عالم يتغير.. ويتعلم الدرس
العالم يتعلم من أخطائه وأزماته وصراعاته.. فالجميع يعيدون النظر فى سياساتهم ونظرياتهم.. فقد سقطت التابوهات القديمة.. نحن أمام متغيرات حقيقية سواء سياسية أو اقتصادية وأمنية وإعلامية.. فرضتها الحرب الروسية- الأوكرانية.. فالتغيير ليس قاصراً على بزوغ نظام عالمى جديد يتشكل الآن فى جنبات الصراع بين المعسكرين الغربى والروسى.. ولكنه فرض أيضا على الدول المرشحة لصعود الهرم العالمى مثل الهند فى كيفية الاستفادة من تجربة النموذج الصينى فى تعاملاته مع الغرب إلى الآن.. وأيضا كيف تتغير سياسات الدول من الداخل فى ظل استيعابها دروس الأزمة العالمية.. وكيف تعيد الدول الغنية التى لديها موارد مالية هائلة صياغة خارطة استثماراتها خارج أراضيها بعد الإسراف فى العقوبات الاقتصادية التى استهدفت كيانات وأفراداً روسيين لتبحث عن دول ومناطق أكثر أمناً واستقراراً سياسياً وأبرزها مصر.
من واقع دروس الحرب الروسية- الأوكرانية.. الجميع يعيد النظر فى حساباته
لا أحد يتوقع وجود حل فى الأفق القريب للأزمة الروسية- الأوكرانية أو الوصول إلى حل توافقى لخروج المعسكرين الغربى والروسى من نفق العناد المستطير، وتلقى حالة الضبابية لاتجاه الأزمة ومستقبلها إلى إدراك طبيعة المشاهد القادمة.. فلا سبيل حتى هذه اللحظة لوجود أمل للخروج من الأزمة المعقدة والشائكة بين طرفى النزاع.. فعلى ضوء النجاح أو الفشل تتشكل العديد من المعطيات والمتغيرات العالمية، بنجاح روسيا فى هزيمة الغرب وهو ما يترتب عليه تغيير جذرى فى قواعد اللعبة الدولية، وسقوط الأدبيات القديمة، خاصة مع الخصم الجديد الصين أو الغريم القادم وهو الهند، واحتمالية بزوغ روسيا وتشكيل واقع عالمى جديد، يفضي بطبيعة الحال إلى نظام عالمى.. أما الفشل الروسى فيشير إلى احتمالية استخدام أسلحة غير تقليدية فى ضوء أن القبول بالهزيمة يعنى تهديداً وجودياً للدولة الروسية، وهو ما لن يتقبله الرئيس فلاديمير بوتين أو حتى السماح به فى ضوء تجربته التاريخية التى لن يفرط فى نجاحها أو فى ظل ما عاصره من انتكاسات مست الشموخ والكبرياء الروسى عقب انهيار الاتحاد السوفيتى فى عام 1991.
الحقيقة أن العالم فى تحد كبير يصل إلى مرحلة الخطر الداهم فى ظل غموض وضبابية المشهد فى ظل الأزمة الروسية- الأوكرانية والصراع المعقد والعناد السياسى بين المعسكرين الغربى الذى يقوده الجانب الأمريكى فى ظل حساباته ببزوغ قوة دولية صاعدة مثل الصين فى عام 2030 أو فى ظل تنامى الصعود الهندى المرشح ليكون القوة الاقتصادية الثانية بعد الصين فى عام 2050.. وهو ما يفرض على نيودلهى أن تعى الدروس المستفادة من النموذج الصينى وعلاقته بالغرب فى مراحل صعودها وحتى الآن.
الحقيقة أن الأزمة الروسية- الأوكرانية التى تجسد صراع الإرادات بين المعسكرين الغربى والروسى، التى لم يظهر حتى الآن أفق لنهايتها أو تطورها، لكن فى النهاية هناك مجموعة من الدروس المستفادة والنتائج المهمة التى يجب التوقف أمامها، كالتالى:
أولاً: ليس من السهولة التوقع بتوقيت نهاية الأزمة »الروسية- الأوكرانية«.. فى ظل تمسك كل معسكر بأهدافه وعناده الشديد.. وكذلك الأبعاد القادمة التى سيكون عليها الصراع.. وهل يصل إلى مدايات أكثر خطورة، إن كانت هناك حالة من التعقل والرشد فى إدارة الصراع، وعدم الوصول به إلى ما لا يحمد عقباه على العالم أجمع.
