نطرح السؤال حول دور رجال الدين فى بناء دولتنا الحديثة: أكشاك الفتوى لا تصلح لمواجهة الإرهاب!
بقلم – عبدالقادر شهيب
لا أكترث كثيرًا أو قليلًا لهذا الجدل الذى ثار إعلاميًا وإلكترونيًا حول إنشاء مجمع البحوث الإسلامية كشكًا للفتاوى فى محطة مترو الشهداء، كبداية لتعميم التجربة فى محطات أخرى.. فهذا الجدل طال فقط للأسف الشديد ما هو فرعى وتجاهل جوهر الأمر الذى يتعين أن نهتم به وهو دور رجال الدين فى بناء الدولة المصرية العصرية والحديثة، والتى تقوم على دعائم المواطنة والمساواة وتشيع التسامح بين المواطنين وتنبذ التطرف والتعصب والتمييز.
لقد اهتم الذين دخلوا حلبة النقاش حول هذا العمل (كشك للفتوى فى إحدى محطات مترو الأنفاق) بالسخرية منه والتهكم عليه والتندر بما فكروا فى القيام به، وتصوروا أنهم يقومون بعمل جليل أو يلبون طلبًا ملحًا لعدد ليس قليلاً من المواطنين.. كما اهتموا أيضًا بانتقاد تحمل إدارة المترو نفقات إنشاء هذا الكشك الخاص بالفتوى والتى بلغت نحو ٢٥ ألف جنيه، بينما رفضت شركة المترو فى المقابل أن تتحمل نفقات فعاليات وأعمال ثقافية.. وفى هذا الصدد لا أنسى كيف بالغت هذه الشركة فى تقدير تكاليف تأجير المكتبات التى كانت أسستها المؤسسات الصحفية القومية كالمكتبات التى كانت تباع فيها شتى أنواع الكتب السياسية والأدبية وغيرها.. كذلك اهتم أيضًا الذين تناولوا موضوع كشك الفتوى فى أحاديثهم بالإشارة إلى تعارض ذلك مع روح مبدأ المواطنة الذى يساوى بين المواطنين، رغم اختلاف جنسهم وعرقهم وانتمائهم الجغرافى والاجتماعى والدينى.. أيضا فإن كشك الفتوى يقدم خدماته الدينية للمواطنين المسلمين فقط ولا توجد أكشاك تماثله لتقديم خدمات دينية للمواطنين المسيحيين..
ولا اعتراض أو ملاحظات لى على كل ما قيل ومازال يقال حول إنشاء كشك للفتوى.. بل لعلى أراه كلاما صائبا ويتعين أن يتدبره هؤلاء الذين فكروا فى تأسيس أكشاك للفتوى للمواطنين المسلمين، حتى مع تقديرى لكل ما قالوه من أجل تعليل.. ولا أقول تبرير.. هذه الفكرة من أجل تيسير تقديم الفتاوى الدينية السليمة والصحيحة لهؤلاء المواطنين، خاصة أن الأمر لا يقتصر على إنشاء كشك حاليا أو أكشاك مستقبلا فى محطات المترو، وإنما اتسع لكى يشمل استغلال إذاعة المترو الداخلية فى أحاديث دينية مجالها خارج محطات المترو ومحطات الأتوبيس العامة والشوارع والميادين.
ولكننى أرى أن جوهر الموضوع يكمن فى تحديد دور رجال الدين حاليا، سواء كانوا رجال دين إسلامى أو رجال دين مسيحى.. هذا هو السؤال الذى يتعين أن يقوم به رجال الدين فى هذه المرحلة التى يعيشها أو ما هو دورهم الذى نحتاجه فعلا الآن فى عملية بناء الدولة المصرية الحديثة والعصرية؟.
هذا هو السؤال الذى يجب أن نطرحه بصراحة على أنفسنا وعلى كل رجال الدين ، فى ظل ظروف المرحلة التى نعيشها حاليا، حتى يعرف رجال الدين لدينا ونحن معهم أولويات مهامهم.. لنركز على هذه الأولويات، حتى لا نفاجأ مستقبلا بأفكار أخرى مشابهة لأكشاك الفتوى تثير جدلًا بيننا، بينما نحن نحتاج لأكبر قدر من التماسك الوطنى.
