حديث النفس.. «تنويم مغناطيسي»
يأسرنى ذلك اللص اللعين.. يوهمنى ذلك الدفء المزيف.. أسير معصوبة العينين عالقة وسط غيرى.. عشقت وهما أنى ألامس الغيوم وأجوب سماء واهية.. كيف لى وقد أغلقت أذنى وعقلى وقلبى أن أطمح أن أحلق عاليا.. فمازالت فى الدرك الأسفل أتعثر فى سراديب متاهات غيرى.. بعدما نسيت أن أتأمل كيف ضاعت أيامى وسنونى.. أسير طريقى مغيبة العقل واهية.. أموت.. أختنق.. طامحة لجرعات الشجاعة والجنون.. أسرع الخطى لأتجرع جرعات الوهم والخيال.. لا أعلم أكان اختيارى أم استسلامى! أضعت عمرى بين عقارب الزمن، ولا أعلم هل كانت تبعية الفريسة للذئب أم الوفاء للخيانة.. طامعة أن أصل لبر الأمان.. وأى أمان وأنا أسير ولا أعلم ماذا ينتظرنى؟ مرتدية زى البلاهة والكسل.. فأصبحت فريسة وكذبة مهداة لظلام الهاوية .
ما بالنا نلقى بأنفسنا فى أحضان غيرنا.. نحيا بأولوياتهم ونظن فيهم غير ما يستحقون.. نغلق نوافذ قلوبنا وعقولنا ونسير وراءهم هائمين.. نتخذ منهم دليلا يسير بنا ونحن مخدرين.. ما بالنا نحرم أنفسنا من رؤية دروب المارين حولنا.. نغلق جميع أبوابنا ونعطى مفاتيحها لسجان يحرمنا حتى الرؤية من ثقب الباب.. ما بالنا نحرم أنفسنا أن نترك أبوابنا مواربة.. ما بالنا نستسلم ونفقد صبرنا.. نستمتع بالكذب على أنفسنا وإيهامها أننا بخير لنهرب من واقع يسمح لنا بتقبل الفكرة دون وعى أو إدراك.. ما بالنا نلقى بأنفسنا فى واقع يأسرنا ويحرمنا من نعمة الحياة نعيش معه فى الحلم والوهم.. ما بالنا نحيا حلم غيرنا وننسى أن نحلم لأنفسنا.. لماذا لا نفيق إلا بعدما نخسر الكثير والكثير؟ لماذا نسلم أنفسنا لغيرنا ليأخذوا بأيدينا فنسقط ونتهاوى عندما يتركوننا وسط الطريق.. نبحث عن نواقصنا فى غيرنا ناسين أننا كلنا ناقصون .
عشقنا الحجج الواهية لنسير مخدرين فى خوار وهباء منثور بحجة التضحية لإكمال الطريق.. قد يكون الأمر مقبولا إذا ما ضحينا بأشياء متبادلة متعادلة تجعلنا نتعايش بإقبال على الحياة، وتخلق فينا دوافع العطاء والإنجاز، وليست التضحية التى تفقدنا ذاتنا فنسقط فى وسط الطريق ممزقين، بعدها لم نعد نصلح لأى طريق.. ليصبح لسان حالنا أين نحن وفيما كنا.. أنهكتنا حياة اللا شيء .