ثانياً: إن الأزمة الروسية- الأوكرانية خلقت مخاضاً لنظام عالمى جديد، فرض نفسه بتشكيل ربما عقب نهاية الأزمة ليكون أكثر وضوحاً.. لكنه لن يخرج من وجود أكثر من قطب فى هذا العالم.. أمريكا والغرب من ناحية، والصين وروسيا والهند من جانب آخر.. فى كل المعطيات على أرض الواقع الآن فى تمدد وتنامى الحالة الصينية المرشحة لأن تكون الأولى اقتصادياً على مستوى العالم فى 2030، والهند الثانية بحلول 2050، وما تتمتع به روسيا من قدرات هائلة سواء فى مجال القوة أو النفط والغاز وثروات أخرى، بالإضافة إلى الميراث القادم من الاتحاد السوفيتى والمتمثل فى القوة النووية الأضخم فى العالم وقوة «الفيتو»، وكذلك ثروات النفط والغاز.. والآلة العسكرية بصفة عامة.
ثالثاً: فى اعتقادى الشخصى، أن الفرصة سانحة أمام العرب ليكونوا قوة فى النظام العالمى الجديد.. مستقلة ومرتبطة بباقى القوى العالمية ومنفتحة على الأقطاب الجماعية، بما لديهم من إمكانيات وقدرات وثروات وموقع جغرافى حاكم فى المنطقة والعالم إذا ما توحدت صفوفهم وكلمتهم وتعانقت إرادتهم وتكاملت ثرواتهم وأدركوا أن الخلاف والفرقة سيصيب الأمة بالضعف والهوان ولعل الجهود المصرية الخلاقة التى نجحت خلال السنوات الـ «٨ الماضية» فى إحداث حالة كبيرة من التقارب العربى تبعث على التفاؤل، بالإضافة إلى حالة التكالب الدولى العالمى على العرب تشير إلى أنهم قوة فى موازين القوى العالمية يعمل لها ألف حساب وأقصد هنا القوة والقدرة الشاملة.
رابعاً: إن إدارة الصراع بين المعسكرين الغربى والروسى رغم صعوبة الوصول لحلول، إلا أنها تتمتع بالرشد والحكمة، فالجانب الروسى حريص فى إدارة الحرب على أوكرانيا وفق مخطط استراتيجى شامل ومكتمل الأركان عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، وبالأخص فى الجانب العسكرى، فلا يتسم بالاندفاع والتهور أو يتجه صوب المغامرات والمقامرات التى قد تسبب تداعيات تحدث أضراراً لروسيا، بما يشير إلى أن الاستعدادات الروسية للعملية العسكرية تمت منذ فترة ليست بقريبة وتحسبت لكل المتغيرات وقارئة لكل الاحتمالات والسيناريوهات.
خامساً: فى الأزمة «الروسية- الأوكرانية»، هناك متغير جديد يتعلق بأسباب إقدام دولة على إدارة حرب أو عملية عسكرية فى أراضى دولة أخرى.. وهى المخاوف من تمدد الموجات الثورية، فروسيا أقامت دوافعها وحساباتها وتقديرات موقفها على عدم السماح بوصول موجات الثورات والمتغيرات السياسية التى اجتاحت أوروبا الشرقية خلال العقود الأخيرة بألوان ومسميات وشعارات متنوعة ومختلفة، إلى العمق والداخل الروسى باستخدام أوكرانيا، لذلك ترفض تماماً وبشكل قاطع انضمام كييف إلى حلف «الناتو»، خاصة أن هذه الأفكار الثورية ذات الألوان المختلفة تهدد الداخل الروسى وتماسك الدولة الروسية.. لذلك قررت روسيا التدخل عسكرياً لاستئصال هذا التهديد وتحييد أوكرانيا وبناء سياج يحول دون وصول التهديدات الغربية أو لتمدد الثورات إلى داخلها، وهذا بُعد جديد فى أسباب ودوافع اللجوء إلى قرار الحرب.
سادساً: العقوبات الاقتصادية المتنوعة والغزيرة على روسيا التى وصلت إلى ما يقرب من 6500 عقوبة من جانب أمريكا والغرب، خلفت مناخ عدم الثقة والتوجس وإعادة الحسابات بالنسبة للدول الغنية بعدم اقتصار استثمار مواردها المالية الضخمة فى دول بعينها، خاصة دول الغرب والولايات المتحدة، فى ظل ما جرى فى الأزمة التى عكست أن ثروات الدول أو الأشخاص لن تكون آمنة فى ظل الإجراءات التى اتخذتها واشنطن ضد كيانات وأفراد روس وهو فرض قواعد جديدة على الدول الغنية فى البحث عن دول تتمتع بالأمن والاستقرار السياسى لاستثمار مواردها المالية، وعلى رأس هذه الدول تأتى مصر بما لديها من استقرار أمنى وسياسى وفرص تتمتع بالتنوع والتعدد فى مختلف المجالات.
