الشارح الأكبر لفلسفة أرسطو.. قراءة في كتاب «ابن رشد بين الشريعة والحكمة»
شارح المعلم الأول أرسطو وأكبر الفلاسفة الشراح أثرًا في الغرب من القرن الثالث عشر إلى القرن العشرين، كانت هذه الكلمات هي بداية كلمة الأستاذ عباس محمود العقاد، في مؤلفه "ابن رشد"، لعل هذه الكلمات هي الواصفة بدقة متناهية فعل وأثر ابن رشد، لهذا آثرنا أن يكون تعريفنا بأبن رشد وفلسفته من خلال مُؤَلَّفُ حديث الصدور، يجمع بين دفتيه جوانب فلسفة ابن رشد بصورة دقيقة ومنظمة.
لذلك وقع اختيارنا على كتاب "ابن رشد بين الشريعة والحكمة" تأليف الأستاذ الدكتور فيصل بدير عون، الصادر عن الهيئة العامة للكتاب صيف 2018. ويقع هذا الكتاب في مئتين وخمسة وسبعين صفحة، إلا أننا سنُركز حديثنا هنا عن لمحة موجزة عن هذا الكتاب، وذلك لكي نفرد له حيز من التفكير والتقييم الذي يستحقه دون أي خلل بما ورد فيه.
والجدير بالذكر أن هذا الكتاب يتكون من خمسة فصول وخاتمة، مقسمون على النحو التالي: الفصل الأول: تجربتي الفلسفية وابن رشد، الفصل الثاني: المنهج الفلسفي عند ابن رشد، الفصل الثالث: ابن رشد.. الإنسان. الفصل الرابع: الألوهية عند ابن رشد، الفصل الخامس والأخير: العالم عند ابن رشد. أما الخاتمة فكانت بمثابة تلخيص وافي لِمَا أورده استاذنا في دراسته، مع التركيز والتعليق على بعض الجوانب محض موضوع الدراسة.
إلا أننا سنبدأ حديثنا من الفصل الثاني متلاشين الفصل الأول وذلك لِمَا يحمله من دلالة في غاية الأهمية، لذلك سنأجل الحديث عنه إلى أن نصل إلى تقيمنا لهذا الكتاب. اما الفصل الثاني، الذي حمل عنوان "المنهج الفلسفي عند ابن رشد"، بدأ استاذنا هذا الفصل بنص من نصوص ابن رشد من كتاب (فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال): "إن كان فعل الفلسفة ليس شيئاً أكثر من النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع، أعني من جهة ما هي مصنوعات، فإن الموجودات إنما تدل على الصانع بمعرفة صنعتها". ومهَّد ابن رشد، لقضية المنهج عنده في بداية الأمر، من خلال الفتوى التي سُئل فيها عن الاشتغال بالحكمة = (الفلسفة) وموقف الدين من ذلك. وقد أجاب ابن رشد عن هذا السؤال بكتابه "فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال" والانفصال أيضاً!
وبدأ ابن رشد إجابته "الشرعية" عن حكم الاشتغال بالفلسفة بالسؤال أولاً عنها من حيث هي، عن ماهية الفلسفة، وهل هي في حد ذاتها حرام أم حلال، وذلك حتى يتسنى له بعد ذلك أن يُدلي برأيه، أي برأي الشرع، فيما إذا كانت حلالاً ام حراماً. لأن مما يجانب الحكمة أو العقل (والمنعى واحد) أن نحكم بالإعدام على متهم دون أن نقف على رأيه ودون أن نحيط علماً به.
كما يرتبط مباشرة بالمنهج عند ابن رشد وبأخلاقياته في الوقت عينه احترام الآخرين وتقدير جهدهم والأخذ عنهم حسب الحاجة والضرورة. فالمعرفة ليست مقتصرة على فرد أو جماعة أو مجتمع واحد. ثمة علاقات متبادلة بين الناس. الكل يفيد من الكل ويفيد الكل. ومهما قيل عن بعض المجتمعات التي يبدو أنها المحيطة بها. ليس ثمة حضارة أو ثقافة هي نسيج وحدها. صحيح أن لكل حضارة أو ثقافة ملامحها وسماتها المميزة، لكن من الصحيح أيضاً ان اللاحق يتأثر بالسابق، وأن الأخير يلعب دوراً كبيراً في بناء حضارة الآخر.