فى حياة الكل يعمل فيها على إشباع رغباته وطموحاته، فى شكل حياة تشاركية أو حتى فى تشابك وتصارع مع آخرين.. فى علاقات متبادلة أو حتى مشوهة.. وكأن الحياة صراع يحاول كل منا أن يخضع الآخر فى علاقة تشبه التنويم المغناطيسى يسيطر فيها طرف على آخر، بشكل تختلف فيه دوافع وأسباب الخضوع والسيطرة.. يحكم مسارها طبائع أطرافها.. قد يغلب عليها دوافع الخوف من الوحدة أو الفشل أو المجهول الآتى.. فيدفع بنا لأخطاء تفقدنا هويتنا.. فيخضع أحد الطرفين للاستسلام فى علاقات إنسانية متشابكة ومعقدة فى طريق البحث عن الاحتواء والسند والعكاز والحضن الدافئ ومن يتولى أمرنا بشيء من الاسترضاء أو حتى الاستسهال يجعل طرفا صاحب قرار ومتحكما بشكل قد يعلى من الأنا لديه لإرضائه بدوافع متناقضة موجودة داخلنا جميعا.. وفى سبيل ذلك يتم التنازل عن أشياء عديدة من هوية الشخص نفسه.. فقد يوقعه حظه العثر فى يد طرف قاهر أو متسلط يضعه فى حالة من الصراع النفسى حتى ولو تجاهله لفترة من الفترات لكنه يكون بمنأى عن الراحة والطمأنينة فيعيش حالة من الشتات والاختناق تعيق قدراته عن النجاح بتحوله لأداة مفعول بها.. يتحول لحالة من الكسل تحرمه من ردود فعل يدافع بها عن حقوقه المسلوبة.. تخدر حواسه ليتحكم به ويفعل به ما يريد كما لو كان واقعا تحت تأثير التنويم المغناطيسى، وقد يتولد لديه أمل زائف فى خلق راحة لن تتحقق؛ لأن الوهم يخلق صورة مستحيلة التحقيق لغياب التعاطى والتفاعل بين الأطراف.. وهذا الأمر موجود فى كل العلاقات الإنسانية، رغم أنها ليست شكل العلاقة الوحيد لكنها شائعة فى تلك العلاقات التى تداخلت فيها عوامل الثقة سواء بين الرجل والمرأة بسبب التجاذب الطبيعى بينهما أو فى علاقة الأبوين بأبنائهم أو حتى بين الأصدقاء فيتهمش طرف فى مواجهة آخر.. وبمرور الوقت يفقد الطرف المسلوب الإرادة شعوره بقيمة الأشياء والأحداث بصورة قد يفقد معها إحساسه وثقته بنفسه.. حتى الحلم يصبح ممنوعا عليه سواء اجتهد أو لم يجتهد.. فيحيا حياة مشتتة الاتجاهات.. قد يكون ذلك لضعف فى نفسه أو هروبا من فراغ أو نوع من التضحية غير المبررة، فى وقت تتوافر رغبات السيطرة والتحكم لدى الطرف الآخر التى قد تصل للابتزاز أو التهديد بالرحيل.. فيستسلم خوفا من السقوط وحيدا .
ولأن الأيام تسابقنا وتفرض علينا إما السقوط أو المواجهة مع طبيعتها المتغيرة فلابد وأن تحدث الصدمة بعد فترات الخضوع مهما طالت أو قصرت.. فحالات الاستسلام تخلق لصاحبها نوما عميقا يدفعه لصراع يكفى لإخراجه من هذه الحالة متشوقا للحديث بعد الصمت والنهوض واليقظة بعد حالات التيه والظلام التى جعلته ليس هنا ولا هناك.. وفى نفس الوقت ليست الصدمة بعيدة عن الطرف المسيطر فقد يمل ويسأم اللعبة ويهجره ويتركه وحده فلم يعد لعبته المسلية.
لكن ما من شك أن لحظة الإفاقة والاستيقاظ سواء كانت طواعية أو كراهية هى لحظة قاسية وقتها يشعر صاحبها بالغربة وأن روحه فقدت الكثير.. وأنه ممزق كقطعة قماش بالية لم يعد يشفع معها الترقيع.. ويحلو له أن يتفحص نفسه فيكتشف كم أصبح صورة باهته من ظل ملقى به فى وسط الطريق.. وأنه لم يتبق لديه الكثير من الصمود بعد فقد قواه فى حروب غيره.. وقد يستمر الإحساس بالهزة وعدم الاتزان والتشتت ببن الألم والتمرد على حالة الخضوع وعندها ربما يواجه الموت والحياة فى نفس الوقت فى لحظة قاسية يحتاج معها لإرادة تجعله يتمسك بالحياة.. وإذا ما تغلب عليها واستيقظ يستنكر ما كان فيه ولسان حاله ظننت فيك الظل والحمى رفيق دربى ومعوال سنينى.. فيك أختبأ من ضعفى.. فخذلتنى وحطمتنى.. ولم أكن أدرى أنى بك منتحر .
ورغم أن الاستسلام كان دافعه الخوف من الوحدة فإن طول أمد العلاقات المشوهة تزيد شعورك بالوحدة.. لأنه يدفعك للهروب من مواجهة الحياة ويجعل مصيرك ضائعا ومستقبلك مجهولا، وبسببها تحرم نفسك من رؤية تطور الحياة وتغير نظرتك معها للأشياء والأشخاص ولكل ما حولك هاربا متوهما فى حالة النوم والسبات الانتظار لغد قد يأتى بأفضل ظان الأمل الكاذب فى هجرة لمن يتولى أمرك.