ومثل هذا السؤال لا يطرح فى العديد من الدول التى نهجت منذ وقت مبكر نهج الفصل بين الدين والدولة، والتى صار فيها رجال الدين مهتمين فقط بأمور الدين وشئون المؤسسات الدينية.. وحتى بعض رجال الدين الذين يمارسون عملا مدنيا يتم التعامل معهم بوصفهم مواطنين لا يتميزون عن غيرهم بشىء.
لكننا فى مصر الوضع مغاير لدول كثيرة أخرى، حيث يلعب الدين - أى دين - دورًا مهما فى حياة أهلها.. لأن العاطفة الدينية والغيرة على الدين كبيرة ومتجذرة حتى قبل ظهور الأديان السماوية، حيث عرفت مصر الدين منذ القدم، وحتى قبل تأسيس أقدم دولة فى التاريخ.
ولذلك يطرح السؤال فى بلدنا كثيرا حول دور رجال الدين فى بناء الدولة المصرية العصرية، التى تتسم بأنها دولة المساواة والعدل والقانون والديمقراطية مع التقدم الاقتصادى بالطبع.
فلا يمكن تجاهل المكانة الخاصة للدين فى نفوس المصريين مسلمين ومسيحيين، ولا غض للبصر عن الاحترام الذى يحظى به رجل الدين فى المجتمع المصرى.. هذه المكانة الخاصة للدين وهذا الاحترام الذى يحظى به رجل الدين مجتمعيًا يتيح له أن يلعب دورًا مؤثرًا فى المجتمع، سواء كان هذا الدور سلبيا أو كان إيجابيا.. سلبيًا بإعاقة بناء الدول العصرية ودفع البلاد إلى الخلف ومجاهل التخلف.. وإيجابيا بدفع جهود إعادة بناء هذه الدولة العصرية ودعم هذه الجهود وحث جميع المواطنين على المشاركة فيها بحماس.
طبيعة المرحلة التى نعيشها:
وإذا كنا نقر بوجود دور لرجال الدين فى إعادة بناء دولتنا العصرية والحديثة ونسعى معًا لتحديد هذا الدور الذى ننتظره من رجال الدين، فإننا مطالبون أولًا بأن نعى ونعرف طبيعة المرحلة التى نعيشها حاليًا والتى ستلقى بظلالها على عملية إعادة بناء الدولة المصرية، وبالتالى ستحدد أدوار كل منا فى هذه العملية، وتحديدًا دور رجال الدين.
وابتداء، من المعروف أننا أنهينا منذ أكثر من عامين آخر استحقاق فى خارطة المستقبل وهى الانتخابات البرلمانية لتضع نهاية لمراحل انتقالية متتالية عشناها منذ تنحى الرئيس الأسبق حسنى مبارك فى ١١ فبراير ٢٠١١.. وقد اتسمت هذه المراحل الانتقالية بحالة من عدم الاستقرار السياسى والصدامات الاجتماعية والأزمات الاقتصادية.. غير أن أخطر ما اتسمت به هذه المراحل الانتقالية هو تعرضنا لمؤامرة استهدف من انخرطوا فى تنفيذها تقويض كيان دولتنا الوطنية وتغيير هويتها الوطنية أو اقتطاع مساحات من أراضيها وتقزيم اقتصادها وجيشها الوطنى.. فى ظل ذلك تم تمكين الإخوان من حكم مصر الذين شرعوا لتأسيس نظام سياسى مستبد وفاش ومارسوا عنفا ضد جماهير الشعب وعمدوا لإقصاء كل من هو ليس بإخوانى وينتمى لجماعتهم أو لا يقبل بسيطرتهم أو ما يسمونه التحالف معهم ولكن بشروطهم.
وعندما انتفض الشعب ثائرًا لإنهاء هذا الحكم الفاشى المستبد انخرط الإخوان فى ممارسة العنف ضده وحرضوا بقية الجماعات والتنظيمات الإرهابية التى سبق أن احتضنوها وسمحوا لها بالتمدد والتزود بالسلاح، على أن تنفذ عمليات إرهابية واسعة ليس فى سيناء وحدها وإنما فى شتى ربوع البلاد.
