هم بناتي اللواتي كن يشجعنني على الكتابة محاولات انتشالي من براثين السياسة، وكانت مستحوذة على كل اهتماماتي، كانت ابنتي وهي متصرفة تربوية في سلك التعليم تساعدني على تصحيح المنتوج. كانت زوجتي وبناتي يشجعنني على الإبداع والكتابة لأفرغ كل ما بدواخلي، وكنت أظنهن يجاملنني متبعات في ذلك «كل فتاة بأبيها معجبة»، لكن أطمئن إلى رأيهن لما أعرض كتاباتي على الأصدقاء لأجد رأيهم يتطابق مع رأي بناتي، وهن سبع بنات حتى أصبحت ألقب بـ «أبو البنات».
- هل تعرضت للحظات تثبيط لهمتك الأولى؟.. وكيف تغلبت على هذا؟
نعم، قد تعرضت للحظات تثبيط وفرملة لما طرقت أبواب دور النشر فأغلقت أبوابها بشروط تعجيزية بعيدا عن خدمة الثقافة والإبداع، فهي كانت تفضل أسماء معروفة للتهافت على الجوائز الوطنية والدولية. وأنا أعيش قفلة ظهر في حياتي، أحد الاصدقاء الذي بلغ إلى عِلْمِه بأنهُ لدي مجموعات قصصية على الرفوف تنتظر الطبع والنشر، عقد لقاء في أحد مقاهي البلد حيث كنا نتردد عليها من أجل القراءة والكتابة، فحَمَلْتُ معي ركاما من المخطوطات في محفظة مجعدة رافقتني طيلة حياتي المهنية، ناولته ملفاً به أوراق مرقونة، تصفحها بسرعة بعد أن قرأ البعض منها، كان رأيه مشجعا بعد أن قال: «سأساعدك على طبع المجموعة الأولى». بعد الاطلاع عليها في ظرف أسبوع، أخبرني في جلسة ثانية بأن المجموعة القصصية الأولى جاهزة للطبع، بعد أن وضع لها تقديما رائعا، وهذا الشخص هو الدكتور خالد التوزاني المهتم بالأدب العجائبي وأدب الرحلات والتصوف.
وساعدني على التغلب على خوفي، وكانت المجموعة القصصية الأولى تحمل عنوان «شطحات الثعبان الأرقط»، لم أصدق إلا بعد أن توصلت بنسخ من الكتاب مما حفزني على طبع المجموعتين القصصيتين «دم الخفاش» و«نقطة نظام». والفضل كل الفضل يرجع إلى الرجل الفاضل المفكر والناقد خالد التوزاني
- قصتك الأولى.. كيف كان وقعها عليك أنت وعلى عائلتك وعلى النقاد حينها؟
عندما تتم الكتابة أفتخر بذلك وأسعد من داخلي، وقد شكلت المجموعة القصصية الأولى نقطة مفصلية في مسيرتي الإبداعية، وشعوري كان مزيجا من الفرح والاعتزاز، وقد أهديت هذا الإبداع إلى أسرتي، والدي الذي طالما كان يحلم بأن أصبح يوما ما مبدعا لا سياسيا، وكان له ذلك، لكن حصل الأمر بعد وفاته وبعد طول انتظار. أهديت هذه المجموعة القصصية كذلك إلى أرواح شهداء الوطن، ووعدتهم بأن أناضل من الجبهة الثقافية والإبداعية.
- ما الذي يدفعك دفعًا للكتابة؟
بدواخلي بركان وركام من الذكريات والوقائع والأحداث أريد أن تخرج إلى العَلَنِ على شكل مجموعات قصصية وروايات وأشعار، ولا أخفيك سراَ بأن الكتابة معاناة، كما تدفعني الأمراض المجتمعية التي تنخر شرايين المجتمع لكن بطريقة إبداعية تمزج بين الخيال والواقع المعاش.