وتأتى لحظة الاستيقاظ عنيدة وصادمة تبحث فيها عن أرض تلامس أقدامك وشيء تتحسسه يدك يطمئنك أنك ما زلت على قيد الحياة.. فتدفعك هذه القدرة من البحث عن مزيد من التثبت والصمود.. فتبدأ بالتحرك فى محيطك بحذر متسائلا أين موقعى من الحياة؟ كم من العمر فقدته؟ هل أصبح الوقت متأخرا؟ ماذا أحتاج الآن؟ فتجيب أحتاج لزلزال يعود بى لعالمى وأرضى بعدما سئمت العيش مخدر المشاعر تائها.. ولسان حالك أصابنى السقوط لكنى عشقته.. أفاقنى حتى ولو كان صفعة أو حتى انتحارا.. فلا قيمة له دون ثمن حتى ولو أصابتنى الكسور والجروح ثمنا لعودتى للحياة ثانية.. فهو خير من حالات العمى الماضية .
وعندما نفيق نحاول أن نتذكر أين كنا متوقفين.. وكم مر علينا من أيام وسنين محرومين من لقاء أنفسنا.. فتمر أحداث كثيرة أمام ذاكرة عقولنا.. تصبح مجرد ذكريات مشوشة كثيرا ما غابت عنها الحقيقة.. ضللنا فيها الطريق.. لكن سرعان ما تعاود تعلقك بالحياة.. فتتولد طاقات الشغف داخلك محاولا تعويض ذاتك ما فقدته والإسراع بالنهوض لتبدأ رحلتك من جديد.. ولا يعدو الأمر سهلا فى أوله.. فلا تجد غير يدك تأخذ بك.. لكن عليك أن تتقابل مع الواقع بنفسك لتنجو بها بعيدا عن الخوف الذى يقيدك ويهدمك.. فتدفعك الرغبة فى العيش أن تستعيد وعيك فتتسرب إليك الحياة.. تفتح ذراعيك لها بعد طول حرمان.. فتسابق الخطى لتتبوأ مسئولياتك فى الحياة.. ولسان حالك سأصعد للسماء ولن أسمح للأرض أن تجذبنى لقاعها.. سأذهب للنجوم حتى ولو احترقت.. معاودا النهوض وصعود السلم دون أن تنقطع أنفاسى.. وتكرر على نفسك أنك لم تعد تخشى الوحدة ولا تكرار الجروح فتكرارها حتما متوقعا سنة للحياة .
وتستعيد ثقتك بنفسك وتصبح رافضا أن يتصدر أحد نبضك.. أو أن يتربع أحد عرش أنفاسك بعدما أصبحت وحدك القادر على إثارة الفوضى داخلك.. صانعا لفرحك وحزنك.. القادر على مواجهة خساراتك وخيباتك وأن ترى الأمور بعينك وتقدير عقلك مهما كانت الحقائق مجردة من كل سبب وعذر أو حتى ملونة ناقصة.. فأنت تراها بمرآة نفسك التى أصبحت تتمسك بها.. سعيدا باستعادة ذاتك المسلوبة متحملا نتيجة أخطاء تجربة حلمت بخوضها بعدما كتبت لك الحياة فرصة جديدة لرحلة جديدة.. فتطلق نفسك وروحك متحررا ولسان حالك الحبيس يتحرر.. طيفى يعاود الظهور.. أصبح عالمى غير معتم يملؤه النور.. أيا سرابى المتلاشى لم تعد تحتكر مجرى حياتى.. حانت ساعة يقظتى لأخاطبك وأودعك وأخلع عصابة عينى.. فأنا منك مهاجر.. لمغامرة الحياة معاود .
هى الحياة التى علينا أن نخوض معاركها وحدنا.. احتمالات المكسب والخسارة واردة.. ولا يهم أيها يفوق الآخر.. المهم ألا نفقد حرياتنا التى تحيى أرواحنا وتنعش قلوبنا.. ولا نسمح بجاثوم يقبع فوق نفوسنا.. يعيق حرياتنا المسئولة ويحرمنا من تبوؤ مقعدنا فى الحياة بإطلاق أرواحنا لتحقيق أحلامنا.. ليسير كل منا فى طريقه وحده متحملا أمانة الله فى الأرض التى أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها فحملها الإنسان لتكون نقطة انطلاق وإعمار لا نهاية عمياء لمعصوبى العينين .