وهكذا نحن منذ الثالث من يوليو ٢٠١٣ وحتى الآن نخوض حربًا شرسة ضد الإرهاب ندافع فيها عن كيان دولتنا الوطنية وعن هويتنا الوطنية أيضا، وفى هذه الحرب تلقى الجماعات الإرهابية التى نحاربها دعما ومساندة إقليمية ودولية أيضا.. والأخطر تجد البشر الذين تجندهم بشكل مستمر لم يتوقف، وهذا ما تؤكده كثير من العمليات الإرهابية التى تم إحباطها على مدى أكثر من أربعة أعوام، حيث تبين أن من كانوا يتأهبون للقيام بها هم من العناصر الجديدة التى نجح الإخوان وبقية التنظيمات الإرهابية فى إغوائها وضمها لها، بل وإقناعها بالقيام بعمليات عنف وإرهاب ولا شك أن هذه الجماعات الإرهابية تمكنت من إغواء هؤلاء بعد أن أفسدت عقولهم من خلال إغراقهم فى حالة من التطرف الدينى.
المهمة الأساسية لرجال الدين:
وتأسيسًا على ذلك يمكننا معرفة المهمة الأساسية لرجال الدين والتى تفرضها طبيعة المرحلة التى نعيشها حاليا.. وهذه المهمة تتمثل فى مواجهة ذلك التطرف الدينى الذى يصنع ويفرخ لنا وحوشا آدمية تنطلق بيننا تقتل وتدمر وتخرب وتحرق.
وهى مهمة ليست سهلة، بقدر ما هى جليلة وضرورية.. فقد مر زمن طويل وهناك من يروجون للتطرف الدينى وينشرونه فى المجتمع، بل إن بعض رجال الدين قد انضموا إلى معسكر المتطرفين وصاروا ليس فقط أبواقا لهم ولكن أدوات فى نشر هذا التطرف الدينى فى المجتمع.. وهكذا عندما سيواجه رجال الدين المستنيرون التطرف الدينى فى المجتمع فإنهم سوف يواجهون أقرانا لهم ينتهجون هذا التطرف ويشيعونه فى المجتمع، كما سوف يواجهون تهديدات الجماعات والتنظيمات الإرهابية الذين يهددون ويستهدفون رجال الشرطة والجيش ورجال القضاء وأيضا المثقفين، بل والمواطنين العاديين أيضا.
إذن مهمة مواجهة التطرف من قبل رجال الدين تقتضى أكبر قدر من الشجاعة مثلما تقتضى أيضا أكبر قدر من التمسك بجوهر الدين - أى دين - هو إسعاد البشر ويجعلهم يعيشون حياة طيبة ويوفر الأمان والطمأنينة لهم .
شجاعة فى مواجهة التنظيمات الإرهابية التى تعد هى الأكثر وحشية، مقارنة بكل التنظيمات الإرهابية التى سبق أن واجهناها من قبل..
وشجاعة فى مواجهة رجال دين آخرين يؤمنون بالتطرف ويروجون له فى المجتمع ويعتقدون أنهم هم وحدهم الذين يملكون الحق الحصرى فى تفسير النصوص الدينية ..
وشجاعة فى مواجهة تراث دينى شابه خلال سنوات مضت الكثير من التفسيرات الخاطئة والتكفيرية للدين، وخطاب دينى صائب ويحض على التطرف..
ومع الشجاعة يحتاج رجال الدين للعلم الحقيقى للتمكن من الفهم السليم لجوهر الدين والنصوص الدينية، ثم لنقل هذا الفهم السليم للمواطنين.
بالعلم والشجاعة يمكن أن يتصدى رجال الدين للقيام بهذه المهمة الأساسية فى مرحلتنا هذه التى نعيشها حاليا، وهى مهمة مواجهة التطرف لتجفيف المنابع الفكرية للإرهاب، حتى تجدى فى نهاية المطاف عمليات تجفيف مصادر تمويله، وعمليات تصفية كياناته التنظيمية، ومحاولات التصدى لمن يدعمونه ويساندون الإرهابيين .
