عبد السلام سنو: سيناريوهات معقدة قد تفرزها الحرب الأوكرانية تؤثر على أمن الدول العربية
يضج العالم اليوم بالعديد من القضايا والملفات الإشكالية التي تتخذ صورا مختلفة من التوتر والصراع والتنافس الشرس والوحشي على النفوذ والسيطرة السياسية والاقتصادية والتكنولوجية، وتعد صورة الحرب الروسية الأوكرانية هي الصورة الأبرز كونها تؤثر تأثيرا مباشرا واقع حياة الناس في الشرق والغرب، يليها صورة إيران وملفها النووي، فإذا كان هدف كل من روسيا والغرب في الحرب الأوكرونية فرض النفوذ والسيطرة على دول آسيا، فإن نووي إيران يسعى لنفس الهدف ولكن على الجانب العربي ممثلة في دول الخليج العربي..
في لقاء مع عبد السلام سنو الباحث في الشأن السياسي ورئيس التحرير في المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية في أبوظبي، ناقشنا عدد من القضايا التي تحتد تأثيراتها الآن في النظام العالمي.
بداية يرى سنو أن النزاع الروسي الأوكراني هو أقوى المؤشرات والدلالات وربما المتغير الأخير، الذي مع نضوجه تنتهي الأحادية القطبية المتمثلة بقيادة الولايات المتحدة للعالم. ووفق هذه النظرية السياسية، أي مع الأفول النهائي لأحادية القطبية الأميركية، تبرز عملية جديدة من صنع القرار الدولي، تتسم إما بالمشاركة وإما بالنزاع من خلال ما يعرف بالتعددية القطبية. وعلى الرغم من شهرة هذا الطرح وقوته في أدبيات العلاقات الدولية المكتوبة والمسموعة، إلا أنه في الحقيقة من المبكر الحسم في مسألة نهاية الفرادة القطبية للولايات المتحدة، حتى بعد بدء التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا. ما يمكن قوله في المرحلة الحالية أن التدخل العسكري الروسي المباشر في أوكرانيا، ومن قبل في سوريا وجورجيا، أعطى قوة لمرتكزات النظرية الجيوسياسية في قراءة المشهد السياسي، التي نظّر لها يوهان كجيلين (Johan Kjellen) وهالفورد ماكيندر (Halford Mackinder) وغيرهم ممن تأثروا بهم كهنري كيسينجر وزبغنيو بريجينسكي (Zbigniew Brzezinski). فمع التدخل العسكري الروسي في المنطقة الأوراسية، تصبح عدة التحليل الجيوسياسية معيارا لقراءة وفهم الفضاء السياسي، لا سيما في قضايا النزاعات والمصالح والتكتلات الدولانية.
وأضاف: "عند الحديث عن انعكاسات النزاع الروسي الأوكراني على منطقة الشرق الأوسط على المستوى السياسي، ينبغي أن ننطلق مما ذكرنا حول المقاربة الجيوسياسية ابتداء. وفي هذا السياق، يمكن القول أن التحرك الروسي العسكري المباشر في أوكرانيا قد أعطى اللاعبين الإقليميين الشرق أوسطيين البارزين حيزا أكبر من الاستقلالية والفرادة في التحرك وإبراز النفوذ. ويمكن الاستدلال على هذا الأمر من خلال الإلماح التركي حول التوسع في العمق السوري والحديث القيام بعملية عسكرية جديدة في الشمال السوري مؤخرا، بعد أن ظُنّ أن الوئام التركي السوري يلوح في الأفق. لكن بمعزل عن طرح أو تسويق فكرة التوافق التركي السوري المستقبلي والمحادثات الجارية خلف الكواليس، يظهر من التلويح التركي حيز الاستقلالية الأكبر لدى القوى الإقليمية الناجم عن النزاع الروسي الأوكراني. كما ويمكن الاستدلال بعدم فعالية الضغوط الأميركية التي مارستها إدارة بايدن على دول الخليج لرفع إنتاج النفط منذ بدء الأزمة الأوكرانية، حيث لم تبد هذه الدول استعدادا للتجاوب مع هذه الضغوط".
وأكد أن العلاقة بين النظام العالمي الحالي سواء كان أحاديا أم تعدديا، وأنا أميل إلى أنه أحادي إلى الآن، هو البنية الكبرى (Super Structure)، التي تحكم بنى متفرقة من الجيوسياسيات المتعددة التي تنطوي تحته وتتفاعل ضمنه وفق ما يعرف بالـ"الحتمية الاحتمالية" (Probabilistic Determinism).