والحقيقة أن ابن رشد يسير في هذا الدرب على نهج فلاسفة الإسلام السابقين الذين أخذوا بدورهم هذا التوجه عن أرسطو. إنه لا ينبغي أن يكون الاختلاف في الدين أو اللغة أو العرق عائقاً يحول بين المرء وبين الإفادة من جهد الآخرين. إن الفلسفة والعلم لا دين لهما. قد تكون معرفة دين الفيلسوف أمراً مفيداً، لكن الفلسفة من حيث هي، والعلم من حيث هو، جهد إنساني خالص، لا يرتبط بزمان أو مكان. ولقد حثنا الرسول الكريم على طلب العلم أينما كان ومتى كان.
كما أن المتتبع، بدقة، لكتاب فصل المقال لابن رشد، يتأكد لديه أن هذا العمل هو "مقال في المنهج" في المقام الأول، سعى من خلاله ابن رشد إلى وضع أبجديات منهجه فيه، عل أن يكمل بناء هذا المنهج في كتاب "الكشف عن مناهج الأدلة".
والفصل الثالث: وعنوانه "ابن رشد.. الإنسان"، يبدأ استاذنا القدير هذا الفصل بنص لابد رشد من كتاب (فصل المقال) قائلاً: "إن الفلسفة تفحص عن كل ما جاء في الشرع، فإن أدركته استوى الإدراكان، وكان ذلك أتم في المعرفة، وإن لم تدركه أعملت بقصور العقل الإنساني عنه وأن يدركه الشرع فقط". كما أورد لنا استاذنا تعبير "ڤرن بولو" عن النزعة ابن رشد الإنسانية، قائلاً: "إن ابن رشد، سواء أكان قوة إيجابية أم سلبية، قد أحدث تأثيراً هائلاً في تنمية القوى التي انتهت إلى التنوير. وفي عبارة أخرى يمكن القول: "إن التنوير قد استند إلى مساهمين إسلاميين، وكان أبرزهم ابن رشد.
ويكمل حديثه خلال الفصل بالتأكيد على أن النزعة الإنسانية عند ابن رشد، كما نفهمها، على وعي بأهمية الإنسان ومكانته في هذا الكون باعتباره كائناً عاقلاً، وأنه من خلال هذا العقل الحر والمستقل يستطيع أن يطرق أبواب العلوم والمعارف اعتماداً على نفسه بغرض تسخير الطبيعة لخدمة الإنسان، ومن ثم تحقيق سعادته وسعادة الآخرين. ونزعة، هذا شأنها تفرض الجمود والسكون، حيث تسعى إلى إيقاظ الهمم وتحريك العقول نحو اكتشاف أسرار الطبيعة بإدراك القوانين التي تتحكم فيها، وتوظيف ذلك من أجل خدمة الإنسان وسعادته.
كما نبهنا أستاذنا إلى أن مفهوم النزعة الإنسانية من داخل الديانات المنزلة مختلف تماماً عن مفهومه في الفلسفة الحديثة والمعاصرة، وخصوصاً ابتداء من القرن السابع عشر الميلادي، حيث أضحى مفهوم النزعة الإنسانية أنها اتجاه "لا ديني"، حيث وقف الفلاسفة الغربيون بالمرصاد لتوغل الكنيسة في كل شؤن الدنيا، أما في داخل الديانات المنزلة، فلا يمكن الحديث عنها بمعزل عن كل القيوم الروحية التي كانت موضع اهتمام رئيس من جهة الكتب المقدسة، لأن الديانات السماوية ترى أن الإنسان أشبه بطائر له جناحان "ديني إيماني وعقلي".
أما الفصل الرابع وعنوانه "الألوهية"، ويبدأ هذا الفصل بنص لأبن رشد، "لم يَقُل أحد من الناس في الألوهية قولاً يُعتد به وليس يعصم أحد من الخطأ إلا من عصمه الله تعالي بأمر إلهي خارج عن طبيعة الإنسان وهم الأنبياء". وبدأ استاذنا بتفسير فحوى هذا النص، ان كل الأقاويل التي قيلت، يمكن أن تقال، عن الألوهية هي أقوال لا يعتد بها، لأنها غير برهانية. لأن "الألوهية" ليست أمراً عيانياً محسوساً حتى يمكن معاينته والتحقق منه. لهذا فإذن كل الاجتهادات المعرفية من جهة الإنسان هي اجتهادات ظنية لا ترقى إلى درجة اليقين، ذلك أن أي اجتهاد بشري يحتمل الصواب والخطأ بحسب طبيعته من جهة، وبحسب "المجتهدين" من جهة أخرى. ومن المعلوم أن الخطأ ملازم للطبيعة البشرية. وابن رشد في تصديه لهذه المشكلة كان متسقاً مع نفسه، أي مع منهجه.