وفي كل بيت رواية وفي كل شارع قصة أو قصيدة، وأنا أكتب من أجلي أنا كذات ومن أجل غيري، فالكتابة ألم ووجع وهي تعبيرٌ عن النفس وصراعاتها وخيباتها، كما أن الكتابة أروح بها عن نفسي. الكتابة ليست بالأمر السهل كما يعتقد البعض، فهي تبدأ بالمشاكل البنائية واللغوية. دوافع الكتابة كثيرة ومتداخلة، وأنا مجبر على اتباع كل دافع إلى آخر العمل الإبداعي.
- مؤكد حال تمسك بالقلم وتخط كلماتك لها أهداف ورسائل لمن توجه؟ وهل تحققت رسائلك وأهدافك على مدار رحلتك الإبداعية؟
بمجرد مسك القلم والانخراط في كتابة عمل إبداعي يكون الهدف أولا فسح المجال لوقائع وأحداث وذكريات للخروج إلى حيز الوجود، بعد أن تتسلل وتتحرر من قبو الذاكرة. وكل ما أبدعه وأكتبه موجه إلى قارئ مفترض للنص الإبداعي، عندما ينشر يُصبح ملكا للغير، والقارئ قد يقتني الكتاب وقد يعرض عنه، والذين أستهدفهم في كتاباتي هم قراء من طبقتي والذين أتقاسَمُ معهم الآلام والأوجاع والهموم خدمة للثقافة التي أصبحت ذيلية لما هو سياسي. من خلال إبداعاتي أوجه رسائل تارة تكون واضحة وأخرى مشفرة إلى قراء نمتلك نفس الشفرة ولا تحتاج إلى فارز، وفي نفس الوقت موجهة إلى القائمين على تسيير الشأن المحلي بأن هنا في هذا الوطن ما ومن يستحق العناية، فالأدب عليه أن يخدم الإنسانية بعيدا عن الماديات والهرولة والتهافت على جوائز تخدم دور النشر التي لا يهمها إلا الربح السريع؛ إذ تركز على أسماء معروفة صنعها النقاد ووسائل الإعلام.،و لا أعمم، فهناك أسماء محترمة تنأى بنفسها عن الهرولة والتهافت، وما أكثرهم، ولهم أرفع القبعة.
- هل تكتبُ بعضا من سيرتك الذاتية بكتاباتك؟ ولماذا إصرارك على أن تكون السيرة معلما أساسيا بكتاباتك؟ وهل من الضروري أن نكتب ذواتنا بأعمالنا؟
كما هو متعارف عليه هي وصف لحياة شخص بواسطة الشخص نفسه، والسيرة الذاتية شريط وتسجيل صادق لحياة أو لعمر يكتب بشكل يتسم بالتكثيف لسنوات من الصعب استرجاع جميع أحداثها ووقائعها وذكرياتها التي تكون في بعض الأحيان مشوشة مما يستدعي اللجوء إلى الآخر والغير من أجل رتق الفتوق والثقوب التي تحدث أثناء تخزينها في سراديب الذاكرة، فحياة بَطل الرواية غالبا ما تكون هي حياة الكاتب لكن بطريقة غير معلنة، إنما النقاد يشوهونها أثناء عملية النقد والتفكيك للنص.
أكتب لتكون سيرتي الذاتية معلما أساسيا في كتاباتي، وذلك لعدة عوامل منها: الاستمتاع باسترجاع الماضي بكل تفاصيله، وإعطاء الحياة التي عشتها معنى ما. من خلال الكتابة أصبح أنا هو الآخر، كما قال "آرثر رامبو" وصورها "جيرار حينيه": «أنا هو الماء الذي يتدفق»، فالسير الذاتي هو فعل غيري، فحسب "بول ريكور": «الذات عينها كآخر يوحى منذ البداية بأن ذاتية الذات عينها تحتوي ضمنيا الغيرية إلى درجة حميمية حتى أن لا يعود من الممكن التفكير في الواحدة دون الأخرى». فأنا أكتب عن الآخر الذي يكتبني ويكتب عني، فكتابة السيرة الذاتية هو بناء سردي ببعد نفسي واجتماعي بحمولة المنسي والمكبوت والأحلام التي لم تتحقق، وبالتالي فإننا نحقق ذواتنا من خلال أعمالنا رغم أن هناك تباين بين الأنا المروي والأنا الراوي.
