البحث العلمي.. الواقع والمأمول
نبدأ مقالنا بكلمة رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي التي ألقاها يوم عيد العلم سنة 2019، وكان نصها: "إن الاهتمام بالتعليم والبحث العلمي والابتكار كان ولازال من أهم أولويات الدولة، ولقد استمرت الدولة في تنفيذ وخدمة رؤيتها التنموية، لا سيما عن طريق زيادة المخصصات المالية الموجهة للتعليم العالي والبحث العلمي، كما بدأت الحكومة في إعادة صياغة بنية تشريعية طموحة ومتكاملة ومحفزة للبحث العلمي والابتكار، إلى جانب إنشاء الجامعات الجديدة الإقليمية والدولية والخاصة والتكنولوجية لإتاحة فرص تعليمية لائقة لأبنائنا، كما دعمت الدولة إنشاء مراكز للتميز العلمي ومكاتب نقل وتوطين التكنولوجيا".
من خلال هذه الكلمات العصماء يتبين لنا رؤية بلادنا الحبيبة واهتمامها بالبحث العلمي والمشاريع البحثية تحقيقاً لنهضة البلاد، ورفع القدرة الإنتاجية لمختلف مؤسسات الدولة. والسؤال الآن، هل هذه الرؤية هي ما يتم تطبيقها على ارض الواقع؟ أو التساؤل بمعنى أدق، هل تم العمل وتطبيق هذه الرؤية، ام بقيت رؤية نظرية بلا تطبيق؟ وللإجابة عن هذه التساؤلات سيدور حديثنا الآن حول عرض ما يحويه الواقع من هشاشة علمية فجة، وسنوضح أيضاً ما نأمل أن نكون عليه ونتطلع لمعايشته داخل بلادنا.
كانت بداية الأمل في مطلع سنة 2016، وتحديداً في اليوم التاسع من شهر يناير وهو يوم الشباب المصري، وخلال احتفال أقيم بدار الأوبرا المصرية انطلقت منصة أول أرشيف مكتبي مصري على الإنترنت يحمل اسم "بنك المعرفة المصري"، وتم تنفيذ هذا المشروع الثقافي الهام تحت قيادة الدكتور طارق شوقي وزير التربية والتعليم والتعليم الفني الآن، وكان في ذلك الوقت أمين عام المجالس التخصصية. وفي حوار أُجري مع جريدة الأهرام، أكد في بداية حديثه أن "بنك المعرفة" يمثل ثورة ثقافية كبرى. وأكمل حديثه قائلاً: " بنك المعرفة المصري هو أحد مشاريع مبادرة الرئيس «نحو مجتمع مصري يتعلم ويفكر ويبتكر» التي أطلقها الرئيس العام الماضي (2015) خلال عيد العلم حيث نسعى لإتاحة أكبر قدر من المحتوى المعرفي للمواطنين في مصر وعلى ذلك توجهنا للجهات والدول حيث توجد المعرفة سواء كانت علوما أساسية أو تطبيقية أو تقنية أو في العلوم الإنسانية أو علوم الإدارة والمحاسبة أو حتى كتب الثقافة العامة بما في ذلك الكتب الموجهة للأطفال وحاولنا أن نحصل على أكبر كم من المحتوى وانتهى الأمر إلى أننا تعاقدنا مع أكثر من 27 دار نشر عالمية مثل السيفير وسبرينجر والجمعية الملكية البريطانية للكيمياء المعنية بالنشر العلمى ولديها مئات الألوف من الكتب في مختلف التخصصات إضافة إلى امتلاكها أهم المجلات والدوريات العلمية العالمية منذ عام 1824 حتى يومنا هذا بالإضافة إلى مؤسسات تصدر دوريات متخصصة مثل تومسون رويترز وناشيونال جيوجرافيك والـبى بى سى والمكتبة البريطانية ودار نشر أكسفورد وديسكفرى وغيرها، وهو ما يعنى أن كل مصري سيمتلك حق الدخول والتصفح مجانا لأكبر مكتبة إلكترونية في العالم تجمع كل الجهات العالمية المنتجة للمعرفة".
كما أكد الدكتور شوقي: "يجب ألا ننسى أن ثلثي المجتمع من الشباب وبالتالي فإن الرهان على الشرائح العمرية الأصغر التي لديها قدرة أكبر على التعلم واكتساب المهارات المعرفية والتقنية في وقت قياسي والتغلب على جميع العراقيل التي ذكرتها. وبشكل عام ما نقدمه هو مبادرة ونأمل أن تحرك ساكنا وتدفع الطلبة والشباب للاهتمام أكثر بالمعرفة وبكل ما هو جديد في العالم في شتى مجالات الثقافة والعلوم".
ومن الوضح أن هذا المشروع كان حلماً يحمل في جُعبته بريقا وبصيصا للمستقبل، ولكن هل تم الاستعانة بهذا المشروع كما ينبغي أم لا؟ سنؤجل إجابتنا عن هذا السؤال قليلاً.