محادثات فيينا
وأشار سنو إلى أن محادثات فيينا تظهر تصلبا في موقفي الولايات المتحدة وإيران، حيث يتمسك الطرفان بموقفهما من مسألة رفع الحرس الثوري عن قائمة الإرهاب الأميركية. وقد يبدو هذا الملف العقدة الأخيرة من العقد التي تمت حلحلتها سابقا. وعلى الرغم من أهمية جزئية رفع الحرس الثوري عن قائمة الإرهاب الأميركية في هذا السياق، إلا أن العملية التفاوضية بينهما متواشجة، مما يعني أن ثمة متغيرات مترابطة وتشكل الحيز الأكبر والأهم في مسار التفاوض مع إيران. هذه المتغيرات لوزنها وقوتها أهمية أكبر من إجراء رفع الحرس الثوري عن قائمة الإرهاب الأميركية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر الالتزام التحالفي والشراكاتي الأميركي مع أصدقاء الولايات المتحدة في المنطقة ومن بينهم دول الخليج وإسرائيل. وهنا نسأل ما هو شكل هذا الالتزام في ضوء السير في المفاوضات مع إيران، وفي حال التوصل لاتفاق معها مستقبلا؟ من المعلوم أن أصدقاء الولايات المتحدة يضغطون على الإدارة الأميركية، بحيث يصرفونها عن تقديم المزيد من التنازلات لإيران، بل ويضغطون أيضا باتجاه التشدد معها ووكلائها كإعادة تصنيف ميليشيا الحوثي على قائمة الإرهاب لما ارتكبته هذه الميليشيا من عدوان على المملكة العربية السعودية وعلى دولة الإمارات العربية المتحدة. ومع ذلك، الإدارة الأميركية الحالية نزّاعة إلى التسويات، وتسعى للوصول إلى اتفاق مع إيران في أسرع وقت ممكن؛ ويعزز ذلك من أن الطرفين بلغا موضعا من الصعب العودة منه. فالخيار العسكري المعلن عنه من قبل المفاوض الأميركي روبرت مالي غير محبذ من جميع الأطراف، لا سيما الإقليميين لما لهذا الخيار من تبعات كارثية على أمن المنطقة.
وأوضح سنو أنه في حال بقيت إيران على موقفها من المطالبة برفع الحرس الثوري عن قائمة الإرهاب كشرط لوقف البرنامج النووي، وأوصل التصلب الإيراني المفاوضات إلى حائط مسدود، يمكن أن يجترح المفاوضون الأميركيون حلا وسطا يرضي جميع الأطراف، وهو أن ترفع الإدارة الأميركية الحرس عن قائمة الإرهاب مع إبقاء فيلق القدس ضمنها، على اعتبار أن هذه الوحدة من الحرس هي التي تدير وتنفذ العمليات التخريبية خارج الحدود الإيرانية من خلال التنسيق مع الوكلاء الإيرانيين وتوجيههم. ومع أن هذا الحل سيكون بمثابة تلاعب ومناورة واضحة من جانب الأميركيين، إذ يموّل الحرس وينظّم ويشرف على عمل هذه الوحدة والوكلاء، إلا أن الإدارة الأميركية بهذا الحل تخفف من ضغط الحلفاء عليها في جانب مطالبتهم لها بعدم تقديم التنازلات لإيران، وكأنها تقول "لم أساوم في مسألة الأمن الإقليمي".
وعن موقف الولايات المتحدة من دول الخليج في ضوء المفاوضات مع إيران قال سنو "إلى جانب اللامبالاة المتصوّرة عند الأميركيين بالنسبة لأمن المنطقة، ثمة مصلحة لدى الأميركيين، لا سيما الإدارة الحالية متمثلة بإغلاق الملف النووي إلإيراني إلى أن يتحقق سيناريو من سيناريوهاين مرتبطين تستنظرهما الإدارات الأميركية منذ سقوط الشاه: الأول، وهو تغير النظام الإيراني؛ والثاني، وهو أن تعود إيران إلى الحاضنة الأميركية. قد تستغرب من هذا الكلام، لكن الولايات المتحدة ما زالت تحلم بعودة إيران إليها. أما في جانب ما تريده الولايات المتحدة من دول الخليج من توظيف ورقة إيران، فمن المحتمل أن الولايات المتحدة تسعى أن تصل دول الخليج وإسرائيل وإيران إلى اتفاق ضمني مواز للاتفاق النووي يتعلق بقضايا الأمن الإقليمي، ويأمل الأميركيون أن يسهم هذا الاتفاق المفترض من تقليص الدورين الروسي والصيني في المنطقة، وأن تعزز المصالح الأميركية على حسابهما. ليس هذا بالأمر الجديد، لكن الجديد في المسألة أن الولايات المتحدة تتحاشى الأكلاف والوجود المكثّف لتحقيق هذا السيناريو. ولهذا، فهي تشجع توسيع اتفاقيات السلام في المنطقة".