سابعاً: تأثيرات الأزمة الروسية- الأوكرانية على الاستقرار الاقتصادى العالمى الأمن الغذائى العالمى والطاقة أيضا فى ظل الارتفاع الكبير فى معدلات التضخم وزيادة الأسعار واختلال منظومة الاحتياجات وسلاسل التوريد أكد أهمية التفكير بالنسبة للدول فى إيجاد حلول تتسم بالاستمرارية وتوفير احتياجات شعوبها بالاعتماد على الداخل، ولعل النموذج المصرى الاستباقى، خاصة فيما تحقق على مدار السنوات الـ «٨ الماضية» من مشروعات عملاقة فى جميع المجالات والقطاعات، وفى مقدمتها الأمن الغذائى والتوسع فى الزراعة والسعى للقضاء على مظاهر النقص والعجز وتوفير مخزون استراتيجى من السلع الأساسية يزيد على 6 أشهر، جنبت مصر وبشكل واضح الكثير من التداعيات الخطيرة، فالمصريون فى أوج تأثيرات الأزمة العالمية لا يعانون أى نوع من النقص أو العجز فى أى سلع أساسية.
ثامناً: الأزمة الروسية- الأوكرانية أكدت أهمية وخطورة الإعلام كسلاح مهم فى أيدى الدول لتشكيل رأى عام محلى أو دولى لدعم سياساتها وتوجهاتها، فعلى سبيل المثال فإن الجانب الروسى قاد أكبر عملية شحن للرأى العام الداخلى ضد الولايات المتحدة وممارساتها بل واتهامها بأنها وراء إشعال الثورة البلشفية عام 1917 التى أنهت حقبة روسيا القيصرية.
على الجانب الآخر فى المعسكر الغربى تنشط الآلة الإعلامية فى إدانة وعدم شرعية القرار الروسى بالحرب على أوكرانيا وأنه مخالف لكل الأعراف والمواثيق والقوانين الدولية، فى حين أن الإعلام الروسى يقول إنه دفاع مشروع عن النفس والوجود والأمن الروسى.. لكن فى النهاية فإن الإعلام لاعب رئيسى فى إدارة أى نوع من الصراع السياسى والعسكرى، فإعلام الحروب أيضا إذا تطرقنا إليه تفصيلاً فى إدارته يحتاج صفحات طويلة، خاصة فيما يتعلق بالروح المعنوية والحروب النفسية والإيمان الشعبى بعدالة القضية الوطنية وشرعية القرار وتمجيد البطولات والانتصارات.. لذلك فمن المؤكد أن الأزمة جددت التأكيد على محورية دور الإعلام على الصعيدين الداخلى فى بناء الوعى والاصطفاف الوطنى، أو تشكيل رأى عام دولى مؤازر للقضية، أو متفهم لأهداف وحقيقة الحرب.
تاسعاً: فى اعتقادى أن ما يحدث من أزمة فى روسيا وأوكرانيا هو استمرار لسيناريوهات العقود الأربعة الأخيرة.. فالجانب الغربى يريد إخراج روسيا من معادلة القوة الدولية بأساليب جديدة ومبتكرة ودون المواجهة العسكرية المباشرة من خلال تفكيك من الداخل باستهداف وعى الشعب الروسى وتغيير ثوابته وقناعاته واختراق العمق الروسى وتهديد تماسك الدول ووجودها من خلال تصدير الموجات الثورية، وهو ما وجدت فيه موسكو تهديداً خطيراً لأمنها واستقرارها ووجودها، فقررت استباق وصول الخطر والإجهاز عليه مبكراً وقبل وصوله.. وهذا من أهم الدوافع الروسية لإدارة عملية عسكرية فى أوكرانيا.
عاشراً: من وحى ونتائج الأزمة الروسية- الأوكرانية تستطيع أن تستشف محاولات متبادلة لإجهاض ووأد الصعود سواء فى نوايا وأهداف المعسكر الغربى الذى يستشعر خطر تنامى الصعود الروسى- الصينى، وتحولهما إلى قطب عالمى منافس وربما متفوق عن المعسكر الأمريكى- الغربى نهاية هذا العقد.. لذلك قررت واشنطن وحلفاؤها إجهاض هذا الصعود والتنامى الصينى- الروسى الذى رصدته مراكز الأبحاث وصنع القرار الأمريكى، وهو ما يشكل خطراً داهماً على النفوذ والهيمنة الأمريكية.. كذلك الجانب الروسى ومن خلفه الصينى قرر استباق الخطر وتوجيه ضربة قاصمة للتهديد القادم من أوكرانيا الذى يمثل جوهر المخطط الغربى للنيل من القوتين القادمتين الصاعدتين.
