واشنطن بكين .. لعبة عض الأصابع من يدفع الثمن؟!
لا أستطيع إخفاء إعجابي الشديد بـ نانسي بيلوسي، فهي شخصية مؤثرة في السياسة الأمريكية منذ عقود، وهي أول سيدة في الولايات المتحدة تجلس على مقعد رئاسة مجلس النواب، المنصب الذي يجعلها في الترتيب الثالث في هرم السلطة الأمريكية، لم تكن المواجهة بينها وبين الرئيس السابق للولايات المتحدة دونالد ترامب بالمعركة اليسيرة بل كانت معركة تحبس أنفاس الأمريكيين، أما المعركة التي بدأت أمس عقب زياتها لتايوان تحبس أنفاس العالم أجمع خوفا من اشتعال حرب عالمية ثالثة، أو الدخول في دائرة صدمة اقتصادية أكبر من الوضع الراهن.
كانت بيلوسي واحدة من أبرز الأصوات المعارضة للغزو الأمريكي للعراق عام 2003، على أثر ذلك تمكن الديمقراطيون خلال العام 2006 من السيطرة على مجلس النواب، إذن نحن أمام شخصية استثنائية متمرسة في العمل السياسي، ولديها موقف واضح من بكين له خلفيات، على سبيل المثال احتجاجها العلني على مذبحة ميدان تيانانمين، واتخذت "بيلوسي" آنذاك مواقف علنية لعقود، كذلك حول التبت وغيرها من قضايا حقوق الإنسان التي تثير غضب بكين.
ناهيك عن أن صناعة القرار السياسي داخل الولايات المتحدة تتم عبر مؤسسات، حتى لو كان لدى المسئول مساحة من حرية الحركة، وبالتالي كانت زيارة "بيلوسي" لـ تايوان في الوقت الراهن محسوبة بدقة أرادت من خلالها واشنطن توجيه رسالة لبكين مفادها أنها القطب الذي يحرك العالم ولن تسمح بتغيير ذلك الوضع، الأمر الذي وضع بكين في مأزق كبير، إما القبول بذلك الوضع أو الرد عبر مجموعة من الإجراءات والتي لوحت بها "بكين" خلال زيارة "بيلوسي" لتايوان ومن بينها "عمليات عسكرية محدودة" إلى جانب اتخاذ إجراءات اقتصادية، والتي بدأت بالفعل، وهي إجراءات سيكون لها أثرها الاقتصادي يدفع ثمنها مختلف دول العالم.
أعلنت بكين ضمن حزمة إجراءاتها وقف تصدير الرمال إلى تايوان، وتعد الصين المورد الرئيسي للرمل الطبيعي إلى تايوان، وهو المكون الذي يدخل في صناعة الرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات، وتعتبر تايوان مركزاً عالمياً لإنتاج الرقائق الإلكترونية وتحتكر توريدها إلى كثير من دول العالم من خلال شركتها العملاقة "TSMC"، وتدخل "الرقائق" في تصنيع جميع المنتجات الإلكترونية، و في صناعة الطائرات التجارية والحربية وأنظمة التسليح المطورة، والهواتف المحمولة وغيرها من أجهزة الحاسبات الإلكترونية.
ومع بداية فصل جديد من الصراع بين واشنطن وبكين، انعكس الأمر بشكل واضح على حالة البورصة حيث أنهت بورصة "وول ستريت" جلست 2 أغسطس الجاري على انخفاض، عقب حالة من التقلبات الشديدة على خلفية الزيارة وما يمكن أن يترتب عليها من نتائج الصراع بين أهم اقتصادين على مستوى العالم.
المراقب لتطور الأحداث من المتخصصين والخبراء في علوم الاقتصاد والسياسة، يمكنه أن يدرك أن العالم سوف يعاني زيادة حجم "الركود التضخمي"، والدخول إلى دائرة صدمات اقتصادية وفقدان للوظائف حول العالم في حال ارتفاع وتيرة الصراع بين واشنطن وبكين حول تايوان.
وفي اعتقادي أن بكين لن تتورط في إجراء عسكري يمكن أن يشعل المواجهة مع واشنطن، بالرغم من تلويحات بكين على الأرض من خلال إجراء مناورات عسكرية، لكنها ستكون معركة "عض الأصابع" واستخدام أساليب تقترب أكثر من الإجراءات الاقتصادية، فالتنين الصيني يدرك تماما حجم الورطة التي ذهب إليها القيصر الروسي الذي يضغط الآن على الغرب بسلاح الغاز، لكن اقتصاده يعاني، وبكين يمكنها أن تلجأ إلى أساليب أخرى سوف تكشف عنها الأيام المقبلة.
ما يحدث حاليا فصول من الصراع بين الولايات المتحدة التي تخشى الدخول إلى مرحلة "الأسد العجوز" الذي يخشى من فقدان السيطرة والهيمنة على العالم والتنين الشاب، الذي يرغب في لعب دور أكبر من الهيمنة الاقتصادية، ورغبة القيصر الروسي في استعادة الحلم الإمبراطوري من جديد.
أعتقد أن رقعة الشطرنج سوف يعاد ترتيبها من جديد، وأن العالم سوف يدخل إلى شكل جديد من أشكال الصراع بين الكبار، وسوف يدفع ثمن ذلك الصراع آخرون، ربما تكون البروفا الأولى للصراع الحرب السيبرانية، وخفض إنتاج الرقائق الإلكترونية والضغوط الاقتصادية المتبادلة بين طرفيّ الصراع قبل الدخول لمواجهة عسكرية لا يعرف مداها إلا الله.