مهام إضافية لرجال الدين:
غير أن هذه المهمة الأساسية التى يتعين أن يقوم بها رجال الدين الآن لا تلغى مهام إضافية يتعين عليهم أن يقوموا بها فى إطار الهدف الذى ننشده، وهو إعادة بناء دولتنا الوطنية العصرية.. فنحن لا نبغى فقط حماية كيان دولتنا الوطنية، وإنما نسعى أيضا لإعادة بناء هذه الدولة لتصبح عصرية وحديثة وديمقراطية.
ومن طبيعة هذا الهدف الذى ننشده تصاغ المهام الإضافية لرجال الدين، فالدولة العصرية الحديثة التى ننشدها هى دولة المساواة والمواطنة والعدالة والقانون والديمقراطية، وكلها سمات تحض عليها كل الأديان التى تساوى بين جميع البشر وتنبذ التمييز بينهم اجتماعيا أو اقتصاديا وتقر بالعدل وتحض المتدينين عليه.
وبذلك يمكننا أن نتصور مهام رجال الدين فى إطار السعى لتحقيق هدفنا المنشود بإعادة بناء دولتنا لتصبح عصرية وحديثة وديمقراطية على النحو التالى:
أولا: الترويج والدعوة للقيم الإيجابية التى تتشارك فيها كل الأديان.. قيم العدل والمساواة والمواطنة واحترام حقوق الإنسان ورفض التمييز بين المصريين ونبذ العنف والتعصب.
ثانيًا: حث المواطنين على السلوك الإيجابى والبعد عن السلبية التى تتفق عليها كل الأديان أيضا.. حتى يصير لدينا مجتمع فاعل نشط لا يركن إلى السلبية أو يمارس الغفلة فى وقت نخوض فيه حربا شرسة ضد إرهاب وحشى.
ثالثًا: الدعوة لإعلاء قيمة العمل.. لمواجهة ظواهر (الكسب السهل السريع) و(اخطف واجرى)، خاصة أن إعادة بناء بلدنا تحتاج لعمل شاق ولكل جهد مخلص.. وحث للمواطنين على الانخراط فى العمل الجماعى وليس العمل الفردى.
رابعًا: الدعوة لاحترام قيمة الوقت.. حيث يعد الوقت عنصرا مهما فى المجتمعات المتحضرة والمتقدمة وتحضنا الأديان على احترامه.. فكلما احترمنا الوقت نجحنا فى تحقيق ما نصبو إليه.. ناهيك على أن الوقت تزداد أهميته فى زمن الحروب.
خامسًا: إشاعة التسامح فى المجتمع والدعوة لقبول الآخر والتمسك بالعيش المشترك لحماية كيان المجتمع وتحصينه ضد الفتن الطائفية والانقسامات القبلية، والحفاظ على أقصى درجة من التماسك الوطنى التى نحتاجها بقوة فى مواجهة المخطط التآمرى الذى نتعرض له ويستهدف إثاره الفوضى فى بلادنا.
سادسًا: حث المواطنين على إتقان العمل.. وهو ما تتفق عليه كل الأديان أيضا، خاصة أننا إذا كنا نخوض حربًا ضد الإرهاب، فإننا نخوض معركة صعبة من أجل إعادة بناء اقتصادنا فى ظل ظروف شديدة الصعوبة.
ثامنًا: حث المواطنين على اعتماد مبدأ الحوار كوسيلة للتفاهم وحل الخلافات الاجتماعية والسياسية، والابتعاد عن الصدام، وذلك لاستثمار التنوع والتعدد فى المجتمع باعتباره مصدرًا لثراء المجتمع وليس سببًا لتمزيقه.
تاسعًا: الدعوة لنشر ثقافة مقاومة ورفض الفساد الذى استشرى فى بلادنا على مدى عقود مضت ويعطل عملية إعادة بناء بلادنا كدولة عصرية حديثة.
عاشرًا: نشر ثقافة التطوع والمسئولية الاجتماعية بين أفراد المجتمع حتى يسود التكافل والمحبة بينهم.