ورقة المقاتلون الأجانب
ولفت سنو إلى أنه مع إعلان أوكرانيا اجتياز مئة مقاتل أجنبي فقط من الولايات المتحدة وحدها من أصل عشرين ألف متقدم الاشتراطات الموضوعة لمعاونة القوات الأوكرانية ضد روسيا، إلا أنه من الصعب تحديد أعداد المنضمين للانضمام إلى كلا المعسكرين بدقة إلى الآن. روسيا، بدورها أعلنت على لسان وزير دفاعها، سيرغي شويغو، أن ستة عشر ألف مقاتل من الشرق الأوسط تقدم بطلب الانضمام للقتال إلى جانب روسيا في هذه الحرب. أريد أن أضع أمر فاغنر الروسية على جنب قليلا، لأتناول نقطة مهمة تتعلق بتصريحات كل من الطرفين الروسي والأوكراني حول آلاف الطلبات المقدمة من أشخاص يريدون الانضمام للقتال في صفوف كل منهما ضد الآخر. إن ظاهرة المقاتل الأجنبي، التي عالجناها في كتاب أصدره المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية، المعنون بـ"الوجه الأوروبي والأميركي للمقاتل الأجنبي"، غاية في الأهمية من جوانب عديدة متعلقة بالدوافع والمآلات، إضافة إلى مسائل مرتبطة بعودة هؤلاء المقاتلين إلى أوطانهم، وتحديات الدمج.
وأضاف: "لو أخذنا مسألة التحديات الكامنة في عودة المقاتلين الأجانب، وأسقطناها على التصريحات الروسية التي تتحدث عن رغبة ستة عشر ألفا من مقاتلي الشرق الأوسط تحديدا بالتوجه إلى أوكرانيا للقتال إلى جانب روسيا، وتخيلنا أن ستة عشر ألفا من المقاتلين غير معروفي الهوية أو الجنسية تحركهم روسيا في دول الشرق الأوسط بعد انتهاء الأزمة الأوكرانية، كيف سيكون المشهد في منطقة تعاني من الاضطرابات الأمنية، لا سيما وأن الإعلان الروسي يحمل في طياته رسائل وإيحاءات تتعلق بطبيعة المقاتل الأجنبي الشرق أوسطي النزّاعة إلى التطرف والإرهاب، بحسب ما هو مشهور لدى الغربيين؟ لا أجزم بحتمية هذا السيناريو، لكن في أحسن الحالات، تسعى روسيا من هذا التصريح، لا سيما مع استجلاب مصطلح "الشرق الأوسط" وما يحمله من إيحاءات متعددة خاصة بخصائص المقاتل الأجنبي من تلك المنطقة كما ذكرنا، ومرتبطة بوضع المنطقة الأمني المرتكس، للإشارة إلى أن لعبة المقاتلين الأجانب، التي توسّلتها واشنطن في أفغانستان في الثمانينيات، أصبحت بيد روسيا، وأن حيزا لا بأس به من أمن الشرق الأوسط يمكن التلاعب به من قبل الروس من هذا الجانب، وربما يحمل الإعلان الروسي رسالة مفادها أن على الولايات المتحدة التفكير بجدية في التفاوض مع روسيا والتخفيف من التصعيد في الملف الأوكراني قبل أن نشهد اضطراما أمنيا في جنوب المنطقة الأوراسية، مشابه لما يدور في أوكرانيا".
وأكد سنو أنه ثمة سيناريوهات معقدة قد تفرزها الحرب الأوكرانية تؤثر على أمن الدول العربية، ومنها ما ذكرناه حول لعبة المقاتلين الأجانب، التي يمكن أن توظفها روسيا. لكن بشكلها الحالي، لا تؤثر هذه الحرب الأوكرانية بشكل مباشر على أمن الدول العربية. ومع ذلك، كان لدى الدول العربية مواقف داعمة للتوصل لوقف إطلاق النار واعتماد الحوار وسيلة لإيجاد الحلول. كما أن الدول العربية وجدت في الحرب الأوكرانية فرصة لإبراز موقف يختلف عن موقف الولايات المتحدة. قد يصف بعض الخبراء هذه المواقف بالتحوّط، لكنني أميل إلى وصفها بـ"دبلوماسية النفوذ المرن"، والفرق أن التحوّط سلبي وفيه شيء من الحيادية، بينما "دبلوماسية النفوذ المرن" إيجابية ودينامية بقدر مساو لزخم الملفات المستجدة محل المعالجة. لقد قالت الدول العربية "لا" لواشنطن في الوقت الذي قالت نعم للحل الدبلوماسي، أي أنها لم تقف على الحياد ابتداء، بل دعت إلى إيجاد الحلول للأزمة. وقد يكون من مخرجات هذه السياسة محاولة الأميركيين استمالة الدول العربية لاعتماد الموقف الغربي، وبخاصة مع زيارة بايدن المرتقبة إلى المنطقة".