حادى عشر: إن الأزمة الروسية- الأوكرانية فرضت على الجميع تغيير قواعد اللعبة وصياغة سياسات جديدة والتعاطى مع متغيرات مستجدة، فالدول الغنية التى تمتلك الموارد المالية الضخمة بطبيعة الحال سوف تعيد النظر فى توزيع خارطة استثماراتها خارج أراضيها فى ظل تعلم الدرس من العقوبات الاقتصادية التى فرضتها الولايات المتحدة ضد الكيانات والأفراد الروس.. كذلك فإن الدول الصاعدة أو المرشحة لتكون على قمة الهرم الاقتصادى العالمى لابد أن تتعلم من علاقة الصين بالغرب فى مراحل صعود بكين وحتى الآن، كذلك فإن الدول التى تعرضت لأزمات عنيفة وأضيرت بشكل بالغ جراء الحرب الروسية- الأوكرانية، خاصة فى مجال الأمن الغذائى والاحتياجات والسلع الأساسية بدأت تفكر بشكل مختلف وتتجه إلى إيجاد بدائل محلية كانت لا تهتم بها قبل نشوب الأزمة، إذن نستطيع القول إن الصراع الغربى- الروسى فرض على الجميع تغيير الأفكار والقرارات وطريقة التعاطى مع التحديات سواء على صعيد الداخل أو التعامل الدولى.. ببساطة الأزمة أدت إلى سقوط وتحطيم الأفكار والمعطيات القديمة فى كل شىء.
ثانى عشر: الأزمة الروسية- الأوكرانية هى أكبر من صراع بين دولتين، ولكنها تجسد صراعاً دولياً.. ولا أريد القول حرباً عالمية ثالثة بدأت، ولكن بنوع من الأحداث والوسائل والأسلحة الجديدة، تدار بحذر وحكمة وبإجراءات، وأيضا بالوكالة على الأرض وبتصريحات ومنابر إعلامية وسياسية بشكل مباشر، خشية الثورة فى مواجهات لا «وجودية» تصعد من وتيرة استخدام أسلحة غير تقليدية، وإن كان هذا الأمر وارد الحدوث فى حال الفشل الروسى فى إنجاز مهمته وعدم تقبله للهزيمة، كما أنه لا يبدو فى الأفق ملامح للحل والتسوية والاتفاق، فإن استمرار وتصاعد تداعيات الأزمة تنذر بكوارث عالمية أكثر خطورة.
ثالث عشر: من أهم دروس الأزمة أيضا، ضرورة البحث عن حلول وبدائل داخلية، فى ظل عالم متغير غير مضمون وتغير الثقافات الخاصة تحديداً نوعية الاستهلاك، وتغيير جدول الأولويات، ولابد من تركيز الدول واهتمامها على مجالات بعينها، ومشروعات بصفة عامة تتعلق بالأمن الغذائى وتوطين الصناعة والبحث عن مزيد من جذب الاستثمارات، فلابد من تحديد جدول واضح للاحتياجات التى نجد فيها مظاهر عجز، ونعمل عليها للوصول إلى الاكتفاء منها أو تقليل الاعتماد على الخارج.. هناك أيضا درس مهم من نتائج الأزمة الروسية- الأوكرانية، وهو حتمية بناء الوعى الحقيقى والفهم الصحيح، خاصة أنه أكسير وأهم محاور الأمن والاستقرار السياسى والأمنى وضرورة الاهتمام الكبير بالإعلام ومكونات القوى الناعمة وصياغة استراتيجيات إعلامية وثقافية وفنية تتسق مع التحديات فى الداخل والخارج وتجابه الحروب الجديدة التى تسعى لتغييب الشعوب وتزييف وعيها واستبدال ثقافتها.
رابع عشر: فى اعتقادى أن من أهم الرسائل التى أوجدتها الأزمة الروسية- الأوكرانية وما خلفته من أزمات اقتصادية عالمية وانعكاسات خطيرة على الأمن الغذائى العالمى هو قوة ونجاح وسلامة الرؤية المصرية على مدار السنوات الـ ٨ الماضية، فالمواطن المصرى يعيش حالة من الاطمئنان على توافر احتياجاته وعدم تعرضه لأى نوع من الأزمات سواء فى ظل المشروعات القومية العملاقة التى آتت ثمارها وأدرك المصريون قيمتها فى أتون الأزمة العالمية أو فيما تقدمه الدولة المصرية من دعم ومساندة وحماية اجتماعية لمواطنيها، خاصة القرارات الأخيرة التى جاءت بتوجيهات رئاسية لمساندة الفئات الأكثر احتياجاً، لذلك أصبح المواطن المصرى أكثر تقديراً وإدراكاً لقيمة ما تحقق من إنجازات ونجاحات فى ظل ما يواجه دولاً وشعوباً كثيرة فى العالم من أزمات طاحنة وقلة فى السلع والاحتياجات الأساسية.