ولقد وقف ابن رشد على كل أدلة الفلاسفة والمفكرين السابقين عليه، سواء اكانوا صوفية، أم فلاسفة، أم متكلمين. وبعد أن فَنَّد أدلة بعض السابقين عليه، خلص إلى القول بوجود دليلين فحسب، يمكن الوثوق بهما لإثبات وجود الله. اما الدليل الأول، وهو دليل العناية، يعتد ها الدليل على خاصتين أساسيتين، هما، خاصية الغائية وخاصية الإحكام والإتقان، أو لنقل الإقرار بالسببية التي لا تدع مجالاً للاتفاق أو المصادفة. والدليل الثاني، هو دليل الاختراع، وقرر ابن رشد في هذا الدليل من أن كل موجودات العالم، كلها مخترعة، أي كلها حادثة مخلوقة. ثم يردف قائلاً: إن كل مُختَرَع فله مخترع! وينهي استاذنا حديثه، بإن ابن رشد لم يفعل شيئاً يمكن ان بحسبانه "فيلسوفاً" كبيراً بشأن دليلي الاختراع والعناية. إن ما ذكره أدلة نقلية وليست أدلة عقلية.
أما الفصل الخامس والأخير وعنوانه "العالم عند ابن رشد"، بدأ استاذنا الفصل بدايته المعتادة منذ بداية الدراسة، وهو ذكره أحد نصوص ابن رشد الواردة في كتابة (الكشف عن المناهج الأدلة"، قائلاً: "إن الأسباب الطبيعية لا تؤثر إلا لأن الله أودعها قوة التأثير... إن الطبيعة لا يمكن أن تؤثر في مسبباتها إلا بإرادة الله وإذنه". ويبدأ حديثة بداخل الفصل، بأن حركة الكون عند ابن رشد تسير طبقاً لطبائع الموجودات التي وضعت فيها من الأزل. وهذه الطبائع الأزلية تتجلى من خلال القوانين الطبيعية والسنن الكونية. ويخطئ من يعتقد – عند ابن رشد – أن الله يتدخل في كل كبيرة وصغيرة. فالله عند ابن رشد له من خصائص "الإله" عند أرسطو ما يحول بينه وبين التدخل اليومي في شون العالم.
كما نقل لنا أستاذنا عبارات ابن رشد الخالدة، التي وردت خلال حديثه عن إشكالية قِدم العالم وحدوثه، حيث زعم البعض أن أدلة ابن رشد كلها برهانية. قال ابن رشد في "تهافت التهافت": "وهذا كله، فلا تطمع ها هنا في تبينه ببرهان، وإن كنت من أهل البرهان فأنظره في مواضعه، واسمع ها هنا أقاويل هي اقنع من أقاويل هؤلاء، فإنها، وإن لم تفدك اليقين، فإنها تفيدك غلبة ظن يحركك إلى وقوع اليقين بالنظر في العلوم. ويضيف ابن رشد في مضوع لاحق من الكتاب نفسه قوله: "ولذلك كل ما وضعناه في هذا الكتاب، فليس هو قولاً صناعياً برهانياً، وإنما هي أقوال غير صناعية، بعضها أشد إقناعاً من بعض، فعلى هذا ينبغي أن يفهم ما كتبناه ها هنا".
وأنهى أستاذنا حديثه في هذا الفصل، بأن عظمة ابن رشد ترجع إلى أنه ما زال حتى يومنا هذا مثالاً وقدوة لكل الباحثين عن الحقيقة ولكل من له عقل نقاد، حيث يسعى إلى تأصيل الفكر من خلال التراث الذي لا يصح البتة القطع معه، بل الأصح بقطيعة معه، بتجاوزه لفهم الحاضر فهماً حقيقياً وموضوعياً، بغية الانخراط في العصر بمشكلاته والسعي إلى إيجاد ما يمكن أن نسميه بجدل صاعد نحو إدراك الحقيقة بقدر الجهد البشري. لهذا فإن الجدل مع التراث والحوار معه ليس هدفاً في حد ذاته، وإنما القصد في النهاية ربط الحاضر بالماضي من أجل التطلع إلى غد أفضل عل كل الأصعدة.