وكما هو معلوم أن بنك المعرفة يحتوي على مصادر عربية واجنبية عديدة أهما: الدوريات المصرية ودار المنظومة التي تحتوي على عدة قواعد علمية متخصصة، بالإضافة لوجود عدد آخر من المصادر التي تخد الباحثين مثل: الكشاف العربي للاستشهادات المرجعية، مكتبة لبنان للمعاجم، المؤتمرات المصرية. اما عن التبويب الخاص بالمصادر الأجنبية نذكر اهما، مثل: Taylor and Francis – ProQuest – Jstor.
هذا عن "بنك المعرفة"، إلا أنه يوجد مصدر رئيسي آخر وقبلة للباحثين، للبحث وتقديم المصادر العلمية وهي "مكتبة الإسكندرية"، وغني عن البيان التعريف بمكتبة الإسكندرية فهي صرح ثقافي عملاق له تاريخ ثقافي وبحثي عريق. إلا ان مكتبة الإسكندرية تمكنت من وضع مشروع عملاق يحمل مسمى "سفارة المعرفة"، وطبقاً لموقع مكتبة الإسكندرية وجدنا، ان هذا التطور من أطلقها لهذا المشروع يبدأ مع عام 2014، حيث جاء التفكير في إنشاء سفارات لمكتبة الإسكندرية في جميع المحافظات بداخل الحرم الجامعي لكل جامعة، وبذلك تتمكن المكتبة من تخطي البعد الجغرافي، وتوصيل خدماتها إلى أكبر عدد ممكن من المستفيدين. وتقدم السفارات خدماتها إلى مختلف رواد الحرم الجامعي، كطلاب، والباحثين، والعاملين بالجامعة.
ونأتي الآن للتساؤل الذي أجلنا الإجابة عنه وهو، هل تم الاستعانة بهذه المشاريع كما ينبغي أم لا؟ أو بمعنى آخر، هل تم توظيف هذه المعارف والمشاريع البحثية والثقافية كما ينبغي أم لا؟ في الحقيقة أن الواقع يكشف لنا ما يُعانيه البحث العلمي في بلادنا، للأسف نجد ان كثير من الباحثين المشتغلين على رسائل الماجستير والدكتوراة، لم يحققوا الاستفادة الحقيقية سواء من "بنك المعرفة" أو مكتبة الإسكندرية بفروعِها. وخير شاهد على هذا هو افتقار عدد كبير من رسائل الماجستير والدكتوراة على المراجع الحديثة. ولكن هل هذا هو خطأ الباحثين وحدهم؟ بالطبع لا، فالباحثين المشتغلين على الرسائل لابد وأن يتم إعدادِهم قبل التسجيل للماجستير على استخدام قواعد البيانات المحلية والعالمية، وأيضاً على البحث على الإنترنت عموماً.
والسؤال الذي يفرض نفسه علينا الآن، هل هذا التقصير من قبل الباحثين يؤثر على مستقبل البحث العلمي في بلادنا؟ بالطبع نعم، إن عدم الاطلاع على الجديد وخاصة ما يُنشر في المؤتمرات العلمية، والمجلات العلمية المحلية منها، والعالمية، يؤثر بصفة أساسية على التوجه البحثي، وعلى أفكار الباحث. اذكر أنني أثناء حضوري لمناقشة ماجستير، وعند مناقشة الباحث من قبل المناقشين الاثنين، اتفقا على أن الموضوع المُقدم من قِبل الباحث، يفتقر إلى عدد كبير من المصادر الأساسية وكان لابد عليه من الرجوع إليه، وأضافوا أن عدم رجوعه لهذه المصادر أثر بصورة سلبية على رسالته مما أدى إلى بتر كثير من الأفكار وعدم اكتمالها. إن ما نلمسه هنا وبوضوح شديد، أن البحث العلمي يتطلب من المشتغلين به هو البحث عما هو جديد باستمرار، لإثراء وتحديث أفكارهم، وهذا هو المقصد الرئيس للبحث العلمي.
وفي الختام، أوصي الباحثين في شتى المجالات أن يكونوا على تواصل واطلاع دائم بما يُنشر من جديد في مجالِهم، حتى لا يصلوا بأبحاثهم إلى درجة الدونية والتكرار. كما أدعو الباحثين لحضور الورش التدريبية الخاصة بـ "بنك المعرفة"، والتدريب أيضاً على إجراء البحث على شبكة الإنترنت للاستفادة بهذه المشاريع العريقة. كما ادعوا الجامعات والكليات بمختلف أقسامها أن يقوموا بتفعيل المجالس العلمية المتوقفة في بعض الجامعات، والتي تكاد تكون مُنعدمة، وذلك للمناقشة والوقوف على المُستجدات العلمية الحاصلة في هذا التخصص أو ذاك، وأيضاً معاونة الباحثين في رسائلهم من خلال مُلتقى علمي دقيق ومستمر.