- بمجموعاتك القصصية وأعمالك الروائية أرى أنها لوحات حياتية، لي حدس أنها مواقف صادفتك أو عايشتها، مدى صحة هذا؟ ولم إصرارك على وجودها؟
في كل بيت وفي كل شارع أحداث ووقائع تفرض على الكاتب أو المبدع نفسها لتصبح جزءا من القصة أو الرواية، والمحيط مليء بالشخوصات التي تكون محور الرواية أو القصة. الجزء الآخر من الأحداث والوقائع فهي التي عايشتها وعايشتني وتضغط علي لتجد لها موقعا في أعمالي الإبداعية، وقد تكون هي حجرَ الزاوية للرواية وركنها الأساسي. بِدَواخلي زخم من الوقائع والأحداث مجمدة ومسجونة، ولما تتسلل وتطفو على السطح تحتل موقعا في مسودة العمل الإبداعي إلى أن تخمد حمم البركان وتهدأ نار المرجل الداخلي لأستريح من وخز ازميلها.
- من الكاتب الذي تأثرت به في بداياتك وما زلت تعود إليه بين الفينة والأخرى؟
- في المرحلة الثانوية تأثرت بـ «قصص القرآن» التي كانت في حوزة والدي الذي كان من حملة القرآن. هو ووالدتي كانا من مريدي الصوفية، الزاوية التيجانية. كنت أعيش وسط أوراد وطقوس صوفية ترافقني في مجمل إبداعاتي، فلا تخلو مجمل إبداعاتي من بصمات صوفية والتي حولت إلى لقطات إبداعية. كما تأثرت بـ «روايات جورج زيدان التاريخية» و"إحسان عبد القدوس" و"جبران خليل جبران" و"المنفلوطي".
- أما بعد هذه المرحلة، فقد كانت لـ «روايات نجيب محفوظ» وقع كبير في تكوين شخصيتي الأدبية. وقد كنت أقرأ بنهم جميع كتب الأدب العربي، كما كنت مولعا ومدمنا على قراءة «شعر الصعاليك» حيث كنت أجد فيه ذاتي. أعود بين الفينة والأخرى إلى الروائيين المغاربة "عبد الكريم غلاب" و"محمد الأشعري" و"أحمد المديني" و"محمد برادة" لأنهم أقرب إلى الواقع الذي أعيش فيه. كما أن للأدب العالمي أثر علي.
- كاتب وكاتبة كانا سببا أساسيا لدخول معترك الكتابة؟
في الحقيقة جميع ما قرأت ترك أثرا في دخول معترك الكتابة، دون نسيان الموهبة التي استوطنت منذ مرحلة الطفولة، كما أن الظروف السياسية والاجتماعية ساهمت في إخراج ما بداخلي.
- كيف ترى الحالة الثقافية والفكرية عربيا وعالميا؟
- الحالة الثقافية والفكرية بالمغرب والعالم العربي تعيش في أزمة عميقة مقارنة مع بقية العالم، فالثقافة آخر ما يُفَكَّرُ فيه، إضافة إلى أزمة القراءة وقلة معارض الكتاب وإن وجدت تكون موسمية يطغى عليها الطابع الفلكلوري والاحتفالي الهجينين، ودور النشر بشروطها وجشعها وغلاء المنتوج تساهم في تعميق الأزمة التي هي بنيوية في مجملها، فنحن في حاجة إلى نهضة أو ثورة ثقافية وفق أسس جديدة تتماشى مع متطلبات العصر دون تجاهل التراث والأدب العربي مع الانفتاح على العالم الخارجي وترجمة الفكر الإنساني.