نأتي الآن إلى ما أجلنا الحديث عنه وهو الفصل الأول وعنوانه " تجربتي الفلسفية وابن رشد"، اجد في تقديري ان هذا الفصل يُعد بمثابة درس أخلاقي للأساتذة قبل الدراسين، فهو عبارة عن سيرة ذاتيه مصغرة لِمَا مر به استاذنا القدير خلال سنوات احتكاكه بابن رشد، ونورد هنا فقرة من هذا، "وبمجرد حصولي على الدكتوراه واجهت نفسي بنفسي، من خلال حوار داخلي، حيث أدركت بقوة ضرورة القراءة المعمقة والمتنوعة للفلسفة، حيث كانت هذه القراءات تفضح قصوراً كبيراً في فهم التيارات الفلسفية وفهم أسباب الصراع الأزلي الأبدي بين الفلاسفة بعضهم وبعض..". فهذا الفصل بمثابة مراجعة للنفس والعقل، بما حصله خلال سنوات عديدة، فلم يكن مُنغلقاً عما تعمله أو كتبه عن ابن رشد، بل كان باحثاً بمعنى الكلمة وذلك لإعادة تأسيس فهم جديد لأبن رشد. وبعد قراءة الفصل الأول "تجربتي الفلسفية وابن رشد"، تذكرت مقولة الفيلسوف الفرنسي فرديناند ألكيية:"لا يكشف العمل المكتوب عن الفلسفة إلا بمقدار ما يُفهم، ولكن الفهم نفسه يتطلب من القارئ بعض الكفاءة للتفكير فلسفياً".
أما عن تقييمنا عن هذا كتاب، ولنبدأ بعنوان الدراسة، عنوان الدراسة نُحت بطريقة بالغة الحكمة تنم عن رؤية واضحة. أضف إلى ذلك عزيزي القارئ ان الكتاب مقطوعة موسيقية ألفها مايسترو مُبدع، مهموم بمجاله مستمتعاً به، باحثاً في دروبه. أما أثناء قراءتي لهه الدراسة، يسكن قلمي عن الحركة ويتوقف لساني عن النطق ولا يبقى سوى عيناي تتحرك شغفاً لملاحقة الكلمات واحدة تلو الأخرى، أملاً في الاستمتاع بهذا العمل الأكثر من رائع، فلا تكفي كلمات الشكر والثناء لمؤلفها. كما تكرر اثناء الدراسة استخدام لفظ أو كلمة "باحث"، فهذا وإن دل على شيء فإنما يدل على الوعي الحقيقي بقيمة البحث العلمي الدقيق المنظم، واضعاً جانباً الألقاب الأكاديمية، متمسكاً بسمة واحدة وهي "البحث".
وفي الختام، وبحسب قول دكتور فيصل – كما أنني اتفق معه أتم الاتفاق – أن هذه الدراسة قد فصلت بين ابن رشد الشارح وابن رشد الفيلسوف. لقد افاد ابن رشد من الفلسفة اليونانية، أخذ منها واعطاها، لكن ابن رشد الفيلسوف الإسلامي ظل غائباً عن المؤرخين والباحثين الغربيين الذين اهتموا بدفاع ابن رشد عن أرسطو، لكنهم لم يلتفتوا إلى كتابات ابن رشد الإسلامية، وهي التي تعطيه سمة الأصالة. وإذا كان الغربيون معذورين في حكمهم على ابن رشد لتأخر معرفتهم بمؤلفات ابن رشد الإسلامية، فما هو المبرر الآن لتجاهل ابن رشد مؤلف فصل المقال، والكشف عن مناهج الأدلة، وبدية المجتهد... وهي المؤلفات التي تلقي الضوء على الجانب العقدي (الكلامي) والفلسفي الإسلامي لابن رشد. إن الطامة الكبرى التي لحقت بابن رشد كما ذكرنا، هي أن الغرب قرأ ابن رشد قراءة "أحادية" تصب في خدمة توظيف ابن رشد الأرسطي طبقاً لمصالحهم، مع أن ابن رشد ذكر كثيراً وأكد انه لا يمكن أن يؤدي النظر البرهاني (الفلسفة) إلى مخالفة ما ورد به الشرع (الدين)، فإن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له. لهذا زعم الغربيون بوجه عام أن ابن رشد يقول بازدواج الحقيقة، ومع ان الرجل آمن بأن الحقيقة واحدة وأن لها بعدين، أو إن شئت وجهين: أحداهما ديني، والآخر فلسفي.
ولهذا نستطيع ان نجزم وبحق ان هذا الكتاب جدير بالقراءة والدراسة، لأنه خرج من عقلية تنويرية بحثية عقلانية. فهي دراسة مصدرية في المقام الأول، تظهر بوضوح في اعتماد استاذنا القدير على مؤلفات ابن رشد دون أي تدخُل أو بتر للنصوص.